أرشيف المقالات

رسالة العلم

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 أرقام تتحدث وتنبئنا عن قصة الإلكترون للدكتور محمد محمود غالي - 1 - لم يتطرق إلى ذهني أي وهن يمنعني عن متابعة الكتابة لقارئ (الرسالة) الذي وعدته المرة بعد المرة بأني منبئه بقصة الوجود، مطلعه قدر المستطاع على حلقة التفكير الإنساني في أحدث صوره، مستعرض أمامه مبلغ ما وصل إليه من السمو، مطلعه على الطفرة التي بلغتها العلوم الطبيعية والذروة التي ارتقى إليها العلم التجريبي محدثه في الأسباب التي دعت العلماء إلى الأخذ بفكرة معينة والإعراض عن أخرى.
ولكن تطرق إلى جسمي نوع من الوصب ظننته بادئ الأمر وصباً دائماً، وحل بهذا التركيب الجسماني مرض عاقني عن الكتابة شهراً، أختل خلاله توازن الجسم ووصل الاختلال إلى العينين، فغير المرض فيهما معامل الانكسار ومنعني هذا عن المطالعة وأبعدني عن الكتابة.
ولم تكن مقالاتي بالتي أستطيع أن أمليها على أحد، فأستطيع الاستمرار في الكتابة، إنما من الضروري مراجعة بعض المصنفات والاطلاع على بعض الجداول، نتاج البحث التجريبي وعماد الفلسفة الحديثة.
وكان من اللازم تصفح عدد من النشرات العلمية لأستطيع أن أكون للقارئ هيكل موضوعاتي وأحدد معه مجمل مقصدي وهكذا شاءت الظروف أن أحتجب عن الكتابة على غير إرادتي، وأبتعد عن القراءة على غير رغبتي، ولكن الاختلال أخذ طريقه في الزوال، والمرض بدأ يتضاءل، والعينين بدأتا عملهما كسابق عهدي بهما، فكان أول همي أن أتصل بالقارئ وأول أغراضي أن أتم له حديثي وليكن ذلك من حيث انتهينا آخر مرة.
حدثنا القارئ عن الإلكترون الوحدة المكونة للكهرباء، هذه الشخصية التي هي أصغر ما نعرف في المادة يعتبرها فريق من العلماء جسيما ضئيلاً ويعتبرها البعض الآخر اتحاداً بين جسيم صغير وموجة مستصحبة لها.
ووصفنا التجارب الشهيرة التي قام بها مليكان في خريف سنة 1909 التي استطاع بها أن يقيس شحنة الإلكترون، هذه التجارب التي فصل فيها هذا العالم جسيماً حاملاً إلكتروناً حراً واحداً، وقد وضعنا جهاز مليكان وشكله في مقال سابق، ويتكون من بخاخة تنشر رذاذاً رفيعاً من الزيت في غرفة عليا يسقط فيها هذا الرذاذ ويمر بعد سقوطه في غرفة سفلي فضاؤه صغير يبلغ ارتفاعه 15 ملليمتراً وواقع بين كفتي مكثف كهربائي.
هذا الرذاذ مكهرب بسبب احتكاك جسيماته بعضها ببعض بحيث أن كل جسيم منه يحمل فريقاً من الشحنات الكهربائية بعضها سالب وبعضها موجب، ويمكن كهربة هذه الجسيمات بتسليط أشعة راديومية عليها تخترق الغرفة التي تحويها فتكسب هذه الجسيمات شحنات كهربائية، وترى هذه الجسيمات الميكرسكوبية بتسليط حزمة ضوئية عليها بشرط أن نراها في اتجاه عمودي على مسار الحزمة، عندئذ تبدوا كالكواكب اللامعة في فضاء الغرفة الصغيرة ولا يجوز أن يختلط الأمر على القارئ فيظن أن هذه الجسيمات المتناهية في الصغر هي الإلكترونات التي نتحدث عنها ويعتقد بهذا أن مليكان رأى الإلكترون، والواقع أن هذه الجسيمات مهما صغرت كبيرة بنسبة الإلكترون، فهي عليها كالإنسان على الأرض أو كمخلوق على كوكب المريخ - إننا نستطيع في الليل أن نرى المريخ ينتقل في أبراجه السماوية ونتحقق بالمنظار من دورانه حول نفسه، ودورانه حول الشمس، ونرى ما يحيط به من سحب وما يعلوه من جبال ويكتنفه من هضاب ووديان، ولكننا لا نستطيع بما أوتينا اليوم من علم أن نرى رأى العين ما قد يعيش من حيوان أو نبات - كذلك الحال في تجارب مليكان.
رأى جسيماً يحمل إلكتروناً أو بضعة إلكترونات أو عدداً عديداً منها، وكان على ثقة في كل حالة من وجود الإلكترونات على هذا الجسيم المضيء السابح في جو الغرفة الصغيرة كما يسبح المريخ حول الشمس وكما تسبح هذه في المجرة وكما تسبح المجرة في الكون المحدود، ولكنه لم يرى الإلكترونات بذاتها على أني أزيد القارئ شرحاً: لو أننا استطعنا يوماً أن نتحقق من وجود مخلوقات في المريخ فلا يتحتم أن نرى هذه المخلوقات لنعرف عددها، ثمة وسائل أخرى يصح أن نجيل فيها النظر فإنه يكفي أن تتبادل هذه المخلوقات معنا رسائل مفهومة يستطيع هؤلاء فيها أن يوافونا بإحصاء عن عددهم، عند ذلك نقول: إن المريخ يسكنه كذا من المخلوقات الأذكياء دون أن نكون في حاجة لنرى أياً منهم. كذلك كان الحال في تجارب مليكان الخالدة التي يجذبني هيكلها الرائع منذ تجولت فيه بالمطالعة والدرس والذي أبسطه للقارئ قدر المستطاع - كان في استطاعته أن يرى الجسيم الزيتي المتناهي في الصغر، وكان يعرف عدد ما يحمله من الإلكترونات وهي جسيمات أصغر من الرذاذ المادي كما أن المخلوقات الفرضية في المريخ أصغر بكثير من الكوكب الحامل لها وكان مليكان يعرف عدد ما يحمله الجسيم المضاء من الإلكترونات عدد ما تحمله الأرض من مخلوقات بشرية، وليست ثمة فارق بين معرفتنا هذه ومعرفة مليكان إلا أننا لا نستطيع أن نعرف على وجه التدقيق عدد الأحياء من البشر في لحظة معينة، وتواجهنا في ذلك مصاعب يتفق القارئ معنا فيها، منها أننا لم نكتشف الأرض كلها ومنها أننا لا نستطيع في بعض الشعوب الاعتماد على وسائل الإحصاء الصحيحة بيننا نستطيع أن نعرف على وجه التحقيق عدد المخلوقات الإلكترونية التي يحملها كل جسيم، ولم يتطرق إلى ذلك أي خطأ كيف تسنى لمليكان التحقق من وجود هذه الشخصيات التي لا ترى، هذه المكونات الأولى للخليقة؟ - كيف استوثق من عددها؟ - أمور أحدث عنها القارئ في الأسطر الآتية واحتاج في ذلك إلى بعض الشرح. في باريس محلات للبيع يسمونها أي (أثمان موحدة) تشبهها في لندن محلات أسمها (ولورث) تدخل إليها فتجد فيها كل شيء، تجد جميع الأصناف من المأكولات فتجد الشكولاته كما تجد علب الأناناس والفواكه المحفوظة، كذلك ترى أطباقاً ساخنة للأكل تغنيك وأنت في عجلة عن الغذاء أو العشاء يسمونها (طبق اليوم) وترى أطباقاً باردة تقوم مقام (الساندوتش) وترى الأنواع المختلفة من لعب الأطفال أو أدوات النجارة والبرادة، وفي هذه المحلات توجد الملابس بجانبها الأدوات الكهربائية من مصابيح إلى أجراس وخلافه، وتوجد الأقمشة والأحذية بأنواعها؛ وتوجد أدوات الزينة للسيدات وأدوات الحلاقة للرجال، وطل ما يعوزنا نجده في المحلات من أدوات الحديقة إلى أدوات الحمام من المأكل إلى المشرب إلى كل ما يطرأ على بالنا من الحاجيات، وقد حددوا الأثمان فيها فجميع ما فيها يباع مثلاً بخمسة فرنكات أو بأعداد مضاعفة للخمسة مثل 10 أو 15 أو 25. ثمة غاية لنا من وصف هذه المحلات يراها القارئ فيما بعد، ونكرر القول أن المعاملة في مختلف أقسام هذه المحلات تجري بخمسة فرنكات أو أضعافها، فإذا دخلها في اليوم الواحد ألوف من الجمهور فأننا على ثقة بأن كل شخص أشترى بضاعته بخمسة فرنكات أو بعدد منها، ثمة رجل أشترى بمبلغ 20 فرنكاً وآخر بمبلغ 35 وثالث بخمسة ورابع بمائة أو مائتين ولكنه لا يوجد متردد واحد أشترى بضاعة ثمنها 37 فرنكاً أو 102 من الفرنكات لسبب واحد، ولكنه سبب رئيسي، ذلك أن هذه البضاعة غير موجودة ولا يجوز شراءها بهذا الثمن. ولو أننا الآن عرضنا على أحد الطلبة المبتدئين في الحساب الجدول الأتي من الأثمان المختلفة التي أشتري بها عدداً من الجمهور الباريسي.
10، 35، 45، 5، 105، 80، 60، 75، 65 وسألناه عن العدد الذي يقسم كل هذه الأعداد لأجابنا على الفور 5، ومعنى ذلك أن كل عدد من الأعداد السابقة يقبل القسمة على 5 فالعدد الأول يحوي أثنين منها والثاني 7 والثالث 9 والرابع 1 والخامس 21 الخ.
هذه المسألة البسيطة التي يسميها المعلمون في المدارس القاسم المشترك الأعظم الذي هو 5 في المسألة السابقة، كانت المسألة الوحيدة التي أستنتج منها مليكان شحنة الإلكترون وتثبت من وجود عدد الإلكترونات الحرة المحمولة على كل جسيم كان ينظر إليها في الغرفة الدقيقة السابقة.
وإلى القارئ كيف حدث ذلك: ترك العالم المعروف (مليكان) رذاذ الزيت يسقط في الغرفة الأولى، وتتبع بالميكرسكوب ما يمر من هذه الجسيمات الصغيرة في الغرفة الثانية، وكانت تسقط تحت تأثير جاذبية الأرض كما يسقط كل جسم عليها، وكان يراها كالكواكب تتألق ساقطة جميعها من أعلى إلى أسفل بين كفتي المكثف المكون لسقف وأرض الغرفة الصغيرة الثانية، وكان من الميسور باستعماله ساعة ثوان أن يقيس الزمن الذي يمر على أحد هذه الجسيمات لتقطع مسافة معينة، هي المسافة التي بين شعرتي عدسة المكرسكوب، مسافة تبلغ في تجارب مليكان خمسة مليمترات. على أني ألفت نظر القارئ إلى أن كل جسيم يسقط في الفضاء بعجلة معروفة أي أن سرعته تزداد كلما أقترب من الأرض بمعدل في الزيادة معروف يسمونه (العجلة) بمعنى أننا لو تركنا كرة تسقط من أحد الأدوار العليا في منزل مرتفع فإن سرعة هذه تزداد كلما اجتازت الكرة الأدوار التالية حتى تبلغ أقصاها عند اقترابها من الأرض: أمر آخر يدخل في محل الاعتبار عند سقوط هذه الكرة، ذلك أن للهواء كما لكل سائل مقاومة للأجسام التي تتحرك فيه، وتزداد هذه المقاومة أيضاً كلما ازدادت السرعة بحيث تتعادل بعد فترة معينة هذه القوة المقاومة مع قوة جاذبية الأرض للكرة، عند ذلك تسير الكرة بسرعة منتظمة لتعادل القوتين، ويسمي العلماء هذه المنطقة (المنطقة ذات السرعة المنتظمة) ولقد كانت المنطقة المحددة بامتداد شعرتي الميكرسكوب والعين من هذه المناطق التي تسير فيها الجسيمات بسرعة منتظمة بالنسبة للجسيمات الكروية الصغيرة التي أستعملها مليكان، وقد أعطى (ستوكس) القانون الذي يمكن أن تحسب منه سرعة هذه الكرات من كتلتها أو بالعكس، وهو معادلة تجد في أحد طرفيها ثقل الكرة في السائل وفي الطرف الثاني مقاومة السائل للكرة ويحوي هذا الطرف الثاني سرعة الكرة أيضاً. راقب مليكان سرعة أحد هذه الجسيمات الساقطة والمتناهية في الصغر بملاحظة الوقت الذي يمر على الجسيم لكي يقطع المسافة بين شعرتي الميكرسكوب، عند ذلك أوصل التيار الكهربائي بين كفتي المكثف، وشاهد أن هذا الجسيم الساقط بدأ يرتفع في جو الغرفة الضيقة المحدودة بكفتي المكثف - ذلك لأن الجسيم يحمل عدداً من الإلكترونات كما قدمنا أي أنه مكهرب، وطبيعي أن تجذبه الكفة العليا إليها، لأنها مكهربة من نوع من الكهرباء يختلف عن الكهرباء الموجودة على الجسيم - عند ذلك قطع مليكان المجال الكهربائي الموجود بين الكفتين، وفي هذه اللحظة ذاتها بدأ الجسيم في السقوط مرة أخرى تحت تأثير المجال الأرضي؛ فإذا أوصل التيار الكهربائي عاد الجسيم إلى الصعود وهكذا. وقد لاحظ مليكان أن الوقت الذي يسقط الجسيم فيه المدى الواقع بين الشعرتين واحد لا يتغير - إلا في حدود الخطأ التجريبي - وأن الزمن الذي يمر لكي يصعد الجسيم فيه المدى عينه يتغير من وقت إلى آخر، ويتخذ فترات مختلفة إلا أنها فترات تتكرر دائماً أو تتكرر مثيلاتها؛ وهي كلها مضروبة في عدد واحد يقسمها جميعاً، بمعنى أن يسقط الجسيم مثلاً في 13.
6 من الثانية ولكنه يرتفع دائماً إما في 12.
5 ثانية أو 21.
8 أو 34.
8 أو 84.
5، ومهما أعاد التجربة على الجسيم ذاته فإنه يسقط دائماً تحت تأثير المجال الأرضي في 13 , 6من الثواني، ولكنه يرتفع تحت تأثير مجال كهربائي ثابت في عدد الثواني هو حاصل ضرب عدد معين يقسم الأعداد جميعاً لم يكن هناك إلا فرض واحد لتفسير الحادث الواضح لحركة الجسيم في المجال الأرضي وحركته في المجال الكهربائي، ذلك أن الجسيم يحمل باحتكاكه في الهواء أو بالتأثير الراديومي فيه كميات كهربائية ذات شحنات مختلفة إلا إنها لا يمكن أن تختلف بعضها عن بعض إلا بقدر معلوم (يتبع) محمد محمود غالي دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السربون ليسانس العلوم التعليمية.
لسانس العلوم الحرة.
دبلوم المهندسخانة

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير