أرشيف المقالات

رسالة الفن

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 بواطن وظواهر عندنا فنانون.

ولكن! للأستاذ عزيز أحمد فهمي 3 - من النقاد الأستاذ بيرم التونسي: كل ما يكتبه رائع، ولكن أروع ما يكتبه هو النقد، وقد كنت أقرأ للأستاذ بيرم فأحسبه كتبه بعد كراهية عقلية لما ينقده، واقتناع فكري أو خيالي بأن هذا الأمر الذي ينقده قائم على أخطاء يجب أن تزال حتى لا ينهض عليها من الأخطاء ما سيتدعي النقد.
فلما لقيت الأستاذ بيرم رأيت فيه أنه يكره بقلبه كراهية التحريم كل هذه الأمور والشخوص التي ينقدها، وقد يعلم القارئ أن كثيراً جداً من نقد بيرم منصب على الرجال الذين يسميهم (خناشير) تذكيراً بغيضاً بخشونتهم وتبشيعاً لها وانتصاراً منها لرقة الأنوثة ودلالها.

قد يعلم القارئ هذا.

فهل يعلم القارئ أني رأيت الرجل هكذا حقاً يكره الرجال ويستثقل ظلهم ولا يكاد يطيق صحبتهم، ويمقت من يقول إن فيهم حسناً وإن في عشرتهم راحة.
وهو لذلك يفر من الناس فراراً ويستخفي في الشارب العامة في زواياها على نواصي الشوارع المائجة ويجلس مغمض العينين ولكنه يرى.

وهو يرى من ثقب في إحدى عينيه - لعلها اليمنى - ولا أدري كيف انثقب وإن كنت أراه تجويفاً استدار في ملتقى الجفنين منهما فراغ هو نصف الدائرة.

وكلما مر في الطريق رجال هرب الأستاذ بإنسان عينه من وراء الثقب فلم يرهم، فإذا مر في الطريق غير الرجال تألق الإنسان من وراء الثقب وارتعد ومن هذا الثقب يرى الأستاذ بيرم كل شئ، ولعل هذا هو السر في أنه يرى أبعد وأعمق مما يرى الناس، فهو كعدسة الميكروسكوب تجمع الأشعة للعين في مستقيم واحد حيزه مجموع وهدفه دقيق.
وكما أن بصر الأستاذ بيرم مكرسكوب، فإن بصيرته ميكروسكوب أيضاً.

فضاح يغيب عنه إلا ما يشاء الله أن يخفيه وإذا شاء الله أن يخفي على الأستاذ بيرم شيئاً حفز فيه قوة انتباهه، فيستيقظ في نفسه سوء الظن بما يسمع ويرى، فيخطئ الحكم.

وسبحان الذي لا يغفل ولا يخطئ. الأستاذ محمد الههياوي: أعوذ بالله من غضب الله ومن غضبه.
هو صاحب القلم الذي كان سعد زغلول ينتظر قوله فيه أسبوعاً بعد أسبوع، ليطمئن على كيانه أسبوعاً بعد أسبوع.
فكما كان سعد أزهرياً فناناً عبقرياً؛ فالأستاذ الههياوي أزهري فنان عبقري، كانت وقفاته من سعد كوقفات سعد، وكانت كلماته في سعد من الرواج مثل كلمات سعد؛ فلعله كان أشد الناس حزناً على وفاة سعد، إذ فقد الههياوي بوفاته قريعه وضريبه الذي كان يستنبع من زعامته مادة فنه، والذي كان يستخلص بالبراعة والحدة من كلامه وفعاله أهدافاً لهجومه ونقده.
بل لعله كان أشد الناس حباً لسعد وقتما كان يبدو للناس أنه أشد الناس مضياً في خصومته وعداوته، فأنا لا أستطيع أن أتصور فناناً عبقرياً يمقت فناناً عبقرياً، والنبي كان يطلب للإسلام أن يعزه الله بعمر، فلم يكن سعد أيضاً يكره ناقده. الدكتور طه: ويا لطول شقائي بالدكتور طه! الناقد الجبار الذي لم يستطع أن ينقذني أنا! كنت أنقش وأنا في العباسية الثانوية على أركان كراساتي وكتبي أربعة أسماء.

نقشتها على كل كراسة وعلى كل كتاب هي: (مصر.
سعد.
طه حسين.
سيد درويش)
وكان أساتذة اللغة العربية في العباسية الثانوية ينهونني عن الدكتور طه والكفر، فكنت أثور وأعرض نفسي لسخطهم وعقابهم ما لم تنقذني شفاعة من أحد الأساتذة الثلاثة المستنيرين الذين يحبون معي الدكتور طه وهم: محمود مرعي، ومصطفى السقا، وأحمد الشايب.
وسماني زملائي في الثانوية باسمه من فرط ما كنت أقلده في تفكيره وأسلوبه.
وأحسب نفسي لا أزال إلى اليوم مطبوعاً بطابعه.
ولما كنت في كلية الآداب كنت أضع على عيني منظاراً أسود إمعاناً مني في (الطحسنة).
وفي معهد التربية كان زملائي وبعض أساتذتي يجلسونني إليهم ويطلبون مني أن أحدثهم أي حديث وأنا الدكتور طه.

وعندما كان الأستاذ الههياوي مشرفاً علي في أول عهدي بالكتابة كان يقول لي: إني أخاف عليك أن تكون نسخة ممسوخة من الدكتور طه.
وعاب علي الأستاذ الزيات يوماً أنني أفقد توازني أحياناً فيما أكتب للرسالة فأضمحل وأذوب ويتبلور من بقاياي بعد ذلك طيف من الدكتور طه يكتب هو ويقول ما يريد والدكتور طه الذي غزاني هذا الغزو لا أدري كيف لم يشعر بي، وكيف لم يعطني من نفسه ولو عشر ما احتل من نفسي.

كلما أقبلت عليه صدني، وكل ما قيل له عني فيه صدقه.

وإلا فأي شئ كان يبغضه فيّ.

لقد كان من أثر ذلك أني تابعته بالذي تعلمته منه.

الصد بهجر، والنكران بخدش وأين أنا من أستاذي الذي إذا كره أمراً حرض الناس عليه حتى إذا رآهم أجمعوا على كراهيته معه، عاد هو فكره أن يكون معهم في إجماعهم فراح يعلن حبه لهذا الأمر ويحرض للناس على حبه حتى يعودوا إلى حبه معه، فيعود هو فيكرهه ويحرضهم على كراهيته.

وهكذا 4 - من الفلاسفة لطفي السيد باشا: هذا الفيلسوف شرد عن نفسه بالفلسفة فلا هو يعرف أنه يعيش في مصر وإنما هو يحسب أنه يعيش في أثينا، ولا هو يعرف أن الزمن دار ودار حتى وصل التاريخ إلى القرن العشرين بعد الميلاد وإنما هو يحسب أن العصر لا يزال عصر سقراط وأرسطو رشح نفسه يوماً لانتخاب الجمعية التشريعية وقال للناخبين إنه رجل ديمقراطي.
فسمع بذلك منافسه الفلاح فقال للناخبين: وأنا رجل مسلم.
فسأل الناخبون منافس الباشا: وهل الديمقراطي غير المسلم فقال لهم: الديمقراطي كالماسوني، مبادئه الإخاء والمساواة بين المسلمين والنصارى واليهود، والرجل والمرأة، والسيد والخادم والكبير والصغير، والعالم والجاهل، والقادر والعاجز، والسليم والأجرب.

وغير ذلك وذلك أنه يمنح لكل إنسان أن يكون حراً في حدود القانون، فالذي لا يصلي حر، والذي لا يصوم حر، والذي يسكر حر، والذي يفعل ويفعل حر مادام القانون محفوظاً لم يمس.

وقانوننا في الأصل فرنساوي وزار لطفي السيد باشا دائرته الانتخابية، فسأله الناخبون: هل حقاً أنت ديمقراطي؟ فقال لهم: نعم.
فسألوه: أمساواة وإخاء وحرية كالماسون؟ فقال لهم تماماً ولا فرق! فسألوه: والمسلم كالمجوسي؟ فقال لهم: سواء بسواء! فسألوه: والمرأة كالرجل، والسكران كالصاحي؟ فقال لهم: أمام القانون لا كبير ولا صغير.
.
والسكران ما لم يؤذ أحداً حر في نفسه.

فقالوا له: عال.

إن فلاناً يتهاون في الصلاة فلا يؤديها فقال لهم: هو حر.

فقالوا له: إنا نعوذ بالله من (ديمقراطكم).
.
لكم دينكم ولنا دين!.
وفاز الفلاح منافس الفيلسوف في الانتخاب.
أما الفيلسوف المفكر فإنه لم يفز، وكان عيبه عند ناخبيه أنه ديمقراطي! فهل الذي لا يعرف كيف يتفاهم مع ناخبيه فيلسوف؟ إنه فيلسوف ولكنه لا يعيش في هذا البلد ولا في هذا العصر الأستاذ شهاب: هو عبد السلام بن حسنين بن شهاب بن أبي شامة البشبيشي، واصل الدراسة في الأزهر الشريف حتى أشرف على امتحان العالمية فتكاسل عنه.
والتحق بفرقة تمثيلية يؤلف لها الأغاني والأناشيد وكان جمهور هذه الفرقة خليطاً من الناس ذوي المشارب المتباينة والأذواق المختلفة، فكانوا جميعاً يجودون ما يرضون عنه فيما كانوا يسمعون.
ثم شارك حلاقاً في صالون، لعبا برأس ماله في (اليانصيب) فلم تصبهما ثروة، فالتقطه واحد من أصحاب المجلات الأسبوعية كان يدير تجارة إلى جانب المجلة فعمل الأستاذ شهاب في تجارة وفي المجلة حتى رأى صاحبه يسلمه يوماً لواحد آخر من أصحاب المجلات الأسبوعية، ولم يعلم أنه باعه له المال إلا بعد زمن طويل، وانتقل من المجلة القديمة إلى المجلة الجديدة يكتب فيها شعراً وزجلاً ونثراً مما يعيه الشعب ويفهمه ويتلذذ به وهو ماكث في (الإدارة) لا يخرج منها، ويعمل ويأكل وينام على المكتب.

ثم طرأ له أن يخرج يوماً فخرج وغاب فلم يعد، فدار صاحب المجلة يبحث عنه في الأقسام والمستشفيات وهو متلهف عليه يقول: يا عالم إنه لا يعرف الطرق ولا الشوارع ولكنه كان قد عرف الطرق والشوارع ومن بينها شارع الأمير قدادار، وهو الطريق إلى دار الهلال التي يعمل فيها الآن محرراً لإحدى المجلات التي تصدرها، يكتبها بعد أن يجمع له المندوبون معلوماتهم، ومن أولها إلى آخرها وهو أزهد من رأيت في الجاه والشهرة، وأقدر من رأيت في الحكم على النفوس، وأقوى من رأيت في إقامة الحق إذا أراد إقامته، وفي إزهاقه إذا أراد إزهاقه، وأشد من رأيت استسهالاً للعبث بعقول الناس، فهو يبدأ يقص عليك القصة، فلا تلبث بعد أن يقطع معك مرحلة طويلة فيها أن تفيق فتجد نفسك قد سمعت كلاماً كثيراً مرتبطة أجزاؤه بعضها إلى بعض، ولكنه ذاهب إلى حيث لا تدري؛ فإذا أحببت أن تعود أدراجك إلى بدايته لم تعرف كيف تروح معه ولا كيف تجئ يشترط عليه الأستاذ إميل بك زيدان إذا أراد أن يحادثه في أمر أن يمتنع عن مناقشته فيه، لا لشيء، إلا لأنه جرب مرات ومرات أن مناقشة الأستاذ شهاب تنتهي عادة بأن تقر دار الهلال نقيض ما تريده، وما تكون قد أعدت العدة له من آرائه أن مصر ستظل هكذا في انتظار زعيم لابد أن يكون دينياً، وأن اللحم سيد الطعام، وأن أسعد الناس هم سكان التكايا؛ وأن الأستاذ محمود حسن إسماعيل شاعر قبطي بدليل الرهبان والصلبان والأجراس التي ترن في شعره كثيراً، وأن طلبة كلية التجارة يجب عليهم أن يقضوا مدة التمرين في المذبح وعند أبي ظريفة وغيره من تجار الفول، على أن لا تزيد مدة التمرين هذه على ثلاثة شهور يعطى الطلبة بعدها دبلوم التجارة ليغزوا هذين الميدانين من ميادين التجارة القومية الرابحة ربحاً مؤكداً ومركباً أيضاً؛ وغير ذلك له آراء كثيرة كم اختلستها منه نشرتها منسوبة إليه في (الرسالة)، فأعجبت من قرأها حفني محمود بك: هو أيضاً عجيب في تفهمه للناس وإدراك تكوينهم النفساني وهو يثأر للناس بعلمه هذا من الأشرار الذين يفتكون بهم.
ولا تأخذ عند هذا الثأر رحمة ولا شفقة، وجمهور من الناس يحسبون (حفني بك) مهذاراً ماجناً، وهم يروون حوادثه على أنها نوع من العبث والمزاح، وقد اصطنع بعض المتظرفين أسلوبه في السخرية من الناس، ولكنهم لم يحرصوا على ما يحرص عليه هو وهو أن ترمي كل نكتة من نكاته إلى معنى حق، وأنه لا يمكن أن يصيب بمزاحه ضعيفاً أو مسالماً، وأنه لا يؤذي به إلا من هو جدير بالأذى.
كان غني من أغنيائنا في أوربا في شهر يوليو.
وهذا الغني صاحب ذمة واسعة تقدم منه حفني بك وهو في بار اللواء وقدم إليه ورقة من ذوات الخمسة الجنيهات وهو يقول له: أشكرك كل الشكر يا سعادة البك.
هذه وهي الجنيهات الخمسة التي أقرضتني إياها في عيد فرنسا في كازينو سان استفانو.
فقبل الغني الورقة وهو يقول: العفو العفو!.

من غير أن يفكر في أن عيد فرنسا لا يكون إلا في 14 يوليو، وأنه كان في أوربا في ذلك الوقت، فلم يكن من الممكن أن يلقى حفني بك في سان استفانو ولا أن يقرضه شيئاً.
تلك كانت ضربة قضى بها حفني بك على المسكين من غير شك.

ولكن أليس هذا المسكين جديراً بهذه الضربة.

إنه على أي حال لم يتألم منها ولم يشك وجعها.
فنفس كهذه لا يقتلها السم إذا نقع معه قرش لا جنيهات خمسة الأستاذ محمود بسيوني: صاحب البطاقة السهلة التي يستطيع أن ينالها منه كل قاصد تقديماً وتوصيةً.
وصاحب الصدر الرحب الذي يفتحه لكل من يريد أن يرتمي في أحضانه.
ولكن كم من الناس يستطيع أن يقول إن بطاقة بسيوني بك نفعته أوأن وساطته قضت له حاجة؟ هذا رجل كاهن.
استطاع أن ينجح في المحاماة إلى أبعد حدود النجاح لأنه استطاع أن يتغلغل ي نفوس الفلاحين إلى أبعد حدود التغلغل.

رآهم يحبون الرجل الطيب فكان أطيب رجل، ورآهم يأمنون الرجل الصالح فكان أصلح رجل رأيته يوماً يدخل بنك مصر ومعه عميل من الريف، فلم يصعد به السلم إلى المكتب الذي كانا يقصدانه، وإنما طاف به في بهو (البنك) طوفة متأنية متريثة، أخذت أعصاب الرجل الريفي تتفكك فيها وتنحل رويداً رويداً من أثر الروعة التي كانت تشع عليه من جدران البنك.

فلما تم له هذا أخذه وصعد به إلى حيث كانا يقصدان؛ وقد آمن الرجل إيماناً بأن بنك مصر هو خير من ألف بنك وهذه من غير شك أطيب دعاية وأكرم خدمة يؤديها محام وطني لعميله الوطني وللبنك الوطني ولإحساسه الوطني أيضاً.
عزيز أحمد فهمي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١