أرشيف المقالات

رِسَالة الفَن

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 فيدياس للدكتور أحمد موسى كان لاستيقاظ الشعب الإغريقي ونمو الروح الوطنية فيه بعد الحروب الفارسية أن ازدهر فن النحت على أيدي الذين استطاعوا السيطرة على الخلْق التكويني، ووصلوا إلى أقصى درجة من الإعجاز في إخراجه، فكان لمنحوتاتهم أن مثلث المثُل العليا أسمى تمثيل وعبرت عن الوصول إلى درجة الكمال؛ فارتبط الواقع بالجمال المُثلى، وظهر النحت الإغريقي بمظهر لا يزاحم فيه إطلاقاً. وكان استعداد الإغريق للنحت هائلاً، فجعلوا من تماثيلهم البارزة ونصف البارزة ما سجلوا به الموهبة الفطرية والعقلية والفنية في هذا المجال. ولهم من منحوتاتهم ما أظهر عقائدهم الدينية والكيفية التي كانت تسير عليها عاداتهم فضلاً عن حياتهم العامة التي كانت الألعاب الرياضية ركناً هاماً من أركانها. وكان ولا يزال وسيظل النحت الإغريقي مثار إعجاب الإنسان المتحضر ورمزاً للتفوق ومثلاً عالياً يحلق في سماء الفن، لا يمكن لطامح أن يعلق بأطرافه. وللنحت في بلاد الإغريق مناطق ومراحل ومدارس.
أما من حيث المناطق فخيرها لهذا المقال منطقة أثينا، وأما المرحلة الزمنية فهي المحصورة بين سنة 470 وسنة 330 قبل الميلاد، لأن هذه هي مرحلة (عصر الرفعة) أو (الازدهار). على أنه يمكن تقسيم هذا العصر إلى قسمين: أولهما أو أقدمهما استغرق القرن الخامس قبل الميلاد (من كيمون إلى حرب البيلوبونيز) وفيه تناول النحات الإغريقي الحقيقة الواقعة أمام عينيه في أحسن وضع لها؛ فلم تكن تنتحي هذه الحقيقة إلى فرد بعينه، بل إلى النوع كلية، في شيء من السمو في الخيال والتصور، فكانت طابعية النزعة وليست طابعية الإخراج. ومع هذا لا يزال المشاهد يتصور أو يظن (وحيناً يعتقد) أن التماثيل - في تلك المرح على الأقل - قد عبرت بتفاصيلها وطريقة إخراجها عن أصحابها التي نحتت من أجلهم تعبيراً حقيقياً أو طبيعياً، ولكن هذا بعيد الاحتمال بالنظر إلى ما في تكوينها من جمال ساحر قلما يوجد مثله في النوع الإنساني. ولعله جدير بالذكر أن المظهر الكلي والمجموع الإنشائي لمنحوتات (عصر الرفعة) أو (الازدهار) يعطي فكرة المبالغة في الأحجام مع تمام التناسب، ولم يقصد النحات الإغريقي من ذلك إلا إبراز المعالم في مظهر من القوة وعلو الهمة ووجود الشخصية، في هدوء نفساني وبعد عن العنف. وأما الحركة الجسمانية التي تعبر عن الحيوية فهذه مع بساطتها - نسبياً - من حيث التنويع؛ فإنها عبرت خير تعبير عن اليقظة والنشاط. ولا يوجد من يمكن اعتباره في مقدمة هذا العصر سوى زعيم المدرسة الأتيكية القديمة (نسبة إلى أتيكا) ألا وهو فيدياس الذي لا يزال ليومنا من أعظم فناني العالم أجمع. ولد فيدياس بن خرميدس الاثيني في عام 500 ق.
م.
واشتغل مصوراً في أول الأمر ثم تتلمذ على وبعدئذ استقل في عمله حتى استدعى لنحت تمثال زويس المعروف في أوليمبيا، وعاد إلى أثينا والتقى فيها ببركليس وعمل في البارتنون. وبعد ما أتم تمثال أثينا سنة 483 اتهم بالخيانة وطلب للمحاكمة ولكنه مات قبل الحكم عليه. وأبرز مميزات فنه أنه أول وأعظم مثال مُثلى بكل معاني الكلمة، لا سيما وأنه حصر مجهوده الجبار في خلق تماثيل الآلهة واستطاع التعبير عن المثل الأعلى في التكوين الجسماني المتناسب مع تمثيل الآلهة، فاتخذ من جسم الإنسان مادة بيانه، ولكنه ارتفع بتماثيله إلى المستوى الذي أبعدها عن الصفات البشرية وقربها من الألوهية؛ فبدت في غاية كمال الانسجام التفصيلي للأعضاء ونهاية الكمال المجموعي للإنشاء، وأصبحت مدرسة أتيكا تسير على منواله وعرفت بهذه الميزات الرائعة من بعده. اشتغل فيدياس بنحت تماثيله من سن الفيل والذهب حيناً، ومن البرنز حيناً آخر ولكنه نحت في الرخام نادراً. أما أعماله التي استطعنا أن نقف عليها فأولها تمثاله لأثينا برماخوس على مرتفع أكروبوليس وكان ارتفاع هذا التمثال نحو العشرين متراً.
وقد سبق أن نوهنا بذكره في مقال سابق. وله أيضاً مجموعة رائعة مثلت ملتيادِس القائد الذي انتصر على الفرس في موقعة ماراتون سنة 490 ق.
م.
وحوله الآلهة وأبطال أتيكا، كما مثل الأثينيين يقدمون الهدايا والقربان في دِلفي. هذا إلى جانب تماثيل معبد زويس الذي اعتبره الإغريق إلهاً للسماء والبرق والضوء، والذي يقابله الإله جوبيتر عند الرومان، وتماثيل معبد أثينا بارتنوس وكان الجسم مكوناً من سن الفيل والملبس من صفائح الذهب؛ وقد تم تمثال زويس سنة 448 ولكنه حرق بعدئذ، ولولا الصور التي سُكّت على نقود إليس لما أمكننا أن نعرف من شكله شيئاً.
جلس زويس (ش1) على عرش بديع حاملاً بيمينه إلهة النصر وفي يساره العصا، وواضعاً قدميه على كرسي صغير خصص لهذا الغرض، وأحيط الرأس بغصن الزيتون فوق شعره المجعد، كما أحيط الوجه بذقن كثيف.
وإذا تأملت صورة اليمنى فإنك تجد القوة والنبل والجمال السامي مرتسماً في وضوح على وجه زويس.
وقد تحلى الملبس ببعض رسومات ملونة على الذهب.
أما قاعدة العرش فقد تحلت برسومات تمثل مولد أفروديت إلهة الحب عند الإغريق، والتي خلقت كما هو مذكور في قصص الآلهة، من زبد ماء البحر.
ولا بد لنا من أن نذكر أن نظرة زويس تدل على الحلم والجبروت، وهذا منطبق على صفة الألوهية في معناها الكامل. وكان تمثال أثينا بارتنوس من سن الفيل والذهب أيضاً، أتمه سنة 438 إلا أنه اختفى منذ أوائل القرن الرابع.
وكان ما حصلنا عليه تمثالان منقولان عن الأصل، أحدهما كبير عن الآخر، وهما محفوظان في متحف أثينا.
ويخيل إلينا أن الأكبر منهما أقرب إلى الأصل بالنظر إلى ما فيه من تفاصيل تتناسب مع ما عرف عن فيدياس وما امتاز فنه به من طابع خاص. وله قطعة تمثل أثينا وهي من بدائع معروضات متحف عاصمة بلاد اليونان.
هذا عدا تمثال برنزي على جانب عظيم من الجمال لأثينيا ليمنيا قدّمه الليمنيون إلى مرتفع أكروبوليس. وفي متحف درسدن تمثالان رخاميان مماثلان له يظهر أنهما منقولان عنه.
أما في روما فله تمثال لأفروديت أورانيا، ولهِرمس ابن زويس الذي اعتبره الإغريق إلهاً للرعاة ورسولاً للآلهة وإلهاً للطرق والتجارة، وهو الذي يقابل عند الرومان الإله مِركور. وكان لفيدياس تلامذة أمجاد منهم من سار على خطاه مثل أجور الذي ساعده في العمل بأوليمبيا، ومنهم من ارتسم لنفسه خطة خاصة مثل ليكيوس بن ميرون وتلميذه، وسترونجيليون الذي كان بارعاً في نحت تماثيل الخيل في حالة السير والتسابق، وكريزيلاس. واستعان في خلق تمثال زويس بشعر هوميروس الذي فيه وصف الإله وصفاً مكن النحات من خلقه (ش2).
ولعلنا بالمقارنة بين الرأسين نجد غنى الفنان واضحاً جلياً، فلا ملامح متشابهة ولا الشعر على أبسط جانب من التماثل. ونختار هنا جانباً من التماثيل المنحوتة في جزء من وسط المثلث الواقع تحت جمالون الواجهة الغربية لمعبد زويس في أوليمبيا لنقف على مدى العظمة الفنية التي تجلت في عمل فيدياس (3). أنظر إلى تفاصيل الأجسام، وتأمل تكوين العضلات، وشاهد الحركات الرائعة في كل جزء من أجزاء القطعة، ثم انتقل بنفسك فجأة إلى مصر وإلى من يقدّر الفن فيها ويفهمه، تجد أننا بحالتنا الراهنة لا نستطيع أن نخلق جيلاً يتذوق الجمال في الوقت الحاضر. أما المستقبل فهو رهين بما نعده الآن، فإن لم يتكاتف الشعب المصري مع الحكومة كلٌّ في دائرته على إحياء الفن والعمل على تعليم النشء كيف ينظر وكيف يتأمل وكيف يتذوق فلا أمل عاجلاً أو آجلاً في شيء. أحمد موسى

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١