أرشيف المقالات

الحق جاهد

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 للأستاذ عبد الرحمن شكري إن الإنسان كلما كبر علمته التجارب أن التقاتل على أكثر الآراء عناء زائل وأمر حائل، وأن ما يدعى تقاتلاً على الحق إنما هو تقاتل على المطامع التي تدعى حقاً.
قال أحد الفلاسفة: من المقرر في علم الحساب أن جمع الاثنين والاثنين أربعة ولكن لو كانت هذه المسألة من مسائل الحياة التي تختلف فيها مطامع الناس ومطالبهم ومآربهم لكان بين الناس من يعتقد بإخلاص وحسن نية أن جمع الاثنين والاثنين خمسة أو سبعة أو تسعة حسب ما تقتضيه مطامعهم وفوائدهم.
وكل منهم يعتقد بإخلاص أن جمع الاثنين والاثنين إذا كان في رأيه خمسة أو سبعة أو تسعة غير مؤسس على ما تقتضيه المطامع والفوائد الخاصة، وإنما وصل كل منهم في اعتقاده إلى هذه النتيجة بالتخلص من لوازم شخصه وبالفكر النظري الخالص من كل شائب.
لكن اتفقوا على أن جمع الاثنين والاثنين أربعة لأن الجمع ليس من الأمور التي تختلف فيها مطالبهم أو فوائدهم.
على أن الناس في الحقيقة يختلفون في جمع الاثنين والاثنين عند ما يخرجونه من حيّز المسائل الحسابية النظرية العارية وعندما يلبسونه لباساً من مطالب الحياة وفوائدها واختلاف أوجه النظر فيها حتى تصير المسألة الحسابية البسيطة مقنعة غير ملحوظة في أفكارهم ومطالب وكأنها غير موجودة أذكر أني قابلت أثناء الحرب العظمى الماضية أحد أفاضل الأجانب ممن أتصف بالعدل وصدق النظر في الأمور والاعتدال في الرأي، وجرى بيننا الحديث عن الحرب والأمم المتقاتلة فيها فأطرى الفرنسيين وذم الألمان، وأوضح أسباب المدح والذم.
ثم انقضت الحرب وحاولت فرنسا بعدها بمحالفة الدول الأوربية السيطرة على القوى البرية في أوربا وخشيت إنجلترا أن تخل بالتعادل الدولي.
وقابلت صاحبنا فذم الإنجليز ومدح الألمان وقال هم أبناء عمنا، وذكر أسباب المدح والهجاء.
ولو قابلته الآن بعد أن عادت إنجلترا وفرنسا إلى الوفاق وبعد أن قويت ألمانيا لعاد إلى رأيه الأول وصاحبنا هذا رجل عدل وإنصاف واعتدال في أمور الحياة، وهو في كل حالة كان يعتقد ما يقول، ويرى أنه الحق ولا حق غيره، وهذا الفاضل ليس ببدع، فهذه سنة الناس فيما يسمونه حقاً يحورونه ويحولونه بإخلاص وحسن نية إلى ما يناسب آمالهم ومطالبهم وأحاسيسهم، وهم لا يشعرون بذلك التحويل، وعدم فطنتهم إلى هذا التحويل هو سبب اندفاعهم في نصرة ما يسمونه حقاً وسبب إباحة كل وسيلة في نصرته؛ ومن هذا الطريق يدخل نفس الفاضل الحسن النية ما يدخلها من شر وقسوة ولؤم، فكل إنسان في الحياة يدخل في معنى الحق ما يتفق وحالات نفسه وخواطرها وآمالها ومسراتها وصداقاتها وعدواتها، وما يناسب نشأته وثقافته الخاصة وميوله، وهو يُدْخل ما يدخله في معنى الحق من غير أن يعمل عمل المنافق الذي يُخفي من رأيه غير ما يعرض على الناس، ولو سمينا طريقته في تحويل الحق إلى جانبه نفاقاً لكانت نفاقاً لا يحس صاحبه أنه نفاق فإذا أضفت إلى هذا النفاق غير المقصود الشائع في كل نفس ما تقصده أكثر النفوس من تضليل العامد إلى النفاق المدبر، ظهر أن محاولة معرفة الحق أمر جاهد حقاً وظهر السبب في خطأ الناس في قدر مل يعرض عليهم من الأمور التي تسمى حقاً.
إذ أن السعار والضراوة في نصرة ما يسميه كل إنسان حقا ليست مقصورة على صاحب النفاق المدبر الذي يعرف صاحبه أنه ينافق فيما يسميه حقا، بل إن الضراوة والسعار في نصرة الحق أمران قد يلفيان في نصرة صاحب النفاق غير المقصود لما ينتصر له من الأمر الذي يسميه حقا.
ومن أجل ذلك قلما يعنى الناس أنفسهم بفحص ما يعرض عليهم من الأمور للوصول إلى الحق.
فهم أيضاً في حكمهم شأنهم شأن صاحب الأمر الذي يعرضه عليهم كي يقبلوه، فهم إما يقبلونه على أنه حق إذا وافق هواهم وإما يعرفون بطلانه ووجه تزييفه ويدعون أنهم انخدعوا لصاحبه.
فإذا خالف هواهم قالوا إنه باطل وهم في كل حالة قد يغالطون أنفسهم ويدعون الفحص والتمحيص ويعتقدون ما يعتقدون أو ما يتظاهرون باعتقاده بحسن نية، وقد يجتمع حسن النية والتظاهر، إذ أن النفس تستطيع أن تخادع نفسها حتى في تظاهرها بغير ما تبطن.
ومن أجل غلبة الأهواء يقول البحتري: أخيَّ إذا خاصمت نفسك فاحتشد ...
لها وإذا حدّثت نفسك فاصدق فقال احتشد لها لأن النفس أغلب بالأهواء وأملك بميولها، وفي البيت إرشاد إلى ثقافة ولكن الثقافة نفسها قلما تخلو من أهواء النفوس وقلما يستطيع المرء أن يحتشد لنفسه إذا خاصمها بالحق وقلما يحاول أحد تلك المخاصمة وذلك الاحتشاد للحق ما دام يلون الحق كما يشاء، ويصنعه صناعة أو يصطنع في نفسه وهو لا يدري.
والحق يختلف أيضاً باختلاف آراء المرء حسب حالات جسمه وأعصابه الناشئة من سقم أو صحة وقوة أو ضعف وحالات معدته ومطاعمه.
ولو فكر المرء في اختلاف الحق حسب اختلاف مطالب المرء ونشأته وثقافته وحالات نفسه وجسمه فإنه قد يستطيع مع إدمان الفكر أن يقلل من ضراوته وأكاذيبه وحقده وغيرها من الوسائل التي يناصر بها الحق، على حد قول القائل إن الغاية تبرر الواسطة، فيبرر ضراوته وأكاذيبه وحقده لأنه يستخدم هذه الوسائل في نصرة الحق الذي هو أيضاً وليد أحاسيسه وحالات نفسه وجسمه واستعراض هذه الأمور العديدة التي تشكل الحق في نظره يسقط حجته في أن الغاية الشريفة تبرر الواسطة الدنيئة إذ أن شرف الغاية معدوم أو إذا كان موجوداً فقلما يكون بقدر ما يشرف الواسطة الدنيئة.
بل إن الواسطة الدنيئة تقضي على بقية الشرف في حقه الذي خالط فيه الصدق حاجات نفسه وميولها والعصبيات تتلف الحق وتمنع المرء من الاحتشاد الذي أراده البحتري عند محاسبة النفس كعصبية المودة أو القرابة أو المصاهرة أو المنفعة المتبادلة أو عصبية الجوار والبلدة الواحدة، وهذه العصبية الأخيرة قلما تكون إلا إذا اختلف أهل البلدة التي استفحلت عصبيتهم عمن حولهم من أهل البلاد الأخرى اختلافاً في الجسم أو النشأة، ولا عيب في تلك العصبيات إذا التزمت جانب الشرف والإنصاف والضرورة القصوى، أما إذا تعدته إلى جانب الإسفاف والجهل والظلم بغير داع ضاع الحق في مطالب تلك العصبيات.
وعصبية المصاهرة على ما بها من عيوب قد تكون مصدر قوة لطائفة كبيرة هي قوام الأمة أو شبه قوام، ولكنها إذا دخل فيها من لا يمتاز إلا بقوة الجسم، وارتفع إلى المصاهرة أناس من السفلة وأهل الغباء نشروا عدوى خصالهم الذميمة وآرائهم المخطئة من ذوي الأناقة في الخُلُق والرأي، ومن ذوي الاعتدال في الحكم، فتنقلب المصاهرة متلفة للحق ولأمور الناس والضراوة في مناصرة مطالب تلك العصبيات التي تسمى حقاً تشتد كلما قلت الثقافة في أمة وزاد الشعور بالنقص في نفوس أبنائها وكثر التهريج والمهرجون الذين يخلقون لأهل الغباء مبادئ سامية من أحط نزعات نفوسهم. وأحقاد الناس في الحياة ليست عبيد حاجاتهم وضروراتها بقدر ما هي عبيد هواجسهم المهمة التي تحلق في أذهانهم ونفوسهم كما تخلق الخفافيش تحت قبة البناء المظلم المهجور، وذلك لأن الحاجات والضرورات تنقضي وتحد، ولكن الهواجس لا حد لها ولا انقضاء. إن الإنسان لا يدهش كثيراً إذا وصف إمامه إنسان بالشر والمكر والسوء، وهو يعرف أنه أبعد الناس عن هذه الصفات قدر ما يدهش إذا كان هو الموصوف بهذه الصفات لأن دهشته في الحالة الثانية تعود على أمر يخصه ويؤلمه، والدهشة الممزوجة بالألم أشد وقعاً في النفس من الدهشة الخالية من الألم، ولأن كل إنسان يعرف من أسباب أقواله وأعماله مالا يعرف عن أسباب أقوال غيره وأعماله، ويعرف من حالات نفسه في تلك الأقوال والأعمال مالا يعرف عن أحوال نفس غيره، فهو بهذه المعرفة يستطيع أن يسوغ أقواله وأعماله، وبذلك الجهل لحالات نفس غيره لا يستطيع إلا إنكار أقوال غيره إن كانت تستدعي الإنكار أو تحتمله، وهذا بالرغم من أن كل إنسان يعرف من هواجس السوء التي تتردد في نفسه أكثر مما يعرف من هواجس السوء في نفس غيره.
فإن الإنسان لا يستخدم ميزاناً واحداً فيما بينه وبين الناس؛ فهو مثلاً يكذب كثيراً ويعد كذبه أمراً هيناً فإذا كذب غيره في حقه عده لؤماً ليس بعده لؤم. كل هذه الحقائق حقيقية بأن تزهد المفكر المتأمل في سعاره أو ضراوته في مناصرة ما يسميه حقاً وأكثره ليس بحق، وهي حقيقة بأن تزهده في رأي من يرى أن الغاية تبرر الواسطة، إذ إن خطأه في قدر الغاية قد يكون عن حسن نية، ولكنه قد يسوقه حسن النية إلى أعمال اللؤم والإجرام في سعار مناصرته للحق المزعوم الذي في تلك الغاية التي أخطأ فيها وعدها نبيلة وهي ليست نبيلة، وحسن نيته في ذلك الخطأ لا يخليه من أثم ولؤم ذلك السعار وتلك الضراوة أن الذين يُعنون أنفسهم بالبحث عن الحق قليلون ولا سيما البحث عن الحق في أمور حياة الناس التي تتحكم فيها الأهواء والأوهام، وقد يحسب الساذج أن الحق في حياة الناس كالحق في علم الحساب بمقدار معين لا شك فيه ولا تغير، ولكن الساذج إذا اختبر الحياة واستطاع أن يقضي بخبرته على سذاجته علم أن أحوج الناس إلى مظاهر الحق هم أهل الباطل، ومن هذه الحاجة نشأ سعارهم، ولم ينشأ ذلك السعار من شدة الإخلاص للحق بل من شدة شعورهم أنهم على باطل يحتاج إلى مظاهر الحق عبد الرحمن شكري

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير