أرشيف المقالات

رسالة النقد

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 في سبيل العربية كتاب البخلاء للأستاذ محمود مصطفى - 2 - ذكرنا في المقال السابق مظهرين من مظاهر عمل الأستاذين الفاضلين العوامري بك والجارم بك في شرحهما لهذا الكتاب، وهي العناية بالإعراب، والتطبيق على علوم البلاغة. واليوم نذكر مظهراً ثالثاً هو الإكثار من ذكر أسماء المراجع اللغوية، فما نفتأ نرى أسم اللسان والقاموس والصحاح وشرح القاموس ولنهاية و.

و.

من غير حاجة إلى ذكر شيء من ذلك؛ لأن العادة جرت ألا يخص أسم مرجع بالذكر إلا إذا كان قد أنفرد من بين بقية المراجع بإيراد ما نستدل عليه أو نحتج به، فأما الأمور التي اشتركت فيها كل المرجع أو أغلبها فلا نرى داعياً للنص على المرجع إلا أن يكون ذلك إدلالاً بمعرفة اسم الكتاب أو حيازته.
ونكتفي من الدلالة على هذا المظهر في عملهما بذكر مثلين وقعا في صفحة واحدة هي ص 29، قالا حفظهما الله: (8) الكُلوح (بضم الكاف) تكشر في عبوس.
وقد كلح يكلح كمنع يمنع اهـ.
من اللسان. (9) قال في القاموس: قطب يقطب قطباً من باب ضرب، وقُطوباً بضم القاف فهو قاطب وقطوب: زوى ما بين عينيه.
اهـ. والذي ذكر أنه من اللسان تراه في القاموس.
قال (كلح كمنع كلوحاً وكلاحاً بضمهما تكشر في عبوس.
والذي ذكرا أنه من القاموس تراه في كل كتاب غيره.
قال في المصباح: (قطب بين عينيه قطباً من باب ضرب جمع.
) ويتصل بأمر المراجع للغوية مسألة أخرى وهي الوقوف عند عبارات هذه المعاجم لا تزحزح معه ولا ريم منه مهما أدى ذلك إلى الإيهام أو الاشتباه بألفاظ لا يليق في ذوق الشارحين أن تقع عليها أعين الطلاب والطالبات.
وذلك كقولهما في حاشية ص 64: الختن من كان من قبل (بكسر ففتح) المرأة كالأب والأخ والعم والخال. أيدري القارئ لم اضطر الشارحان إلى تقييد كلمة قبل بكسر ففتح؟ ذلك لأنهما أرادا أن ينفيا شبهة قراءتها بضمتين فيقع المحظور الذي تتوقاه وزارة المعارف.
ولكني أقول إن هذا الضبط الذي قصد به لفت النظر والفكر عن شيء غير لائق كان أدل شيء على ذلك الشيء.
فأي داع إلى التزام هذا اللفظ خصوصاً بعد تنبه الشارحان إلى ما فيه من خطر على الطلاب والطالبات؟ لا نرى ذلك الداعي إلا وقوفهما عند ألفاظ المعاجم لا يرميان منها ولو قيد أنملة.
وفي ألفاظ: جهة المرأة أو ناحية المرأة أو جانب المرأة ما يغنينا عن قولهما بكسر ففتح بين قوسين. ومن ذلك أيضاً قولهما في حاشية ص 176: (6) المذاكرة مفاعلة من الذكر (بكسر فسكون) وهما لم يقيدا المفاعلة بأنها من الذكر (بكسر فسكون) إلا احترازاً من مفاعلة أخرى يكون الذكر فيها بضبط أخر غير ما ذكرا، وقد كان نفي هذه الشبهة أدعى إلى الوقوع فيها.
فلا حول ولا قوة إلا بالله. ولا نترك هذا المقام حتى نأتي فيه على أكثر ما لاحظنا من الجمود اللغوي لتكون تلك الملاحظات مجتمعة، وبذلك نكون قد عدنا إلى التبويب الذي رأينا ألا نتبعه في نقدنا هذا. من الوقوف عند ألفاظ المعجم أن ترى الشارحين قد ألغيا عقلهما الحصيف ففرقا بين ما لا فرق فيه وعرفاً بما لا تعريف به، وظننا بعد ذلك أنهما قد أبليا عذراً في الشرح وحققا ودققا إلى أبعد غايات التحقيق والتدقيق. وهاك فأسمع أيها القارئ أولها في صفحة 176 أيضاً: (11) قعر في كلامه تشدق وتكلم بأقصى قعر فمه وقيل تكلم بأقصى حلقه.
لسان وقبل أن نحتكم إلى الطبيب الشرعي أو الجراح العالم بتشريح الفم أؤكد وأشدد أنه لا فرق بين العبارتين وأنا أخالف مقدماً كل من يحاول إثبات فرق بين أقصى قعر الفم وأقصى الحلق.!! كذلك تسمع قولهما في ص 161 عند قول الجاحظ فيمن لم يتخذ بناء البيوت للاستغلال وآثر دفع السكنى بأجر (وأنه قد أمن من الحرق والغرق وميل أسطوان وانقصاف سهم واسترخاء أساس) فهما يقولان: (6) السهم جائز السقف أو جائزته فماذا استفدنا نحن من تذكير لفظ جائز مرة وتأنيثه أخرى، ما دام المعنى قد صار أغمض مما كان؟ فهل يعقل وقوع مثل هذا من عالمين فاضلين كالشارحين؟ إني أترك للقارئ الحكم على هذا العمل فالقول لا يتسع له. وأعجب ما في عناية الشارحين باللغة أنهما حاولا أن يشرحا كل شيء حتى شرحا البديهي أو ما هو أوضح من البديهي.
وقد تعجب من قولي أوضح من البديهي! ولكن أسمع، فهما في ص 73 يعلقان على كلمة أصبح بقولهما: (1) أصبح: دخل في الصباح!!.
وهذه مسألة أخرى أثارها تفسير الشارحين لكلمة أصبح.
هل نحن الذين ندخل في الصباح أم الصباح هو الذي يدخل علينا؟ وهل الصباح هو الواقف ونحن المتحركون، أم هو المتحرك ونحن الجامدون!!! ماذا يسمي القارئ هذه العناية بالصغائر، وتفسير ما لا يحتاج إلى تفسير، والإغضاء عما في كتب السابقين من اضطراب، من رجلين وكل إليهما أمر إصلاح العربية في وزارة المعارف وفي مجمع اللغة؟! نعود بعد ذلك إلى تتبع سقطات الشرح بحسب ترتيب الكتاب فنقول: في ص 27 يقول الجاحظ: (ولك في هذا الكتاب ثلاثة أشياء: تبين حجة طريفة، أو تعرف حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة) فيضبط الشارحان كلمات: تبين وتعرف واستفادة بالكسر، ولا يتركان هذا الضبط دون تنبيه على سببه حتى كان يصح أن نحمل الخطأ فيه على الطابع الذي نحمله في كثير من الأحيان ما لا جناية له فيه، حتى لقد أسودت أعضاؤه وثيابه من تحمل غلطاتنا كما أسود الحجر الأسود من مسح الناس ذنوبهم فيه. لم يترك الشارحان هذا الضبط الخاطئ من غير تعليق بل لقد علقا عليه بقولهما: (3) تبين بدل من أشياء.
وأنا أربأ بكل قارئ عن أن أوجه إليه بيان الخطأ في ذلك فهو أمر ظاهر لكل من به مسكة من نحوية، ولكني أوجه قولي في ذلك إلى طلاب السنة الثالثة أو الرابعة من المدارس الابتدائية فأقول لهما إذا قلنا حضرني ثلاثة رجال محمد وعلي ومحمود، أليس محمد بدل بعض من لفظ ثلاثة لأنه بعضها، وإذا ضممناه إلى أخويه كان المجموع هو المدلول (ثلاثة) فكيف يجوز الإبدال من لفظ أشياء في جملة الجاحظ وهي بمثابة كلمة رجال في جملتنا هذه الصغيرة؟ ألم يقل النحاة إن البدل على نية تكرار العامل، فإذا أبدلت من كلمة رجال كان تقدير الكلام حضرني ثلاثة محمد وعلي ومحمود (بالإضافة).
فهل يسوغ هذا القول في ذوق أو فهم؟ هذه غلطة لو ضبطها أحد المفتشين لمعلم صب عليه غضبه وأعاده من الثانوي إلى الابتدائي وحرمه من العلاوة حين يجئ دوره فيها، بل إذا وقع فيها تلميذ في امتحان الابتدائية وكان نجاحه يتوقف على التسامح فيها لم ترض للمفتش غيرته على العربية أن يتسامح فيها ورسب التلميذ من أجل ذلك في الامتحان، وربما كان رسوبه قضاء على آماله فانتحر ولكننا نرى الشارحين قد وقعا فيها وأكداها بالتفسير والتعليق ومع ذلك لم ينقلا من عملهما ولم يحرما علاوة لهما، ولم.

الخ. وفي الصفحة عينها ينقل الجاحظ قول بعض الحكماء لرجل اشتد جزعه من بكاء صبي له: (لا تجزع فإنه أفتح لجرمه وأصح لبصره) فيعلق الشارحان على ذلك بقولهما: (13) أفتح لجرمه، الجرم الجسم وأفتح له: أعظم إنماء له.
والمعجم الذي نقلا منه أن معنى الجرم الجسم، هو نفسه المعجم الذي يفسر الجرم بالحلق.
فانظر إلى أي حد يتخط الصواب مع وضوحه، ويجنح للخطأ مع شناعته وبعد تصوره؟!! وقبل أن تختم مقالنا هذا نرجو من حضرة صاحب المعالي وزير المعارف أن يلقي باله إلى كلامنا ويقيسه بمقياس العلم الذي ينشره أو الجهل الذي يحاربه.
فوزير المعارف حريص على الحقائق خصوصاً إذا كان قد دفع من خزانة الدولة ثمناً باهظاً لها. (للكلام بقايا) محمود مصطفى المدرس بكلية اللغة العربية

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن