أرشيف المقالات

جناية أحمد أمين على الأدب العربي

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
8 للدكتور زكي مبارك - 13 - كتب إلي أحد المتخرجين في كلية الآداب يقول: (ألا ترى أن إصرارك على تفنيد آراء الأستاذ أحمد أمين فيه تجريح لكلية الآداب، وأنت أقسمت على الوفاء لكلية الآداب)؟ وأقول إني ما نسيت ذلك القسم العظيم، وسأظل طول دهري وفياً لكلية الآداب ولكن كيف يصح القول بأن تفنيد آراء الأستاذ أحمد أمين ينافي الوفاء لكلية الآداب؟ إن كلية الآداب لها رسالة أدبية وفلسفية، وهي تروض أبناءها على الفناء في الحق، وتنكر عليهم أن يكونوا أبواقاً تذيع أهواء الجاهلين، فمن الوفاء لتلك الكلية أن نراقب ما ينشر باسمها من المباحث والآراء، وأن نتعقب أساتذتها بالنقد حين يقضي الواجب بلا ظلم ولا إسراف وقد استبحت قبل اليوم نقد آراء الدكتور طه حسين وكان عميداً لكلية الآداب، فلم يقل أحد إن ذلك النقد كان تجريحاً لتلك الكلية وخروجاً على يمين الوفاء وهل خرج الدكتور عبد الوهاب عزام على كلية الآداب.
حين أنكر آراء الأستاذ أحمد أمين؟ وماذا تريد منا كلية الآداب؟ أتريد أن نطوف بأحجارها طواف الخشوع فنرى كل صدىً يرن في حجراتها وغرفاتها وحياً نزل من السماء؟ إن تقاليد تلك الكلية قامت على أساس الفتوة، وقد شرعت النضال والعراك حول المذاهب والآراء، فليعرف بعض الأساتذة هناك أن الوشائج الصحيحة بيننا بينهم ترجع إلى أصل أصيل من تقاليد تلك الكلية، هو الثورة على الأخطاء والأغلاط والجهالات ونحن ماضون في سبيل النقد الأدبي بجرأة وصراحة رعاية للحق، ورعاية لتقاليد تلك الكلية الغالية، جعلها الله إلى الأبد مثابة لحرية الرأي والعقل، ونجاها من عادية الأهواء! وارجع إلى الموضوع فأقول: رأى القارئ كيف أخطأ أحمد أمين حين وازن بين الوثنية العربية والوثنية اليونانية، الموازنة لا تصح إلا بين أثرين، وقد وئدت الوثنية العربية وعاشت الوثنية اليونانية، فالموازنة بينهما لا تجوز إلا في ذهن من يستجيز الحكم على المجهول وأنا مع ذلك أعترف بأن الوثنية العربية بقيت منها أشياء، فقد صح أن بعض العرب عبدوا الأصنام وعبدوا الشمس وعبدوا بعض النجوم هذا صحيح؛ وقد شهد به القرآن؛ وشهادة القرآن لا يمكن إنكارها على الإطلاق، فهو عند المؤمنين وحي من عند الله، وهو عند الملحدين صورة صحيحة لأحوال العرب في عهد النبوة.
وكذلك يستوي المؤمن والملحد في تصديق ما شهد به القرآن ولكن كيف كانت تلك الوثنية من الوجهة العقلية والروحية؟ هل يعرف أحمد أمين لأية غاية عبد العرب صنماً في صورة أسد؟ لا يكفي أن يكون الصنم نحت من حجر ليقال إن عبادته أرضية وضيعة، كما يعبر أحمد أمين، وإنما يجب ان نعرف لأية غاية روحية أو عقلية عبد بعض العرب صنماً من حجر على صورة أسد، فقد يكون الغرض من تلك العبادة تمجيد الأنفة والقوة والكبرياء، وهو غرض نبيل رأينا له أشباهاً في وثنية الفرس والمصريين واليونان وقد عبد العرب أسافاً ونائلة، وهما صنمان لامرأة مليحة ورجل جميل فهل يعرف أحمد أمين لأية غاية عبد العرب هاتين الصورتين؟ لقد تحدث الأخباريون بأنهما صورة لرجل وامرأة فجرا في الكعبة فمسخهما الله جحرين، وهنا يتحذلق أحمد أمين فيقول: (ولست أدري ما حملهم على عبادتهما مع شنيع فعلهما، وهما إن استحقا شيئاً فالرجم لا العبادة) فالقول بأن أسافاً ونائلة فجرا في الكعبة فمسخهما الله حجرين هو التأويل الذي اهتدى إليه بعض العوام بعد اندحار الوثنية العربية أما أهل البصر بأسرار الوثنيات القديمة فيعرفون أن أسافاً ونائلة عند العرب قد يشبهان إيروس وأفروديت عند اليونان، فهما تمثالان لعبادة الجمال والحب، وليسا تمثالين لعبادة الفجور والفسق وعرض الأستاذ لتصور العرب في الزهرة فلم يدرك ما فيه من جمال، فالزهرة في الوثنية العربية كانت امرأة حسناء فصعدت إلى السماء ومسخت كوكباً، فهل رأى الناس تقديساً للجمال أروع من هذا التقديس؟ ألا يكفي أن تكون تلك الحسناء نقلت من الأرض إلى السماء، ومن عالم الفناء إلى عالم الخلود؟ قلت لكم إن أسرار الوثنية العربية ضاعت ضيعة أبدية بفضل الدين الحنيف، ونحن غير آسفين على ضياع تلك الأسرار ولكنا لا نستسيغ القول بأن عقلية العرب كانت أرضية وضيعة ونحن نجهل كيف كانوا يتصورون شؤون الدنيا وأحوال الوجود والعرب قد اعتذروا عن عبادة الأصنام فقالوا: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وهذه العبارة القرآنية الكريمة تشهد بأن وثنية العرب كانت تحريفاً لدين صحيح قام على أساس التوحيد. فمن الخطل أن يقول قائل بأن عبادة الأصنام كانت عبادة أرضية على حين يشهد القرآن، بأنها كانت موصولة الأواصر بالمعاني السماوية ويشهد القرآن أيضاً بأن وثنية العرب كانت لها أحكام متصلة بسكان السماء فقد (جعلوا الملائكة الذي هم عباد الرحمن إناثاً) ومعنى ذلك أن أوهامهم تجاوزت الأرض إلى السماء إن العرب في جاهليتهم قد عرفوا المصريين واليونانيين والفرس والهنود، فكيف جاز أن تخلو وثنيتهم من السمو الذي عرفت به وثنيات أولئك الناس؟ كيف يكون ذلك والوثنيات ينقل بعضها عن بعض، كما تنقل بعض الديانات عن بعض؟ ثم ماذا؟ ثم يحكم الأستاذ أحمد أمين بأن العرب لم تكن لهم طبيعة فنية وأن ما كان عندهم من تماثيل فمجلوب من مصر أو من اليونان، وأن (يغوث) إله مصري اسمه (يغنوت) ونحب أن نعرف من هم العرب في ذهن أحمد أمين يظهر أن العرب في ذهنه هم سكان البادية العربية، وسكان البادية لا يحسنون صناعة التماثيل والقول بأن العرب في جاهليتهم لم يكونوا إلا سكان البوادي قول أذاعه المستشرقون الذي يهمهم أن يثبتوا أن الحضارة العربية أخذت عن مصر وفارس واليونان وليس فيها أثر عربي أصيل. والتاريخ الصحيح يقول بغير ذلك، فالعرب في الجاهلية كانت لهم حواضر في الحجاز واليمن والشام والعراق، وكان لهم في تلك البلاد آداب وفنون، ولو عاش قصر غمدان وقصر الخورنق لاستطعنا أن نعرف كيف فهموا قواعد النحت والتصوير وكيف برعوا في تسجيل حوادث التاريخ ولنفرض أن العرب جهلوا النحت والتصوير كل الجهل، فكيف جاز مع هذا الفرض أن ينهاهم الإسلام عن النحت والتصوير؟ وهل ينهى الإسلام عن شيء غير موجود؟ قل كلاماً غير هذا الكلام يا أستاذ أمين ليصدق الناس دعواك! قد يقال: وأين آثار النحت والتصوير في البلاد العربية؟ ونجيب بأن ذلك كله بدده الإسلام عامداً متعمداً ليذهب آثار الشرك والوثنية! وهل تعرفون كم أثراً فنياً حطمه المسلمون بمكة يوم الفتح؟ لقد كانت مصر مملوءة بغرائب التماثيل فحطمها المسلمون ليمحوا شواهد الوثنية الفرعونية.
والذي قرءوا التاريخ يذكرون ما فعل الشيخ محمد صائم الدهر: فقد طاف بمصر من الشمال إلى الجنوب ليهشم ما ترك المصريون القدماء من الأصنام والأوثان، وهو الذي جدع أنف أبي الهول، ولو استطاع لحوله إلى رماد وبعد إسلام أهل مصر بقيت فيهم بقايا من احترام تمثيل الأسود فكانوا يقيمونها فوق قناطر النيل، وكان الشيخ محمد صائم الدهر يسطو عليها من وقت إلى وقت فيهشم منها ما يستطيع فإن مررتم على جسر إسماعيل بقصر النيل ورأيتموه محروساً بأسدين فتذكروا أن تلك الصور الأسدية ليست إلا رجعة إلى ما كان يصنع المسلمون في تزيين قناطر النيل بصور الأسود.
وإن زرتم أطلال الكرنك ورأيتم مداخل القصر محروسة بعشرات الأسود فاعرفوا أن هذا من ذاك توهم احمد أمين أن دين العرب في الجاهلية كان أرضياً وضيعاً، فكان ذلك التوهم سناداً يركن إليه في تحقير التشبيهات الجاهلية، فهي عنده لاصقة بالأرض وشاهد ذلك أن الجاهليين يشبهون الحيوان بحيوان مثله كتشبيه الناقة بالظليم أو بالثور الوحشي أو بالنعامة أو بالأتان واحسب أن لو قال هذا الكلام تلميذ بالسنة التوجيهية لسقط في الامتحان أبشع سقوط فتشبيه الناقة بالظليم أو بالثور الوحشي تشبيه مقبول جداً، وليس مادياً لاصقاً بالأرض لأن وجه الشبه هو السرعة لا الشكل، والسرعة صورة معنوية أحمد أمين يريد في الواقع أن يقول إن الناقة شبهت بحيوان يعيش في الأرض لا في السماء، وآية ذلك أنه عاب على امرئ القيس أن يشبه الفرس بجلمود صخر حطه السيل من علٍ، وقال: (إن غير العرب شبهوا سرعة الفرس بالبرق) ذلك كلام احمد أمين، وما تفتري عليه فهل رأيتم كلاماً أغرب من هذا الكلام؟ أنا أنتظر رأي أساتذة البلاغة بكلية الآداب والأزهر ودار العلوم هل من الصحيح أن تشبيه سرعة الفرس بالبرق أدق من تشبيه سرعته بجلمود صخر حطه السيل من شواهق الجبال؟ إن تشبيه سرعة الفرس بالصخرة التي حطها السيل من شاهق لا يقف عند السرعة وإنما يتعداها إلى الثقل.
فالفرس عند العدو ثقيل جداً بحيث لا يملك مراعاة ما قد يعترض الطريق من شجرة أو جدار، وكذلك لا تملك الصخرة الانحراف من جانب إلى جانب حين تنحط من شاهق أما تشبيه سرعة الفرس بسرعة البرق فهو تشبيه لا يقبل إلا عند من يرحب بالأخيلة البهلوانية وأين الفرس من البرق؟ إن ما يقطعه البرق في لمحة واحدة قد يعجز عنه الفرس في الأعوام الطوال والغرض من التشبيه هو تقريب بعض الصور من بعض، أما الإغراب في التشبيهات والاستعارات فيهو سخف مرذول وأحمد أمين الذي تعجبه الصور السماوية كصورة البرق هو نفسه أحمد أمين الذي عاب على العرب أن يتصوروا مصير الغميصاء بعد فراق سهيل (زعموا أن الغميصاء وسهيلاً كانا مجتمعين فانحدر سهيل فصار يمانياً، وتبعته العبور فعبرت المجرة، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت) تلك هي الأسطورة العربية التي استسخفها أحمد أمين، ولو كان يعرف تاريخ الأساطير لأدرك أن هذه الأسطورة فيها ملامح يونانية، فالنجم الذي يهوي من موضع إلى موضع هو إلهة عاشقة تنحدر لموعد غرام مع إله معشوق وكانت الغميصاء المسكينة على موعد مع معشوقها سهيل، ولكنها عجزت عن عبور المجرة فظلت تبكي حتى أصابها الغمص ولو كانت هذه الأسطورة يونانية لا عربية لعدها احمد أمين من غرائب الخيال، وعد أصحابها من الزاهدين في الأرض والمفتونين بالسماء! وأنتِ كذاكِ قد غُيِّرتِ بعدي ...
وكنتِ كأنك الشعري العبورُ ثم ماذا؟ ثم ماذا؟ ثم رأى أحمد أمين أن دين العرب في الجاهلية قد ظهر أثره في وصفهم للمرأة، فهم (لم ينظروا في المرأة إلا إلى جسمها.
لقد أدركوا تمام الإدراك جمالها الحسي، ولكنهم لم يدركوا جمالها الروحي.
ولعوا بقدها الممشوق، وعيونها الدعج، ووجهها الوردي، وخصرها النحيل، وردفها الثقيل، وما شئت من أعضائها وأجزائها.
فأما روحها السماوي وجمالها الروحي، وتعشق روح الشاعر لروحها والشعور بأنها مصدر وحيه وإلهامه فشيء لم يستطع إدراكه الشاعر الجاهلي)
ثم يصرح بأن الوقوف عند هذه المعاني في النظر إلى المرأة شيء مخجل (؟) أما أنا فأقول بأن نظرة الشاعر الجاهلي إلى المرأة نظرة سليمة تدل على الفحولة والفتوة، فجمال المرأة، جمالها الصحيح، هو في نواحيها الحسية، وليس من العيب أن يقول الرجل إنه يشتهي المرأة شهوة حسية، وإنما يعيب الرجل ألا يملك من المرأة غير أنس الروح بالروح إن أحمد أمين يحب أن يكون روحاً لطيفاً شفافاً يؤذيه أن يتحدث الناس عن العيون الدعدج، والقد الممشوق، والخصر النحيل. هو يحب أن يضاف إلى رجال الأخلاق! أما أنا فأبغض أشد البغض أن أضاف إلى هذا الطراز من رجال الأخلاق أنا أفهم جيداً أن المرأة لا تهم الرجل إلا إن كانت أنثى فيها جميع خصائص الأنوثة، الخصائص التي تشعر بأنها متاع جميل، والتي تحمله على أن ينظر إليها نظر السد الهصور إلى الرشأ الربيب ولا يمكن للمرأة أن تكون مصدر وحي وإلهام للرجل إلا إذا اشتهاها شهوة حسية، ومن قال بغير ذلك فهو رجل ضعيف لا يدرك جوهر الصلات بين الرجال والنساء إن الأستاذ أحمد أمين يستقبح قول امرئ القيس: وبيضةِ خدرٍ لا يرام خباؤها ...
تمتعتُ من لهوبها غير مُعْجَلِ فأين هو من الفحولة التي يهدر بها هذا البيت؟ قد يقول: وكيف يجوز للرجل الفحل أن يبكي وهو يستعطف المرأة؟ وأجيب بأن بكاء الرجل أمام معشوقته ليس علامة ضعف، وإنما هو علامة قوة، فالدمع في عين العاشق كالسم في ناب الثعبان؛ فالثعبان يخدر فريسته بالسم، والعاشق يخدر فريسته بالدمع وهنا أستأنس بكلمة قرأتها للأستاذ المازني في جريدة السياسة سنة 1932 وهو ينقد قول شوقي (ما الحب إلا التضحية) فقد عد هذه الكلمة باباً من الضعف، ومن عمى البصيرة، لأن الحب في حقيقة أمره ضرب من الأثرة والافتراس قولوا الحق يا بني آدم، فالنفاق خلق بغيض قولوا الحق، واعترفوا بأن المرأة لا تهم الرجل إلا بوصف أنها مخلوق جميل له عينان دعجاوان، وجبين مشرق، وجيد كجيد الريم، وقوام كالغصن الرطيب ولعل أحمد أمين يريد امرأة فيلسوفة لها عرقوب كشهر الصوم في الطول، ولها عين كعين الغميصاء تعينه على سهر الليل إلى أن يبزغ (فجر الإسلام) والعجيب أن تصدر هذه الأحكام عن رجل يكتب في الفلسفة من وقت إلى وقت، وقد غاب عنه أن في فلاسفة هذا العصر رجل اسمه فرويد، وهذا الفيلسوف يرجع أعمال الرجال إلى أصول شهوانية قد تسوق الناس من حيث لا يحتسبون.
وما كان فرويد أول من نظر هذه النظرة فقد رأيت لها أصولاً في مؤلفات الشعراني، ومن قبل ذلك رأيت لها أطيافاً عند فقهاء الشريعة الإسلامية، وهم رجال أمعنوا في درس أسرار الطبائع فعمن أخذ أحمد أمين هذه الحذلقة في فهم الأدب النسوي؟ أغلب الظن أنه نقلها عن الكاتب المتحذلق توفيق الحكيم الذي زعم أن كل عبقري محروس بروح نسائية تفيض عليه الوحي من وراء الغيب! وكيف تستطيع المرأة أن تسيطر على الرجل عند اليأس من طيباتها الحسية؟ إن الرجل قد يذكر المرأة بالشوق بعد أن تموت، ولكن ذلك لا يمنع من أن الأخيلة الحسية لها دخل في تسعير ذلك الشوق أقول هذا وأنا أعرف أن في بني آدم من يوحي إليه الرياء بتكذيب هذه البينات، ولكن ماذا يهمني وأنا حريص كل الحرص على الجهر بكلمة الحق؟ إن الوثنية اليونانية التي يمجدها أحمد أمين قد جعلت للآلهة شهوات ولذات، فكيف يستنكر أن تكون لشعراء الجاهلية شهوات ولذات؟ إن أفروديت وهي من الآلهة في الوثنية اليونانية قد صهرها الغيظ حين سمعت بأن في الأرض إنسانة جميلة تستهوي قلوب الرجال، وكان من آثار ذلك الغيظ أن قامت بدسائس خبيثة للفتك بتلك الإنسانة التي وصلت أخبارها إلى سكان السماء الحق كل الحق أن الجمال الحسي هو كل شيء في المرأة، وهي تصل إلى الكمال حين يؤيد جمالها الحسي بالجمال الروحي، كأن تكون على جمالها ذات عقل وأدب وعفاف وهل تعرفون كيف كان العفاف فضيلة؟ كان العفاف فضيلة لأنه تمكين للرجل من السيطرة المطلقة على مواقع هواه، فهو فضيلة لوحظت فيها الأثرة الرجلية ما هذا الذي أقول؟ أراني أهيئ الفرصة لثرثرة من لا يفهمون دقائق علم الأخلاق، وأنا أحب أن أسلم من ثرثرة أولئك الناس الذي يهمني هو النص على أن شعراء الجاهلية صوروا الفطرة السليمة حين جعلوا الأنس بالمرأة الجميلة من النعيم المحسوس ولم يجعلوه من النعيم المعقول ولو رزقني الله شيئاً من الصراحة لقلت: إن الشهوات هي في الأصل من أجل نعم الله على عباده، وما استنكرها رجال الأخلاق إلا بسبب الإسراف.
أما الشهوات في حد ذاتها فهي من دلائل العافية: والعافية نعمة جزيلة ينعم بها الله على من يشاء وفضيلة العفاف، وهي فضيلة نبيلة لا يقام لها وزن إلا حين تصدر عن رجال مزودين بحيوية الشهوات، فطغيان الشهوة ملحوظ عند النظر في فضيلة العفاف.
أما عفاف العاجزين عن الفجور فهو لا يستحق أي ثناء، ولا يضاف صاحبه إلى أهل الكمال وإن لبس مسوح الرهبان ويجب أن يكون مفهوماً أن الشهوة الحسية لها صلة بتفوق الرجال في الميادين العقلية، فالرجل الآمن من طغيان الشهوات محروم من نعمتين: نعمة القدرة على فهم الجمال، ونعمة القدرة على مجاهدة الأهواء وكذلك يصح القول لأن الرجل العاجز لا يستطيع أبداً أن يتسامى إلى منزلة أصحاب الأخلاق فهل ترونني وصلت إلى إقناعكم بأن أحمد أمين أخطأ حين عاب على شعراء الجاهلية أن يجعلوا المرأة من المتاع الجميل؟ أنا أعرف أني أوذي نفسي بهذه التحليلات، وأعرف أنها قد تصورني بصورة الرجل الفاتك، ولكن ماذا أصنع وأنا أريد أن أصدق كل الصدق وأنا أحادث القراء؟ وهل كتب على الدراسات الأدبية والفلسفية في مصر أن تقوم على قواعد الرياء؟ اسمعوا مني كلمة الحق في هذه الشؤون قبل أن تسمعوها من باحث يعيش في لندن أو باريس، فمن العار أن نعجز في عصر النور عما قدر على شرحه الأسلاف في عصور الظلمات أما بعد فهناك مكاره سيصلاها أحمد أمين في المقالات الآتية وسيعرف أن التجني على ماضي الأدب العربي لا يمر بلا حساب وأنا أرجوه أن يترفق بنفسه فلا يصر على تحقير الأرومة العربية وتمجيد الأرومة اليونانية، فقد أستطيع أن أحدثه بأن العرب الذي غلبت عليهم شهوات الحواس هم الذي استطاعوا بفضل فحولتهم أن يدحروا اليونان وأن يحولوهم إلى أحلاس في حوانيت الزيتون والسردين وقد حدثنا أحمد أمين بأن العرب انحطوا في جاهليتهم بسبب تلك الوثنية الأرضية الوضيعة، ثم حدثنا بأن القرآن لم يرفع عقليتهم، مع أنه وحي سماوي رفيع، فهل يتأثر العرب بالوثنية ولا يتأثرون بالإسلام؟ سنعرف وجه الحق في هذه القضية، في الأسبوع المقبل، وإنه لقريب. (مصر الجديدة) زكي مبارك

شارك الخبر

المرئيات-١