أرشيف المقالات

خليل مردم بك

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 وكتابة في الشاعر الفرزدق لأستاذ جليل من القضاء الغريب بين الفرزدق وجرير ما رواه الأستاذ المردمي عن الأغاني: (تنازع في جرير والفرزدق رجلان من عسكر المهلب.
فارتفعا إليه وسألاه، فقال: لا أقول بينهما شيئاً ثم دلهما على الخوارج.
فلما تواقف الجيشان بدر أحد المتنازعين من الصف إلى عبيدة بن هلال اليشكري الخارجي فسأله عنهما ففضل جريرا: قال من الذي يقول: وطوى الطراد مع القياد بطونها ...
طي التجار بحضرموت برودا فقال: جرير.
قال: هذا أشعر الرجلين)
. فالذي يلوح لنا في هذه الحكومة أن الخارجي رأى بيت جرير أمير شعره وأن ليس للفرزدق شبهه فقضى له، أو أن من يفرض مثل هذا البيت حقيق بالتقديم (ونذر في هذا المقام البحث عن قيمة هذا البيت وخطره) أو أن عبيدة التفت إلى الديانة ففضل المتقي على من فجر. وإن تفضيل قائل على قائل لمعنى من المعاني المذكورة لهو الحيف المحض، وخروج على سلطان الحق، ألا (لا حكم إلا الله) ولا قضاء مقبول إلا من مقسط ذي نصفة. ولولا أن يغضب أو أن يشرى صاحبنا الأستاذ أبو إسحق أطفيش نزيل القاهرة ومن علماء إخواننا الأباضية وفضلائهم - لشننا على (الشراة) غارات، وفندنا (مقالاتهم) الخارجية بمقالات في (الرسالة الغراء) متلاحقات.
وممن عادل الخارجيَّ في جنفه في حكمه، بل أربى على جميع الجَوَرة في القضايا الأدبية الحسن بن بشر الآمدي صاحب (الموازنة بين أبي تمام والبحتري) فقد ظهر في كتابه (أجور من قاضي سذوم) وأرانا كيف يكون الظلم العبقري (استعان الرجل بالله - كما قال - على مجاهدة النفس ومجاهدة الهوى وترك التحامل) وأقبل يوازن، فماذا صنع؟ يأخذ بيتا لحبيب قال في معناه الوليد وينصب ميزانه، وهواه الوازن. ولأبي تمام أبيات عبقريات، كل بيت منها بديوان، وله قصائد باهرات مدهشات. هذه لا توضع في الميزان، وقد كان قال: (أنا لست افصح بتفضيل أحدهما على الآ ولكني أقارن بين قصيدتين من شعرهما فأقول أيهما أشعر في تلك القصيدة ثم احكم أنت).
ولكنه لم يفعل ذلك واجتزأ بإيراد أبيات لكل من الطائيين وجعل يلغو لغوه. وإذا قال أبو تمام: إن لله في العباد منايا ...
سلطتها على القلوب العيون وقال البحتري: قال بطلاً وأفال الرأي من ...
لم يقل إن المنايا في الحدق فهنا يتوارى الوازن والموازنة ويرفع الميزان.
وبيت الوليد شرح طويل، مَطمَطة.
وقد كان ابن الأثير انصف من الآمدي حين قضى بين حبيب والمتنبي في رثاء ولدين صغيرين لعبد الله بن ظاهر، وطفل لسيف الدولة؛ وبين البحتري وأبي الطيب في وصف الأسد.
وقد شأى الكندي الطائيين في الرثاء والوصف. وأني لموقن أن الآمدي فارق الدنيا ولم يعرف أبا تمام وعبقريته.
وممن علم ذلك وأعلن فضل ابن أوس - أبو بكر بن يحيى الصولي صاحب كتاب (أخبار أبي تمام) الذي أفضل على العربية بنشره الفضلاء: خليل محمود عساكر، محمد عبدة عزام، نظير الإسلام الهندي - بارك الله في الهند - وقد أعطى الكتاب بعض حقه في مقالة في الجزء (225) من (الرسالة).
وكانت مجلة (المقتطف) ذكرت كتاب الصولي، وحافت على حبيب فرُدّ عليها وليمت في مقالة في الجزء (235) من (الرسالة) وأغلب الظن أن الكتاب في المقتطف ما قرأ كتاب الصولي فيعرف ذلك الشاعر العظيم، فقال على المخيل أو على ما خيلت كما يقولون. ألا إن الشعر لأكثر مما يرى ذاك الخارجي وهذا الآمدي وأعظم؛ واٍن فضيلة الفرزدق فيما يبينه أديبنا الكبير الأستاذ المردمي في كتابه: (لا تجد شعراً أكثر تأثراً بالإسلام، والعصبية العربية، ولا أصح لغة، ولا أجزل أسلوباً، ولا أجمع لشوارد العربية وفصَحها، وأخبار العرب وأيامهم - من شعر الفرزدق). (والفرزدق على جفاء طبعه له مخيلة تفيض بالحياة، وتحسن الابتكار والابتداع ووضع الأقاصيص بأسلوب حسن). (والفرزدق على أميته واسع الرواية كثير المحفوظ، ولم يقف عند حفظ أشعار العرب وأخبارهم بل حفظ القرآن، وروى الحديث النبوي.
قال صاحب خزانة الأدب (البغدادي): (روى الفرزدق عن علي عليه السلام وعن غيره من الصحابة).
وقال صاحب النجوم الزاهرة: (روى الفرزدق عن عليّ بن أبي طالب وغيره وكان يرسل، وروى عن أبي هريرة وعن جماعة) فثقافته أعلى ثقافة يبلغها شاعر في ذاك العصر)
. (ويجمع الفرزدق إلى خصب المخيلة وسعة الرواية كثرة النواحي، فشعره سجل حياته ومرآة عصره). (ونفس الفرزدق طويل، وقصائده التي تزيد أبياتها على المائة كثيرة، وله القصائد القصار، وهو في كلا القسمين لا يسف ولا ينزل عن طبقته). (وقد استقام للفرزدق من الأبيات الجامعة بين شرف المعنى وشرف اللفظ ما لم يستقم لغيرة، فهو أكثر الشعراء الإسلاميين بيتاً مُقلَّداً). (وشعره في جملته يدل على قدرة الشاعر وبعد نظره وإحاطته بما يرمي إليه من الأغراض وسعة مخيلته وانفساح مجاله ولذلك كثرت فيه الصور). هذه جمل من (الكتاب) في باب البحث عن شعر الفرزدق وهي تساند مقالة البحتري في (معاني الفرزدق وحسن اختراعه وبأبواب هجائه التي يخترعها ويبدع فيها) وتعلن من النبوغ الفرزدقي ما تعلن، وتقوى الظن الذي ظنناه في اختيار الأستاذ هماماً من بين الثلاثة الإسلاميين واختصاصه إياه بهذا الكتاب.
وقد أوضح الأستاذ المردمي ما أوردته من أقواله أبلغ إيضاح، وأيدها بأبيات كثيرة للشاعر. يقول الأستاذ في تضاعيف البحث عن شعر همام: (وأما تمثيله العربية في فصاحتها وشواردها، وتاريخ العرب في مناقبهم ومثالبهم حتى قيل (لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب) وقيل (لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس) فذلك لكثرة مفرداته، وصحة تراكيبه، وجزالة أسلوبه، واشتمال شعره على الغريب، وأوجه التعابير الفصيحة، ووفرة ما تضمنه فخره وهجاؤه ومدحه من أخبار العرب وأيامها ومفاخرها، ومثالب من يهجوهم في الجاهلية والإسلام.
خذ مثلاً لذلك نقيضة من نقائضه مع جرير تجد فيها صحة اللغة وفصاحة الأسلوب وجزالة التركيب ورصانة القافية وعراقة العربية مع شيء من الغريب كما تجد كثيراً من أخبار العرب في الجاهلية والإسلام، فلو جمع باحث مفردات الفرزدق التي استعملها في شعره لكادت تكون معجماً، ولو توفر على ترتيب ما فيه من الأخبار والحوادث والمفاخر والمخازي والعادات والأساطير والخرافات لجمع تاريخاً لحوادث الجاهلية وحياتها الاجتماعية.
والشواهد على ذلك أكثر من أن تذكر نكتفي بإيراد قليل منها قال: نقائض ص189)
وروى الأستاذ ثمانية أبيات من القصيدة التي مطلعها: إن الذي سمك السماء بنى لنا ...
بيتاً دعائمه أعز وأطول ثم قال: (هذه الأبيات الثمانية فيها من الأخبار والحوادث والأيام ما استغرق عشر صفحات من كتاب النقائض، ولا سبيل لتلخيصها هنا) وأشار إليها، وروى وبيّن غير ذلك مما يحق مقالته في الفرزدق. وممن يماثل هذا الشاعر من المولدين في اشتمال كلامه على أخبار كثيرة وإشارات ذات بال - حبيب (ففي شعره علم جم من النسب، وجملة وافرة من أيام العرب) وأبو بكر الخوارزمي الذي يستظهر رسائله كلها العلامة الأستاذ الأمير شكيب أرسلان. والقول المتقدم في أبي تمام هو في (رسائل الانتقاد) لابن شرف القيرواني، وقد نشرها العلامة الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب الصمادحي في مجلة (المقتبس) للعلامة الأستاذ الرئيس محمد كرد عليّ. ويقول الأستاذ: (ومن التعابير العربية التي حفظها لنا شعره قوله: نقائض ص283 أو بين حيّ أبي نعامة هارباً أو باللحاق بطّيء الأجيال حيّ أبي نعامة أي وهو حيّ نقول فعلت ذاك حيّ فلان أي وفلان حيّ). وهذا القول قد هدانا إليه بيت الفرزدق.
وفي العربية شئ كثير من مثل هذا التعبير خفي معناه أو أشكل ولم يكشفه لنا شرح أو تفسير.
قال ابن فارس: (إنا نرى علماء اللغة يختلفون في كثير مما قالته العرب فلا يكاد واحد يخبر عن حقيقة ما خولف فيه بل يسلك طريق الاحتمال والإمكان)، وأورد في كتابه (الصاحبي) طائفة من الأقوال لم تستبن حقيقتها عنده، ومما ذكره: (يروى عن النبي (ﷺ) أنه قال: (لا تقولوا دعدع ولا لعلع ولكن قولوا: اللهم، ارفع وانفع) فلولا أن للكلمتين معنى مفهوماً عند القوم ما كرههما النبي ﷺ). (الإسكندرية) * * *

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣