أرشيف المقالات

الأدب في أسبوع

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 العيد أيتها الأيام السعيدة الهاربة من عمل الدنيا ببراءتها من الشقاء، أيتها الأيام الصغيرة المتلألئة في ظلام الزمن بأفراح السعادة، أيتها الأيام الذاهلة عن معاني الآلام! أنت هكذا أبداً، وهكذا أبداً تعودين.
ولكن هل تستطيعين أن تمنحي الناس جميعاً بعض سعادتك وأفراحك ولذاتك البريئة؟ هل تستطيعين أن تمنحي العقول المتغضّنة من الهم والكبَر أفكاراً غضّة ناعمة كأحلام العذارى؟ الحرب كانت أيام العيد هدنة سكنت فيها الأخبار المحاربة بمعانيها في أذهان الناس وعواطفهم؛ وانقطعت الصحف الأخبارية أياماً عن الظهور، فانقطع أكثر الحديث عن الحرب المخيفة بأوهامها قبل حقائقها، وهدأ الناس أذكرتني هذه الأيام المسالمة بتأثير الحرب في الأدب، وحملت إليّ صوراً كثيرة مما قرأت في الصحف والمجلات الأدبية، ولا أدري، فيخيل إلي أن المجلات الأدبية منذ بدأت الحرب إلى اليوم قد أفرغت كثيراً من صفحاتها للحرب، وشرحت صدرها لكثير مما يتعلق بها، ومع ذلك لا أكاد أجد إلا القليل من هذه الأحاديث يصلح أن يكون من أغراض المجلات الأدبية، وإنما هو بأغراض الصحف اليومية الإخبارية أليق والصق.
ومن الوهم المتفشي أن يدّعي مدع أن اثر الحرب لا بد أن يكون كذلك، وأن مثل هذه الأحاديث هي سمة الحرب على أدب الأدباء، فإن أثرها في فكر العامة لا يكاد يخرج عن مثل ذلك.
أما أثرها على الأدباء فهو اشد تغلغلاً في طوايا النفس، وأشد هزاً لعواطف الإنسانية.
فإذا أقررنا أن الحرب إنما تتدافع في صدور الأدباء والشعراء ورجال الفن لتكون كالتيار الذي يتدافع بالبحر فينشئ له الأمواج المتصارعة المتدفقة مخافة أن يركد فيأسن، لم نجد بدّاً من اعتبارها كالمدد للمعاني الخائفة التي تنزوي في كهوف النفس الإنسانية السامية الطامحة، تجرؤها وتذمرها وتؤلبها من هنا وهنا لتتعارف وتتساند وتندفع إلى غمارها مجدة إلى المثل الأعلى الذي هو أحلام النفوس الرفيعة الدائبة أبداً إلى الأغراض النبيلة فإذا كان كذلك، فأثر الحرب إنما هو تنبيه للمعاني والأغراض التي تحيك في صدور الأدباء والشعراء، وتطريق للمسالك الغامضة التي راد منهم أن يمهدوها ويكونوا إدلاء للناس في مجاهلها ومنكراتها.
إن الصحف اليومية الأخبارية عليها أن تمد الناس بأخبار الحرب وصفاتها وصفات بلادها المتحاربة، وعواقبها الدانية أو البعيدة لأحداثها، ولكن مهمة الأدباء الذين يمارسون تحرير المجلات الأدبية أن يتعقبوا معاني أسمى من هذه المعاني المبتذلة التي توضَعُ عن أفكار الناس حين تضع الحرب أوزارها؛ عليهم أن يسبقوا أحداث الحرب بتمهيد جديد إلى حياة أخرى تبرأ من الغرائز الدنيئة التي دفعت العالم إلى هذا الشر البغيض الذي لا غرض له إلا استبداد السلطان، واستعباد الناس بعضهم لبعض.
وإذن فهم - لا بد - يبحثون عن العلل والأمراض التي داخلت المدنية الحديثة، فجعلت قوة الافتراس فيها هي الأصل الذي بنيت عليه عقائدها وأعمالها، غير متحيزين إلى فئة بعينها.
فإن الأسلحة المشرعة الآن في جميع الصفوف لن تعرف بعدُ معنىً إلا معنى الحرب وحدها بوحشيتها وجوعها وقرمها.

لن تعرف إلا الدَّم وشهوة الدم، وتنقرض العواطف الرقيقة التي تملأ النفس ورعاً وتقوى وحناناً.
وإذا استبان لهم مكنون هذه العلل استطاعوا أن يمهدوا السبيل للحياة الجديدة المبرأة من أسبابها الباغية، فمنعونا شرها ثم شر الآثار والعواقب التي تأبى شياطين الحرب إلا أن تزينها للباقين والناجين من أحلامها. هذا هو عمل الأدباء والشعراء على الاختصار والإجمال.
أما أن يتوهم متوهم أن أثر الحرب إنما يكون إذ يلوك أخبارها وأحداثها ويمضغها في لفظه وعبارته مضغ الكلأ، فذلك شيء لا يقع عليه إلا عقل العامة الذين لا ينفذون في المعاني إلا على الوهن والضعف والفساد.
إن أفكار الأدباء التي تسموا بألفاظها ومعانيها سمو الروح بين خوافق السماء، وإن أحلام الشعراء التي تختال في زينتها رقيقة ناعمة أو ثائرة متفجرة - هي أحبُ إلى نفوس الناس في زمن الحرب، لأنها تنفيس عنهم من كرب الحروب، وإخراج لهم من حمأة الدم الذي ينشر رائحته مع كل نَفَس، ثم هي التمهيد الصحيح لتهذيب النفس الإنسانية وتربيتها والتسامي بها عن المعنى الحيواني الضاري الذي تنشئه الحروب في مهد من الأشلاء والدم العقل المصري!! كتب الأستاذ (محمود المنجوري) كلمة في السياسة الأسبوعية (155) يريد أن يكشف بها عن (طبيعة العقل المصري، ومدى تأثرها بالانقلابات) الاجتماعية أو السياسية أو الدينية.
وساق حديثه فيها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية.
ونحن نتجاوز عن بعض الخطأ الذي وقع الأستاذ فيه عصبية للعقل المصري كما يسميه، كدعواه أن إنشاء الأزهر كان نتيجة للأسباب الفكرية والاجتماعية والروحية - التي نشأت في مصر فيما يرى - فأريد إقامة الدعوة الفكرية المتميزة عن صواحباتها في سائر العالم الإسلامي بإنشاء هذا المعهد العلمي العظيم.
ولا شك في أن هذا تأويل غير جيد لحقائق التاريخ، فإن الفاطميين هم أنشئوا هذا المسجد الجامع الأول فتحهم لمصر، ولم يكن للعقل المصري إذ ذلك كبير شأن ولا صغيره في دفع الفاتحين إلى إقامة هذه العمارة في مصر، وإنشاء الأزهر كان لغرض في نفس الفاطميين أصابوه أو أخطأوه.

فليس ذلك من شأننا هنا وأيضاً فأنا إلى اليوم لا أكاد أعرف شيئاً يمكن أن يسمى (العقل المصري) أو (العقل الإنجليزي) أو (العقل الفرنسي) وهلم جراً، حتى يوضع في كفة وحده أعدت له في موازين العقول، وليس قيام المدنيات بأجزائها على (العقل) حتى يمكن أن يقال إن العقل المصري هو استطاع أن يبقى خالداً والمدنيات من حوله تفني وتبيد.
حقاً إن مصر - وغير مصر من الأمم التي كانت منزلاً لمدنيات كثيرة متباينة - قد احتفظت مع هذه المدنيات بأشياء امتازت بها، ولكن هذه الأشياء المميزة لم يكن مَرَّدُ أكثرها إلى العقل بل كان مردها إلى الطبائع التي أنشأتها إرادة الإقليم المسيطرة على الطبائع الإنسانية، وإلى العادات المتوازنة التي لم تقاومها هذه المدنيات مقاومة الحرب والإبادة، فلذلك بقيت هذه المميزات قائمة سائرة متعارفة، فيخيل لبعض من لم يَغُرْ إلى أعماق هذه المخلفات أنها ظواهر عقلية مع أن الحق غير ذلك ونحن نجد الجنس من الناس ينزل أرضاً غير أرض، فما يمضي الجيل أو الجيلان حتى تفنى المميزات الجنسية في نسلهم من أبنائهم وأحفادهم، ويبدأ الوطن الجديد بطبيعته المستبدة في تحويل هذا النسل إلى طبائعه التي تلائم تربته وسماءه وجوه وحاجات سكانه، فكذلك المدنيات إذا نزلت أرضاً خضعت لما يخضع له الإنسان الحي المتحدر من أصلاب قوم غير سكانه الأوائل، وجعلت تتميز بضرورات الإقليم الطبيعية ولماذا يريد كثير من الكتاب أن يجعلوا عقول أممهم بدعْاً في العقل الإنساني؟ لا أدري؛ وما يكاد يدري أحد من هؤلاء ما هو العقل، وكيف يتميز في الإنسان، أو كيف يتبين في الأفكار أو المدنيات مكان العقل من مكان غيره من الغرائز والطبائع والدوافع وما إلى ذلك من الأشياء التي تشترك في نتاج الفرد ثم في إنشاء المدنيات الاجتماعية؟ ولو استطاعوا لأبانوا لنا - على كثرة ما يقولون - عن موضع واحد يقولون فيه هذا (صنع العقل) الفلانة.
إن العقل المصري كغيره من العقول يقبل كل شيء، ولكن طبائع الإقليم تريد أشياء وتنفي أشياء لأنها لا تستطيع البقاء في سلطانها.
إن جوهر الأشياء كلها لا يتغير في العقل بعد العقل، ولكن الأعراض هي التي يصيبها التبدُّل والتغيير لأنه من طبيعتها أول، ولأن العقل لا يعمل فيها عملاً إلا للتدبير والتصريف وحسب وقد عَرض الأستاذ (المنجوري) في مقاله هذا إلى عهد الاحتلال وما صنعت سياسته في أخلاق مصر وتعليمها، وكيف حطم بجوره وعدوانه كل الصلات القوية التي يعتمد عليها ترابط الكيان الاجتماعي؛ فتمزقت الجهود المصرية في الإصلاح، واستبدت الشهوات الجارفة بأخلاق الطبقات كلها، ففشل الاجتماع المصري في إرادته، وقام على أساس فاسد من الأخلاق حتى صار أكثر ما نرمي إليه غرضاً فردياً لا قيمة له في البناء الاجتماعي، ومن هنا استبد المستبد وصارت السيطرة الفردية في كل أعمالنا هي المبدأ، فلم يقم بيننا التعاون على أساس صحيح، وكذلك تنازعت الشهوات أعمالنا فصار الآخر بأنانيته يريد هدم عمل الأول لينفرد بأحدوثته وصيته، كالذي رأيناه في الحكومات الكثيرة التي تعاقبت على الدولة المصرية فشرعت ووعدت وبدأت وسارت؛ ثم جاءت أختها من بعدها لتقف كل ذلك وتبدأ من جديد بلجانها وتقريراتها واقتراحاتها، تريد أن تخالف وأن تنشئ وان توجد؛ ثم هكذا دواليك حتى غدت وعود الحكومات عند المصريين خاصة والشرقيين عامة إلى مثل التي يقول فيها كثَير عزَّة: تمتع بها ما ساعفتك، ولا تكن ...
عليك شجى في الصدر حين تبينُ وإن هي أعطتك الليان، فإنها ...
لآخرَ من خُلانها ستلين وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ...
فليس لمخضوب البنان يمين فهذه أمراض وأوبئة لا تزال تنتشر، ولا بد من مكافحتها مكافحة صارمة بغير هوادة.
فهل في الذين يصير إليهم السلطان الوازع العامل من يستطيع أن يتجرد لمكافحة هذه الأوبئة، ولو كان في كفاحها كفاح لنفسه وشهواته وأغراضه؟ هل تجد مصر أخيراً طبيبها المغامر؟ ليتها تجد.
المنطلق قرأت في العدد 341 من (الرسالة) أغنية - أو هكذا سماها صديقنا - بعنوان (الناي).
قال الأستاذ بشر فارس: وهي على بحرين مختلفين رغبة في تنويع مجرى النغم، والبحر الأول وضعه الشاعر، وأجزاؤه: (فاعلاتن مفاعلتن) مرتين وليكن اسمه (المنطلق) انتهى. وصديقنا بشر شخصية جوالة في معاني الدعة والرقة واللطف والظرف والابتسام والمرح، وسائر هذه الكلمات الراقصة بألفاظها قبل معانيها.
وهو كالبحر الذي زعم انه اخترعه وسماه (المنطلق).

فهو منطلق في كل أشياء الحياة بأحلام كأحلام الليل جميلة هادئة ساكنة.

ولكن إذا فجئها النهار تطاردت له هاربة وقد تركت آثارها أخاديد نديّة كذكريات الحبيب الهاجر في قلب العاشق.
وهذا البحر (المنطلق) كما يسميه، قد أرسله على مثل هذه الأبيات: (جنَّبوا الناي عن أُذني ...
أُذُني زلزلتْ طَربَا مثلَ قلب تُحَدِّثهُ ...
سرَّه السرْدُ فاضطرَبا)
وقد زعم (بشرٌ) أنه وضعه، ونحن نُسلم لبشر ما يقول، ولكن أصحاب العروض هم أبداً كبحورهم لا يهدءون، فقد زعموا أن الأخفش قد تدارك على الخليل بحراً سموه (الشقيق) يزعمونه أخا (المتقارب)، وسموه المحدث والمخترع والخبب إلى غير ذلك وعرف عندنا باسم (المتدارك) - أي الذي تداركه الأخفش على الخليل بن أحمد - وأصل تفاعيله عندهم: (فاعلن، فاعلن، فاعلن، فاعلن) مكررة، وله عروضان تامة ومجزوءة، فالعروض المجزوءة هي: (فاعلن، فاعلن، فاعلن) مكررة. وهذه العروض المجزوءة من بحر المتدارك، هي زنَةُ شعر بشر قد دخلها من رفّته ما جعلها تتأود عند قوافيها لتستريح؛ فالبحر ليس إذن (منطلقاً)، ولكنه (خليع المتدارك). وسائر أبيات القصيدة في قوله مثلاً: (أوتار الخاطر تغمزها ...
أَنَّاتُ الناي فترتجف)
هي أيضاً من عروض المتدارك التامة دخلها التشعيث والخبن كقول ابن حمديس (صادَتك مَهاةٌ لم تُصَدِ ...
فلواحظُها شركُ الأسَدِ من توحي السِّحر بناظرة ...
لا تنفثُ منه في العُقد)
هذا في مخترع (بشر) ولكن ما بال هذا الصديق يريد أن يزلزل أذنه، ونحن لم نفرغ بعد من حديث الزلازل التي هدمت ما هدمت في الأناضول.
لماذا أيها الصديق؟ ولماذا تريدنا أن نشعر أن أذنك وحدها - دون سائرك - هي التي تطرب، ولا يكون طربها إلا زلزلة كفى.

كفى، فإني إذا نقدت (بشراً) فلن أجد الراحة بعد؛ وإن كنت أضن أني لم أفهم الشعر كله جيداً.

فلعله شعر جديد، والجديد على من بدأ الشيب يغزوه يبليه ويخيفه فينتشر عليه فهمه فلا يفهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
محمود محمد شاكر

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢