أرشيف المقالات

كيف يرقى الأدب

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 للأستاذ احمد أمين أشرت في مقال سابق إلى العلاقة بين الذوق العام ورقي الأدب، ووعدت القراء أن أعود إلى هذه العلاقة، أزيدها بسطاً وايضاحاً، وذلك ما أحاوله في هذا المقال. يذهب بعض المفكرين إلى أن الفنون (ومنها الأدب) ترتقي وتنحط، وتعلو وتسفل، وتتقدم وتتأخر، في الأمم اعتباطاً من غير أن يكون لذلك أسباب.
أو على الأقل أسباب ظاهرة، فالناظر لتاريخ الفنون في العالم يرى أن أمة في عصر من العصور قد ترقى في فن من الفنون، كالموسيقى أو الحفر أو التصوير أو الشعر، على حين أن أمة أخرى ترقى في فن آخر من هذه الفنون، ثم بعد رقي عظيم تنحط الأمة في هذا الفن ويحل محل الفن فن آخر.
أو لا يحل محله شيء، وتتبادل الأمم ذلك من غير أن يكون لهذا التقدم وهذا التأخر علة مفهومة، وشأن الفنون شأن النابغين، فقد ينبغ النابغ في أمة ولا نعرف لم نبغ وكيف نبغ، وتحاول الأمة أن تخلق نابغين فلا ينخلقوا.
بل ترى الأمر عجباً، فقد يوجد النابغة والأمة على أسوأ ما يكون من ضعف في الخلق، وضعف في العقل، ثم ترقى الأمة عقلاً وترتقي خلقاً، وكان مقتضى هذا أن يكثر عدد النابغين فيها ويزدادوا نبوغاً بازدياد الأمة رقياً فينعكس الأمر حتى لتجد الأمة وأعضاؤها قوية ولا رأس، بينما كان لها في حال ضعفها رأس قوي ولا أعضاء، ما ذاك إلا لأن النابغة يوهب ولا يخلق.
وقد قال هؤلاء إن الفنون في ذلك ليست كالعلوم، فالرقي في العلوم سبيله ميسور ممهد، وتستطيع الأمة أن تضع لها خطة تسير عليها لترقى في الطبيعة أو الكيمياء أو الرياضة.
فإذا هي جدت في ذلك وصلت إلى درجة من الرقي تناسب جدَّها واستعدادها، ولكنها لا تستطيع أن تضع خطة تسير عليها للرقي في الشعر والموسيقى والتصوير، لأن ذلك نوع من الإلهام، والإلهام بيد الله يمنحه من يشاء كيف شاء متى شاء.
ولعل الكاتب يشعر بهذا تمام الشعور في نوع ما يكتب، فهو إذا أراد أن يكتب بحثاً علمياً أو يحقق لفظاً لغوياً أو يحرر حادثاً تاريخياً، فهو في اكثر أوقاته مستعد لذلك، ما لم يكن مريضاً أو مهموماً، ولكنه وإذا شاء أن يكتب قطعة فنية أدبية إنشائية لا يستطيع ذلك إلا في حالة نفسية صافية، ومزاج يتناسب والقطعة الفنية التي ينشئها، من حزن أو سرور، وحلم أو غضب، ويصادفه وقت هو كما يسميه الصوفية - وقت تجلٍّ، يجيد فيه ويغزر ويسمو فيه ويصفو، ويعجب كيف أجاد وكيف غزر، ثم هو يحاول بعد مراراً أن يخلق مثل هذا التجلي، فيفشل ثم يفشل، ويحار في تعليل ذلك، وتعليلها هو ما قاله علماء الكلام (ولم تكن نبوة مكتسبة) هو في العلم مالك وقته يصرفه كما يشاء وهو في الأدب ينتظر الإلهام. وقالوا إن رقي الأمة في الأدب لا يرتبط بدرجة ثقافتها، ولا برقيها العقلي، ولا بأي سبب من الأسباب، فالأمة المصرية قديما رقيت في فنون النحت والنقش والبناء رقياً بديعاً جعلها من أساتذة العالم في هذا الباب، وخلّفت على مر الأزمان ثروة لا تقوّم، ولا تزال قبلة الفنانين تستخرج إعجابهم وتلهم أذواقهم، والمصريون الآن ليسوا أساتذة في الفن، حتى ولا تلامذة، مع أن أحداً لا يستطيع أن يقول أن المصريين القدماء كانوا أرقى منا عقلاً وأعلى ثقافة.
وكذلك يشكو كثير من الأوروبيين من أن الفن (ما عدا الموسيقى) أخذ يتدهور من القرن السادس عشر مع أن انواع العلوم في رقي مستمر.
وعقليات الأمم في تقدم دائم، ولو كان الأمر بالعلل والأسباب المنطقية لوجب أن يكون المصريون اليوم أعلى فناً وأكثر نبوغاً، ولكان الفن الأوربي الآن أسمى وأتم منه في القرون الوسطى، فأما وقد عجز المنطق عن تقديم مقدمات ونتائج صحيحة فليس إلا الإلهام، وليس للأمة إلا أن تنتظر ما يأتي به القدر. هكذا قالوا، أو حالوا أن يقولوا، وبهذا احتجوا، أو حاولوا أن يحتجوا ولكن هل هذا صحيح؟ إن في هذا الرأي غلواً مفرطاً، انه يخرج الأدب عن دائرة الإرادة ويجعله مجرد انتظار للوحي والإلهام، ومن الحق أن للأدب خطة تنتهج كمنهج العلم، وأن من نعده للأدب يجب أن تثقفه ثقافة خاصة كالذي نعده للعلم، ولكن من الحق أيضاً إننا لا نخلق الأديب ببرنامجنا، بل لابد أن تكون قد هيأته الطبيعة ومنحته استعدادات خاصة وكفايات ممتازة، وتهيؤا لقبول الإلهام، ولكنه في كل ذلك كالعاِلم، فبرنامج العلم لا يخلق نابغة في العلم انما يعده، والعالم لابد أن يكون مهيأ للإلهام كالأديب، واكثر المخترعات والمستكشفات في العالم كانت نتيجة الهام اكثر منها نتيجة لمقدمات منطقية وتجارب عملية، وانما التجارب تهيئ للإلهام وتحقق ما يأتي به، وتبين صحيحه من فاسدة وتسمى هذه الإلهامات فروضاً. ويظهر أن اتجاه هؤلاء الباحثين هذا الاتجاه سببه عقيدة سادت بين علماء الفن وعلماء الجمال عهداً طويلاً وهي (ان الذوق لا يعلّل) فالناظر ينظر إلى الصورة فيستجملها أو يستقبحها، فإن أنت سألته لم أستجملها أو لم استقبحها لم يحر جواباً، وإذا أجاب أجاب بكلمات منمقة ولكنها جوفاء لا تحوي علة ولا توضح سبباً، وانما هي نفس الدعوى بألفاظ رشيقة جميلة، وإذا رأيت طاقة من الزهر قلت ما أجملها ولكن إن سئلت لم كانت جميلة قلت انها منسقة، انها بديعة الألوان، أن نفسي لترتاح إلى رؤيتها، انها لتسر النظر، وتبهر العقل، وأنت غنى بعدُ عن أن أقول لك إن هذه الألفاظ وجمل قد ترضي البلاغة ولكن لا ترضي المنطق وقد تعرض صورة أو يظهر إنسان امام جمع من النظارة فهذا يستحسنه وذاك يستقبحه، وثالث لا يستحسنه ولا يستقبحه، فإذا سألت من استحسن لم استحسن ومن استهجن لم استهجن، ومن حايد لم حايد، كانت الإجابات مثاراً للعجب وموضعاً للضحك، وقد ترى إنساناً كل عضو من أعضائه على انفراد جميل، ولكنه ليس جميلاً ككل، فما الذي كوّنه هذا التكوين؟ وما الذي وضعه هذا الوضع؟ ولم استحسنته مفرقاً ولم تستحسنه جملة؟ لا شيء في الحقيقة إلا الذوق الذي لا يعلل، وهذا هو الشأن في الأدب، وأظهر مثل لذلك ما فعله عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ودلائل الأعجاز، فماذا صنع؟ انه يأتي بالبيت الجميل ثم يقف ويتساءل فيم كان جماله، فما هو إلا أن يصوغ لك جملاً رشيقة فيقول: إن هذا اللفظ يروقك ويؤنسك، وغيره يثقل عليك ويوحشك، وهذا الوضع يبهرك جماله، وهذا النظم يأخذ بلبك ما فيه من نسج وصياغة، ووشي وتحبير، ويعلل سبب ذلك أحياناً بالتقديم والتأخير، وأحياناً بالفصل والوصل , وكلها علل لا تصلح، فأنا كفيل بأن آتيك بتقديم يحسن، وتقديم مثله يقبح، وفصل يروعك وفصل مثله يسوءك وقد حاول أن تفرق بينهما فلا تستطيع، ثم تسلم سلاحك وتكتفي بأن تقول هذا جميل، وهذا قبيح، وهذا يحسن في ذوقي وهذا لا يحسن، وبذلك تكون قد قطعت شوطاً بعيداً، ثم في آخر الأمر عدت إلى النقطة التي بدأت منها سيرك، وما علوم البلاغة كلها إلا محاولة لتعليل الذوق الأدبي، ولكن هل أفلحت في التعليل؟ إنا لنخشى أن تكون قد دارت حول نفسها، ولم تأت بشيء (لأن الذوق لا يعلل). وإذا كان الذوق لا يعلل فكل ما ترتب عليه لا يعلل، وإذا كان الفن وليد الذوق فالفن لا يعلل، ولا يعلل كيف ظهر وكيف قوى وكيف ضعف. هكذا ايضاً قالوا أو يصح أن يقولوا.
وهذه الآراء وإن كان فيها شية من الحق ليست حقاً كلها، وليست حقاً في أساسها، وقد بذل بعض العلماء المحدثين مجهوداً حميداً في بيان ما فيها من حق وباطل وحاولوا أن يفلسفوا الذوق، ويفلسفوا الجمال ووضعوا للذوق والجمال علماً وعدوه فرعاً من فروع الفلسفة، وحاربوا الفكرة السائدة: (إن الذوق لا يعلل)، ووضعوا قواعد لتعليله نجحوا فيها أحياناً وفشلوا أحياناً، ولا يزال مجال البحث أمامهم فسيحاً، وكان لهذا الاتجاه الجديد في عالم الجمال أثر كبير في خلق نظريات في الأدب، ووضع أسس جديدة للبلاغة والنقد الأدبي مما ليس هذا موضعه. والذي أميل اليه أن الفن نتيجة الذوق لا محالة، وأن الذوق يمكن تربيته وترقيته، فالطفل إذا لفتَ نظره إلى الأزهار وجمالها تكوّن فيه الميل إلى حبها والاستمتاع بها، فإذا كان يعدُ أديباً اتصلت حياته الأدبية بها، وظهر في نتاجه الفني هذا الحب وهذا التقدير. والذوق العام للأمة في قوته وانحطاطه، ليس يظهر فجأة ولا نتيجة المصادفة البحتة، انما هو نتيجة لكل ما يحيط بالأمة من ظروف وأحداث، هو نتيجة النظم السياسية، والحياة الاقتصادية والاجتماعية، والثقافة العقلية وغير ذلك، وإن شئت فقل أن ذوق الأمة هو تعبيرها عما تُقوِّم، فالأمة إذا قَوّمت المناظر الطبيعية تذوقتها، وإذا قومت جمال الأزهار تذوقته، وإذا لم تقوم نظام المجتمعات لم تتذوقه ولم يجرح ذوقها تهويش على محاضر أو مغن أو ممثل والفنان ليس إلا معبراً عن ذوق الأمة، والأديب ليس إلا الموقع للأصوات التي تستلذها الأمة. ومن أهم الأسباب ضعف الأدب العربي مسألتان تتصلان بهذه الحقيقة: الأولى أن الأدب العربي لا يتصل بالذوق العام للأمة اتصالاً وثيقاً، لأنه يصاغ بلغة غير لغة الشعوب، ولا يتصل إلا بذوق خاص وهو ذوق محترفي الأدب، ومن تكون ذوقهم تكّوناً كلاسيكياً , ولا أمل في نجاحه إلا أن نعمل بأي شكل كان على ان نصل الأدب أو أكثره بالذوق العام، والثانية تتصل بالأولى.
وهي أن الآداب في أكثر الأمم كانت أرستقراطية النزعة يوم كانت القوة في يد الأرستقراطيين، فلما انتشرت الديمقراطية تبعها الأدب، فأصبح ديمقراطي الموضوع، ديمقراطي النزعة، أما الأدب العربي فقد أصبح أرستقراطيا منذ العهد الأموي، وأصبح أهم انواع الأدب إنما ينشأ حول قصور الأمراء والأغنياء، وفي الموضوعات التي تناسبهم من مديح لهم وهجاء لاعدائهم، فلما عمت النزعة الديمقراطية العالم لم تؤثر في الأدب العربي أثرها في غيره من الأداب، بل ظل محتفظاً إلى حد ما بأرستقراطيته، وهذا قلل من غير شك اتصاله بالذوق العام للأمة.
وقد نعود إلى توضيح ديمقراطية الأدب في مقال تال. على كل حال لا وسيلة لترقية الفن ومنه الأدب إلا بترقية الذوق، وربط الفن به، ولذلك وسائل: من أهمها التأذين في الناس بصوت عال يهزهم هزاً عنيفاً حتى يشعروا بأن أذواقهم مريضة، لا يشعرون بالجمال كما ينبغي ولا يهيمون بالحسن كما يجب، ولست اعني جمال الوجوه وحدها، ولكن جمال الأزهار، وجمال الطبيعة، وجمال الموسيقى، وجمال الحركة، وجال النظام، وجمال النظافة، وجمال المعاني، ويجب أن لا يقتصر دعاة الفن على الدعوة لجمال الكرنك وأنس الوجود والمساجد الأثرية بل يجمعون إلى الدعوة لجمال الماضي وجمال الحاضر.
وهذا أكثر وضوحاً في الأدب فدعوة الأدباء دائماً وقول الأدباء دائماً انما هو إلى الماضي وفي الماضي، وهذا حسن لدرجة ما ولكن يجب أن يقرن به الدعوة القوية أيضاً إلى النظر إلى أنفسنا والقول في أنفسنا. يجب أن نغير تسعيرة الأشياء، ونضع تسعيرة جديدة لما يدور حولنا، ونضع أمام ناشئتنا قيماً جديدة لما يقع عليه نظرهم، فإذا كانت بيوتنا تعنى بكمية الأكل وتعطيها أكبر قيمة، وجب أن نرفع قيمة الكيفية فنضع قيمة كبرى للأزهار على المائدة ولجمال الترتيب والنظام ولجمال الحديث. يجب أن نوجه إرادتنا في ترقية الذوق كما نوجه إرادتنا لترقية العلم وترقية النظام السياسي، ونضع للذوق برامج كالتي نضع لبرامج التعليم. إنا إن فعلنا ذلك تمخض المجتمع عن فنان ماهر، وأديب قادر.

شارك الخبر

المرئيات-١