أرشيف المقالات

جناية احمد أمين على الأدب العربي

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
8 للدكتور زكي مبارك - 20 - من كلام الحكماء: (نعوذ بالله من الحديث المعاد) وإنما استعاذ الحكماء من الحديث المعاد لأنه شاهد على انعدام القدرة على الابتكار والابتداع والخلق والإنشاء، ولأنه يدل على استهانة المتكلم بأقدار من يخاطب من الرجال، ولأنه يشهد بأن صاحبه قد لا يعني ما يقول وصديقنا القديم الأستاذ أحمد أمين موكل بالحديث المعاد ينقله من بلد إلى بلد ومن جيل إلى جيل، وقد صحت فيه كلمة أحد النقاد القدماء في سعيد بن حميد: (لو قيل لكلام سعيد وشعره: ارجع إلى أهلك لما بقي معه شيء) وكذلك نقول في كلام أحمد أمين: فلو دعونا مقالاته ومؤلفاته بالرجوع إلى أهلها لما بقي معه شيء! وما ظنكم برجل يتوهم أن القراء في الأقطار العربية هم جميعاً أبناء الأمس، وما فيهم من قارئ واحد سمع من أخبار الأدب والمجتمع غير ما يتحدث به أحمد أمين؟ وإليكم هذا الشاهد: كان المرحوم الشيخ محمد الخضري بك ألقى محاضرة منذ خمسة وعشرين سنة عن تطور المجتمع المصري، وقد نص في تلك المحاضرة على الخطأ الذي ارتكبته مصر حين سمحت بأن ينقسم التعليم إلى شعبتين: شعبة دينية وشعبة مدنية، وقال: إن هذا يعرض مصر لشهود الصراع بين طائفتين تختلف عقلياتهم أشد الاختلاف وقد سمعت هذه المحاضرة وسمعها الأستاذ أحمد أمين، فهل تعرفون ما الذي وقع؟ وقع أن الأستاذ احمد أمين فهم أن الشيخ الخضري مات منذ أكثر من عشر سنين، وأن الذين سمعوا تلك المحاضرة منذ خمس وعشرين سنة قد أنستهم الأيام ما كان في تلك المحاضرة من آراء وكذلك أعد القلم والدواة والقرطاس ليحدث قراء (الثقافة) بأن مصر ارتكبت جرماً فظيعاً حين سمحت بأن ينقسم التعليم إلى شعبتين: شعبة دينية وشعبة مدنية، وأن هذا عرض المجتمع المصري لشهود الصراع بين طائفتين تختلف عقلياتهم أشد الاختلاف وكيف قال هذا الكلام؟ قاله وهو يوهم القراء أنه من المبتكرات في عالم الاجتماع! ولم يكن الشيخ الخضري أول من قال ذلك الكلام الذي سرقه احمد أمين، فقد تنبه المغفور له علي باشا مبارك إلى هذه الفكرة منذ أكثر من سبعين سنة، وعلى أساس هذه الفكرة أنشأ مدرسة دار العلوم ليخلق جيلاً يجمع بين الصبغة الدينية والمدنية ويكون أساساً للتطور المعقول وهذه الفكرة عرض لها الكتاب بالنقد والشرح مرات كثيرة في مدى أعوام طوال، وفصلها المنفلوطي في (النظرات) بعض التفصيل، وإن كان ساقها في مساق آخر هو التناحر بين الأخياف من أبناء الثقافة المدنية من حق أحمد أمين أن يلخص كلام من سبقوه ليطلع عليه شبان هذا الجيل ولكن هل راعى الأمانة العلمية وهو أستاذ مسئول؟ هل رجع كل كلام إلى قائله كما يصنع أساتذة الجامعات؟ لم يصنع شيئاً من ذلك، وإنما انتهب ما انتهب، ثم واجه القراء وهو مزهو مختال، كأنه صار بالفعل من أهل الابتكار في الميادين الأدبية والاجتماعية! قد يقال: وأين هذا الكلام من الموضوع الأصيل؟ وأجيب بأني أريد أن أبين أن أغلاط أحمد أمين لم تكن أغلاط الرجل المجتهد، وإنما هي أغلاط منهوبة مسروقة ليس فيها من جديد غير برقشتها بحبر جديد في ورق جديد! وإليكم يساق الحديث لبس أحمد أمين ثوب المفكر المبتكر وقال: إن الأدب الجاهلي جنى على الأدب العربي حين فرض عليه ما عرف الجاهليون من ألفاظ وأخيلة وتعابير وقواف وأوزان وهذه الفكرة خطأ في خطأ، وهو نقلها عن بعض الكتاب الذي تكلموا في النقد الأدبي بلا زاد من المعارف الأدبية، وبلا سناد من فهم التطور الذي شهده العرب في ميدان الحقائق الأدبية وآفة الأدب في مصر وفي غير مصر أنه معرض في كل وقت لغارة الأدعياء، فكل مخلوق يتوهم أن من حقه أن يقرأ الشعر والنثر قراءة الخبير بأسرار الدقائق الشعرية والنثرية، وأن يوازن بين الشعراء والخطباء والكتاب والمؤلفين بعد أن تتيح له المقادير أن يفرق بين المنظوم والمنثور، وبين الخطاب والكتاب، وبين الألف والباء! وهل كان من الصحيح أن الأدب الجاهلي جنى على الأدب العربي في العصور الإسلامية؟ إن العرب تحللوا من قيود الأدب الجاهلي منذ أول يوم توجهوا فيه إلى الاتصال بغيرهم من الممالك والشعوب ويقول المبتدئون في الأدب إن أبا نؤاس كان أول من ثار على التقاليد الجاهلية، وهذا غير صحيح، وإن صار من الحقائق المقررة عند بعض أساتذة كلية الآداب والصحيح أن الثورة على التقاليد الجاهلية في الأشعار والرسائل سبقت عهد أبي نواس بزمن بعيد.
ولهذه الثورة شواهد في العصر الأموي سنسوقها حين نجد ما يجب ذلك، أو حين ينطق الأستاذ أحمد أمين الذي خرج بالصمت عن لا ونعم، والذي نزل بالبرج العاجي ضيفاً على الأستاذ توفيق الحكيم قلت لكم غير مرة إن أحمد أمين قليل الاطلاع على تاريخ الأدب العربي، فلو كان من المطلعين لعرف أن العرب بعد الإسلام أعلنوا ثورتهم على التقاليد الجاهلية، وصرحوا بأن الأدب يتأثر بالزمان والمكان، وأن أخيلة سكان الحواضر يجب أن تختلف عن أخيلة سكان البوادي، وأن من يعيش في مصر له أذواق تخالف من يعيش في الحجاز أو العراق أو الشام أو المغرب أو فارس أو الهند لو كان أحمد أمين من المطلعين لعرف أن من العرب في القرن الثالث من صرح بأحكام يعجز عن التصريح بها من يعيشون في هذه الأيام هل تصدقون بأن من كتاب القرن الثالث من قال بأنه لا يجوز أن نحاكي القرآن في جميع التعابير؟ وهل في الدنيا جرأة أعظم من جرأة الرجل المسلم حين يقول في زمن شباب الإسلام بوجوب التحرر من بعض أساليب القرآن؟ وهل يجوز القول بأن من جاز عندهم الخروج على الأساليب القرآنية تصعب عليهم الثورة على التقاليد الجاهلية؟ انظروا كيف يقول ابن المدبر في (الرسالة العذراء): (وأعلم أنه لا يجوز في الرسائل ما أتى في آي القرآن من الإيصال والحذف، ومخاطبة الخاص بالعام، والعام بالخاص، لأن الله سبحانه وتعالى إنما خاطب بالقرآن أقواماً فصحاء فهموا عنه جل ثناؤه أمره ونهيه.
والرسائل إنما يخاطب بها قوم دخلاء على اللغة لا علم لهم بلسان العرب.
وكذلك ينبغي للكاتب أن يتجنب اللفظ المشترك والمعنى الملتبس، فأنه إن ذهب على مثل قوله تعالى (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي اقبلنا فيها) وقوله تعالى (بل مكر الليل والنهار) احتاج أن يبين أن معناه (اسأل أهل القرية وأهل العير) و (بل مكركم بالليل والنهار) ومثله في القرآن كثير)
فما معنى هذا الكلام؟ معناه أن العرب فهموا أن القرآن وهو عندهم تنزيل من حكيم حميد راعى عقلية العصر الذي نزل فيه فخاطب الناس بما يفهمون، وأنه حين يتغير الناس بتغير الزمان لا يجب أن نخاطبهم بالأسلوب الذي استجازه القرآن، لأنه نزل على قوم يدركون الحذف والإيصال ومخاطبة الخاص بالعام، والعام بالخاص فهل يعقل أن يكون الأدب الجاهلي أقدس عندهم من القرآن؟ وهل يجوز اتهام العقلية العربية بالجمود والخمود لتصح أوهام أحمد أمين؟ أنا أتحدى أي باحث أن يثبت أن العرب لم يدركوا ما يوجبه اختلاف الزمان والمكان في تلوين الصور والأفكار والأساليب أتحدى أي باحث أن يقيم الدليل على أن العرب التزموا محاكاة التعابير القرآنية والنبوية وكيف فات أحمد أمين أن العرب لم يلتزموا وحدة الوزن والقافية على نحو ما التزم الجاهليون؟ ألم تصل إليه أخبار التجديد والتنويع في القوافي والأوزان عند أهل المشرق وأهل المغرب؟ ألم تصل إليه أخبار الموشحات والأزجال؟ ألم يسمع بما دخل في الشعر العربي من الأخيلة الفارسية والمصرية والأندلسية؟ ألم يحدثه أحد بأن الذوق الأدبي عند مهبار الديلمي يخالف الذوق الأدبي عند الشريف الرضي؟ ألم يعلم بأن عمارة اليمني له مذاهب في القول تخالف مذاهب ابن حمديس؟ ألم يقرأ ما كتب أبو الحسن الجرجاني في اختلاف الأذواق باختلاف الوجوه والطباع؟ ألم تحدثه كتب الفقه بأن الشافعي تغيرت حاسته التشريعية بالتردد بين الحجاز ومصر والعراق؟ ألم يسمع بأن علماء البلاغة في مصر لهم مسالك تخالف مسالك أمثالهم في فارس؟ ألم يصل إليه القول بأن كتاب الإحياء له ألوان مختلفات بسبب تنقل المؤلف من أرض إلى أرض؟ ألم يشهد تطور الأسلوب عند ابن عربي في الفتوحات المكية بسبب اختلاف موطن التأليف؟ ألم يعرف بأن شعراء اليتيمة تختلف أذواقهم باختلاف البلاد؟ ألم يدرك أن أشعار البهازير لها مذاق غير مذاق أشعار أبن زيدون؟ ألم يلمس الخشونة والنعومة في تردد ابن الجهم بين البادية وبغداد؟ وهل بقي أحمد أمين على حال واحد حتى يبقى الناس جميعاً على حال واحد؟ إن أحمد أمين القاضي الشرعي كانت له مسالك في الحكم على الأشياء تخالف مسالك احمد أمين الأستاذ في كلية الآداب فكيف يقال إن الشاعر الذي يعيش في الأندلس أو في فارس لا يزال خاضعاً لأذواق أسلافه القدماء في الحجاز أو العراق؟ إن أذواق أهل العلم في البلد الواحد تختلف باختلاف المعهد الذي يتخرجون فيه، مع وحدة الزمان، ومع تقارب المشارب والميول.
فالمتخرج في الأزهر غير المتخرج في دار العلوم وغير المتخرج في كلية الآداب.
وقد كان مفهوماً عند أهل مصر أن المتخرج في الأزهر غير المتخرج في الجامع الأحمدي مع التقارب الشديد فيما يلقى هنا هناك من المعارف العقلية والنقلية.
وأهل فرنسا يفهمون أن المتخرج في جامعة باريس غير المتخرج في جامعة ليون وإنما كان الأمر كذلك لأن اختلاف المكان يؤثر في الأذواق حتى صح القول بأن الأدب الإنجليزي في إنجلترا يبعد بعض البعد أو كل البعد عن الأدب الإنجليزي في أمريكا. وكذلك يقال في الأدب الفرنسي حين يصدر عن أرض فرنسية أو بلجيكية أو سويسرية فكيف يمكن أن يتفرد العرب بالخروج على هذا القانون الذي تفرضه طبيعة الوجود على سائر الناس وهل يجوز في ذهن عاقل أن تكون جيمية ابن الرومي نسخة ثانية من جيمية الشماخ لوحدة القافية؟ وهل يصح أن تكون تائية حافظ إبراهيم في رثاء محمد عبدة صورة من تائية دعبل في التوجع لأهل البيت بحجة الاتفاق في الوزن والقافية؟ إن احمد أمين ينظر في ديوان جاهلي وديوان إسلامي فيرى قصائد تشابهت في القوافي والأوزان فيحكم بأن الشعر لم ينتقل من حال إلى حال، وإن اختلفت الأماكن والأجيال ولو نظر غيره هذه النظرة لقلنا أنه يحكم أحكاماً عامية، ولدعوناه إلى الانسحاب من ميدان الدراسات الأدبية من واجب أحمد أمين أن يفهم أن أساتذة الجامعات لا يصح لهم الوقوف عند ظواهر الأشياء، فأقل مزية لرجل الجامعة أن يكون في إحساسه كالشاعر الذي قال: أسمع في قلبي دبيب المنى ...
وألمح الشبهة في خاطري وأحمد أمين أستاذ في كلية الآداب، وهي كلية على جانب عظيم من الكبرياء، وهي تأبى الاعتراف بأي معهد يقارعها في هذه البلاد، ولا تنظر إلى سائر المعاهد الأدبية إلا بعين الاستخفاف والمنزلة التي صارت إليها كلية الآداب بفضل جهود أساتذتها الكبار من المصريين والأجانب توجب على الأستاذ أحمد أمين أن ينظر في كل كلمة يكتبها خمسين مرة قبل أن يعرضها على الناس فأين كان حرصه على مكانة تلك الكلية يوم زعم أن الأدب العربي لم يتطور قط، وأن الأدب الجاهلي ظل يسيطر عليه من عصر إلى عصر حتى خنق مواهب أحمد شوقي وحافظ إبراهيم؟ وهنا يتسع المجال لعرض سرقة جديدة من سرقات احمد أمين فهل يعرف هذا الباحث الكبير من أين أخذ القول بأنه يجب أن نضع القنبلة مكان القوس؟ لقد سرق هذه الفكرة من باحث لا أنوه باسمه إلا وأنا كاره لأني أبغضه أشد البغض وقد أرجع إلى مصاولته بعد أيام أو بعد أسابيع. هذا الباحث هو الدكتور طه حسين الذي عرف الجمهور بالأستاذ احمد أمين ولكن متى قال الدكتور طه هذا الكلام؟ إن أحمد أمين يظن أن ذاكرة الناس ضعفت كل الضعف، وأنه لم يبقى في مصر أو غير مصر من يتذكر مقالة نشرت منذ عام أو عامين، فكيف يتذكرون مقالة نشرت منذ أكثر عشر سنين؟ فما هي تلك المقالة؟ هي مقالة الدكتور طه حسين في نقد بائية شوقي في يوم (سقاريا) التي عارض بها بائية أبي تمام في يوم (عمورية)، بائية شوقي ذات المطلع: الله أكبركم في الفتح من عجب ...
يا خالد الترك جدد خالد العرب وقد نص الدكتور طه في تلك المقالة على أن شوقي استعمل في وصف الحرب التركية اليونانية ألفاظاً وتعابير كانت تعرفها الحروب القديمة، ولكنها مجهولة عند المحاربين في العصر الحديث أنكر الدكتور على شوقي أن يقول في خطاب مصطفى كمال: قذفتَهم بالرياح الهُوج مسرجةً ...
يحملن أُسد الشرى في البيض واليَلَبِ وأن يقول في مدح الجنود الأتراك: والجاعلين سيوف الهند ألسنهم ...
والكاتبين بأطراف القنا السلُب وكانت حجة الدكتور طه أن (أسد الشرى) عبارة قديمة وقد لا يفهمها الترك، وأن (البيض واليلب وأطراف القنا السلب) ليست أهم الأدوات الحربية في هذه الأيام وقد تأذى شوقي بهذا النقد اشد التأذي لأنه في ظاهره لا يخلو من بريق، ودعاني إلى الرد على الدكتور طه حسين ولكني اعتذرت لأسباب أدبية لا يتسع لشرحها المقام، ولعلي كنت أحرص على مجاملة الدكتور طه في ذلك الحين ومقالة الدكتور طه في نقد بائية شوقي مشوهة جداً، ولكن عند من؟ عند الذين كانوا يسايرون الحياة الأدبية أيام الفتنة بين السعديين والدستوريين والاتحاديين، وهي مقالة نشرت في جريدة يومية كانت قليلة الذيوع وهي جريدة الاتحاد، ولكنها كانت على كل حال مما يطلع عليه الأستاذ أحمد أمين ماذا يظن احمد أمين بذاكرة الرجال؟ هل يتوهم أن النقد الأدبي قد أنعدم في مصر وأنه لا يوجد في هذه البلاد من يذكر تطور الآراء النقدية من حال إلى أحوال؟ يجب أن يعرف جيداً أننا سنحصي عليه خطرات قلبه، وسنردها خطرة خطرة إلى ما قرأ وما سمع، فلا يزهي ولا يختال بترديد الحديث المعاد.
فهل يقرأ هذا الكلام بعض من كبر عليهم أن نهجم على الأستاذ أحمد أمين؟ إن الذين فتنوا بحذلقة احمد أمين لم يكونوا يعرفون أنه ينتهب آراء المعاصرين وغير المعاصرين بلا تهيب ولا تخوف، ولم يكن يدور في خواطرهم أن هذا الرجل له سطوات على الكتب والمقالات يأخذ بها ما يشاء بلا ترفق ولا استبقاء قد يقال: وما خطر هذه السرقات؟ وما العيب في أن يسرق احمد أمين كلام طه حسين؟ وأجيب بأن النص على السرقات يشرح تطور الأفكار الأدبية، وذلك مغنم ليس بقليل وسنرى في المقال المقبل سرقات أغرب وأعجب.

ومن الله وحده ننتظر حسن الجزاء على هذا الجهاد زكي مبارك

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١