أرشيف المقالات

نقص أم ماذا. . .؟

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني كان معي - وأنا مدرس في مدرسة دار العلوم - أستاذ إنجليزي كانت بيني وبينه صداقة وثيقة.
وكنا نعلم الطلبة مبادئ اللغة الإنجليزية، فأقبل علي يوماً يقول: (لقد أخفقت وأحسب أن من واجبي الآن أن أقنع رؤسائي بنقلي إلى مدرسة أخرى، فما في بقائي هنا خير، ولست أدري كيف تصنع أنت، ولكن الذي أدريه أني أنا أخفقت) فقلت له وأنا أمازحه: (أقعد، أقعد، وحدث (عمك) المازني بما تعاني وتكابد.
ما هي الصعوبة اليوم؟)
قال: (سأخبرك.
إن كل طالب يسألني مثلاً عن الفعل - يجلس - كيف انقلب فصار - جلس - فلا أستطيع أن أجيب بكلام معقول مقبول يرتاح إليه العقل.
هم يريدون سبباً ويطلبون تعليلاً، وأنا لا أعرف إلا أن هاتين صيغتاه في الحالتين.
وقس علي هذا)
قلت: (هل تطيعني إذا أشرت عليك بأمر؟) قال: (أتمزح؟) قلت: (أمزح.

أجد.

سيان.
المهم إنقاذك من الورطة.
اسمع يا صاحبي.
لقد كنت أظن أنك أفدت شيئاً مما تعلمته من قواعد اللغة العربية.
وكنت أحسب أن ذهنك مرن، وأن لك قدرة على الاقتباس والقياس.
وكنت أتوهم أنك تستطيع أن تخاطب كل فريق من الناس بما يفهمون)
قال: (لست فاهماً) قلت: (ألم يعلمك شيوخك في اللغة العربية أن (قال) أصلها (قَوَلَ) وأن الواو فُتح ما قبلها فصارت ألفاً؟) قال: (نعم) قلت: (هل تستطيع أن تزعم أن هذا كلام معقول مقبول يستريح إليه العقل؟) قال: (لا) قلت: (ولكنك سلمت به بلا جدال، وأخذته عن مشايخك بلا مناقشة أو تفكير، وأجبت به في الامتحان بلا تردد، وأنت تزعم اليوم أنك تعرف العربية حق معرفتها، وأنك أخذتها ع أهلها) قال: (ولكن ما دخل هذا في موضوعنا؟) قلت: (كنت أحسبك ذكيّاً ولبيباً، فإن هذا هو حل المشكل.
بهذه العقلية التي جعلتك تسلم بإن قال أصلها قَوَل، فُتح ما قبلها فانقلبت ألفاً، يجب أن تخاطب الطلبة.
فاذهب وقل لهم إن أصلها وإن حرف العلة فتح ما قبله فانقلب فسترى أن هذا يسرهم ويكفيهم، وستجد أنك استرحت بعد ذلك من كل عناء)
فصاح بي: (ولكن هذا غير معقول) قلت: (إنه معقول كقولك إن قال أصلها قَوَل وأن الواو فُتح ما قبلها إلى آخر هذا الهراء.
ولا تحتقر تلاميذك حين تراهم يصدقون أن أصلها وأن حرف العلة فُتح ما قبله إلى آخر هذا الهراء، أو حين يتوهمون أنهم فهموا.
فلست خَيراً منهم، وما أكثر ما يتوهم الإنسان أنه فاهم، وهو غير فاهم شيئاً.
اذهب وافعل ما أشير به وأخبرني بالنتيجة، وإن كنت أعرفها من الآن كلها.
لن تقول لي بعد الآن إنك أخفقت، وإنك ستطلب من الوزارة النقل إلى مدرسة أخرى)
وقد كان، وسكنت الثورتان: ثورة الطلبة على المدرس، وثورة المدرس على نفسه. وهذا استطراد بدأت به، أما ما كان العزم أن أقوله فهو أن هذا الصديق المدرس سألني يوماً وقد علم أني رُزقت طفلاً: (حدثني عنه.
صف لي كيف تحبه!)
قلت: (لا أعلم أني أحبه) قال: (لا تتكلف الفلسفة) قلت: (الحقيقة أني حائر، لا أشعر بأية عاطفة، ولا أحس أن لي به سروراً كذلك الذي أسمع وأقرأ أن الأدباء يحسونه بنيهم؛ وإني لمستغرب) قال: (أتتكلم جاداً؟) قلت: (إني جاد جداً.
وثق أني حائر)
قال: (لعل العاطفة راقدة، وعسى أن تكون محتاجة إلى ما يوقضها وينبهها) قلت: (عسى) وانتقلنا إلى حديث آخر، ومضت الأيام وماتت البنت - فقد كانت بنتاً - فلم أرني حزنت أو جزعت، ولم يكن هذا كافياً لتنبيه عاطفة الأبوة التي قال لي صاحبي أن أكبر ظنه أنها راقدة.
ولي الآن من البنين ثلاثة، وقد استطعت أن أوحي إلى نفسي حب بنتي التي ماتت، وحب أخرى جاءت وذهبت مثلها، وحب البنات على العموم دون البنين، أو أكثر من البنين، ولكني أدرك أن هذا فعل الإيحاء لا فعل الطبيعة، وأعرف من نفسي أني لا أعرف لبنيّ مثل ما يعرف الآباء غيري.
نعم أشفق عليهم وأعني بهم، ولكني لا أشعر لهم بتلك الرقة التي أسمع بها.
ويخيل إلي أن العادة هي منشأ ما أحسه لهم، وأني أرحمهم لأنهم صغار ضعاف، وأعني بهم لأني جئت بهم فأنا مسئول عنهم.
وكثيراً ما أضجر وأمل، وأسأل نفسي متى يكبرون ويستغنون عني، فأحط عن كاهلي عبئهم، وأرتاح منهم، وأعيش وحدي مستقلاً عنهم؛ وأرحل وأغيب، فلا أحن إليهم إلا حنة المرء لعشيره وصديقه، ولمألوفه. وكان لي أخ أسن مني، وكنت أوقر سنه، ولكني لم أكن أشعر له باحترام أو حب، كالذي يكون بين الأخوين عادة.
ولم أبكه لما مات، وإنما سخطت على ضعفه الذي قتله، فقد كانت امرأته تركبه كالحمار، وكان يشكو لي هذا، فأضجر، وأقول له: (ما الفائدة؟ إنك ضعيف، وهي تركبك، ولا أمل فيك ولا خير في الشكوى، فاحتمل على قدر طاقتك، فما خلقك الله لغير هذا) فيقول: (نعم، صدقت.
يجب أن أحتمل)
فأنهض من مجلسه مشمئزاً، وإن كنت فيما عدا ذلك أستظرفه وأستخف ظله، وأحب فكاهته، ولكن ضعفه كان يهيج نفسي عليه، وقد مرضت جدتنا فلم يعدها لأن امرأته أبت عليه ذلك، فلما ماتت جاء ليمشي في جنازتها، فأبيت عليه ذلك وقلت له: (كان الأولى أن تعودها في حياتها لتسرها على الأقل ولتعفيها من شعور الحسرة، أما الآن فأولى بك أن تذهب إلى بيتك) ففعل. وانقطع ما بيني وبينه سنوات لم أشتق إليه فيها قط، ثم التقينا اتفاقاً فتصافحنا في صمت ثم نزعت يدي، ومضيت لشأني ومضى في سبيله.
وقد قصصت هذا لأصف شعوري الحقيقي. فهل هذه بلادة؟ أو هي نقص في بعض جوانب النفس؟ أم ذلك لأن عاطفتي الأدبية تستغرق نفسي كلها؟ أم لأن حبي لأمي استنفد ذخيرة النفس من هذا الحب؟ فقد كان حبي لأمي - وما زال - أقوى ما استولى على نفسي، وكان هو العامل المؤثر في سيرتي، فكنت إذا هممت بأمر أسأل نفسي: (ماذا ترى يكون رأي أمي في هذا؟) فإذا كان الجواب خيراً أقدمت، وإلا صددت نفسي وكبحتها عن مرادها، وصرفتها عما تحاول.
أم ترى التعليل الصحيح أن البنين والأخوة والأقرباء على العموم نتيجة المصادفة، ليس إلا؟ لا أدري.
وأكبر الظن أن بي نقصاً، فإني فيما عدا حبي لأمي، لم يغلبني حب قط - لا حب امرأة، ولا حب أحد من البنين أو الأقارب.
ولست أرى الناس كذلك، وليس من المعقول أن أزعم أن الناس غيري شاذون، وأني أنا وحدي الطبيعي، والأولى والأقرب إلى العقل أن آخذ بمنطق (قراقوش) فأصدق الناس، وأرفض زعم الفرد. إبراهيم عبد القادر المازني

شارك الخبر

المرئيات-١