أرشيف المقالات

ابن الرومي

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 الشاعر المصور للأستاذ عبد الرحمن شكري يولع الناس في الحياة عادة، لتسهيل فهم الأنفس والأمور وتبسيطه، بأن يجعلوا لكل نفس أو أمر صفة يرمزون بها أو معادلة أو قاعدة، وفي ذلك أضرار، منها أن العجلة قد ترمز للأمر أو النفس بصفة لا تتفق وأكثر الخصائص المراد تلخيصها بالرمز أو تختلف عنها كل الاختلاف، وإذا تعلق الناس بالرمز صعب إصلاح خطئهم وصعب حملهم على تغيير زيهم وصعب عليهم فعل الأمر الذي يعالجونه أو النفس التي يتفهمونها، أو قد يكون الرمز منطبقاً على جانب صغير منها فيغفل الناس عن الجانب الأكبر.
على أن الرمز إذا وافق الجانب الأكبر فهو قد يغري أيضاً بالغفلة عن الجانب الآخر الذي لا ينطبق عليه الرمز فيتسرب الخطأ في هذه الحالة أيضاً، ولكن إذا تأنى المفكر في وضع الرمز واختياره وقدّر أن يكون مخطئاً في بعضه أو كله وحسب حساب مالا ينطبق عليه الرمز حتى في حالة الإصابة كان فعله مسهلاً للتفكير والفهم وتذوق الأمور.
وعلى هذا الشريط نبيح لأنفسنا أن ننظر إلى كبار الشعراء على ضوء رمز نرمز به إلى كل منهم وصفة نصفه بها، فنقول إننا نتذوق أبا تمام كأنه خطيب عبقري بصير بأساليب البيان وأثرها في النفس، جرئ في ابتداع الأقوال، بصير بما يعالج من أمور البيان بالرغم من جرأته؛ وسواء أكانت أقواله في أمور حسية أو نفسية فإن كلماته تبلغ صميم القلب بما فيها من الخيال المشبوب وقوة الإيجاز مع الدلالة التامة والإلمام بالمعنى المراد ومع تجنب الإطالة الفاترة.
وفنه من هذه الناحية يشبه أيضاً فن صانع القصص التمثيلية في الاعتماد على قوة الأداء مع صدقه الفني وإيجازه مع استيفائه المعنى.
وندرك على هذا الوصف أن لأبى تمام ولمن نشبهه به جوانب لا يتفقان فيها ولا يلتقيان عليها، لأن النفس الإنسانية تشبه البِلَّوْر ذا الأضلاع والجوانب العديدة التي تنعكس عليها أشعة الشمس في أشكال وجهات مختلفة متعددة.
ونتذوق البحتري كأنه ممثل قدير يلوك حلو الكلام ويتأثر به وينتشي بحلاوة الصنعة حتى تخلق له الصنعة عواطف فنية كما في حياة بعض كبار الممثلين؛ ونقدر مع ذلك أن لنفسه جوانب أخرى تنعكس عليها أشعة الفنون.
ونتذوق الشريف الرضي كأنه موسيقى يحك الوجدان ويؤثر في النفس بأنغامه؛ ونقدر أيضاً ما للنفس البشرية من مرام مختلفة.
ونتذوق المتنبي على أنه محارب مغامر مدجج بسلاح الحنكة والخبرة والاعتداد بالنفس ونعرف له جوانب أخرى.
أما ابن الرومي فإننا قد أدركتنا في أول الأمر حيرة في اختيار صفة واحدة له، إذا أنه قد يقف موقف الخطيب المؤثر كما في قصيدته في التحريض على قتال العلوي صاحب الزنج بعد أن خرَّب البصرة وهي التي يقول في مطلعها: ذاد عن مقلتي لذيذ المنام ...
شغلها عنه بالدموع السجام وابن الرومي مثل أبي تمام مُغْرَى بابتداع التشبيهات والأخيلة والمعاني، ولكنها لم نشأ أن نختار له الرمز الذي اخترناه لأبي تمام لأنه قد يدركه الفتور، وأبو تمام لا يدركه الفتور؛ وقد يطيل حتى يمل سامعه خصوصاً في المدح، وأبو تمام لا يطيل مثله.
وقد تدركه اللجاجة الفكرية في إيراد الحجة ودفع الحجة بالحجة على طريقة المجادل المناقش المناظر لا على طريقة الخطيب الذي يؤثر بالعبارات والأخيلة المشبوبة النارية المستقلة في معناها بعضها عن بعض في إيجازها وتركزها تركز الأحماض أو الروائح العطرية المنعشة أو المخدرة أو المميتة، وابن الرومي يبسط معناه بسطاً كما تتسع دائرة موقع الحجر في الماء أو كما يبسط الخباز الرقاقة في قول ابن الرومي نفسه: ما بين رؤيتها في كفه كرة ...
وبين رؤيتها قوراء كالقمر إلا بمقدار ما تنداح دائرة ...
في لجة الماء يُرمْى فيه بالحجر وهذا هو الوصف الذي ينطبق على ابن الرومي نفسه في صناعة المعاني فكأنه خباز المعاني.
ولابن الرومي في الأهاجي ما هو أشد من الأحماض فتكاً، ولاكن أثرها ناشئ أيضاً من تَقَصِّيهِ أجزاء المعنى وصوره المختلفة وتوليد المعنى من المعنى.
ولم نشأ أن نصف ابن الرومي بما وصفنا به البحتري الذي ينتشي بما يصوغ من حلوى الصناعة وما يلوكه منها كما ينتشي الممثل بما يمثل من الأحاسيس.
لم نشأ أن نصفه بهذا الوصف لو أنه وصف ينطبق على كل ذي فن إلى حد ما فهو ينطبق على الشعراء جميعاً ولكن ليس كانطباقه على البحتري. وابن الرومي لا يبلغ به التفاني في فن الألفاظ وصناعتها والانتشاء بها ما يبلغه البحتري بل يستخدم ابن الرومي الألفاظ استخدام السيد الآمر لعبده محبوباً كان العبد أو غير محبوب؛ أما البحتري فكان لا يقرب الألفاظ إلا كما يقرب المحب حبيبته ولم نشأ أن نصف ابن الرومي بما وصفنا به الشريف الرضي الذي نتذوقه كموسيقي يحكم الوجدان والفطرة السليمة؛ لم نشأ أن نصف أبن الرومي بهذا الوصف لو أن له من الغزل والعتاب والشكوى أشياء عميقة الأثر في النفس كقوله في الغزل: أعانقها والنفس بعدُ مشوقة ...
إليها وهل بعد العناق تدانى كأن فؤادي ليس يشفى غليله ...
سوى أن يرى الروحين يمتزجان وقوله في العتاب: تخذتكم ترسا ودرعا لتدفعوا ...
نُبال العِدَى عني فكنتمْ نصالها وقد كنتُ أرجو منكم خير ناصر ...
على حين خذلان اليمين شمالها فإن أنتمُ لم تحفظوا لمودتي ...
ذِماما فكونوا لا عليها ولا لها قفوا موقف المعذور عني بمعزل ...
وخلوا نبالي والعِدَى ونبالها ولكنه بسبب لحاجته الفكرية أحيانا وتَتَبُّعِهِ أو موازنته بين أجزاء المعنى وتلمسه دقائق الصور قد تضيع منه النغمة الشعرية وإن كان شعره يكتسب ميزة أخرى.
وقد أحس ابن الرومي مع ذلك في نفسه بذلك الجانب منه الذي يشبه به الموسيقىّ أو الطائر الصادح فقال زاعما أنه لا يمدح ممدوحه: إلا كما راقت القمريَّ جنَّتُهُ فظل يُتبعُ تغريدا بتغريد ولم نشأ أن نصفه بما وصفنا به المتنبي من أنه محارب مغامر يغالي في الاعتداد بالنفس لأن ابن الرومي لم يطلب مُلْكاً ولا حُكماً ولا رياسة وإنما طلب السلامة من الناس وإنصاف أدبه وفضله وفنه وإعطاءه حق ذلك الأدب والفضل مما في أيدي الوجهاء والرؤساء والأمراء من أموال الله والناس التي كانت كثيراً ما تنهب نهبا.
وكان ابن الرومي مرهف الحواس منهوما بالجمال في كل مظاهره ومطالبه، وهذا يكفي أن يكون شغله الشاغل في الدنيا بعكس المتنبي.
وكان ابن الرومي يخشى الأسفار في طلب الرزق وله في وصف خشيته منها أشعار، ويخشى ركوب البحر ويخشى لقاء الناس ويتشاءم بهم، فكانت صفاته النفسية تختلف اختلافا كبيراً عن نفس المتنبي، ولا نحسب أن المتنبي كان يذرع في مخاطبة ممدوح كما فعل ابن الرومي في قوله: أصبحتُ بين خصاصة وتجمُّل ...
والمرء بينما يموت هزيلا فامدُدْ إليَّ يدا تَعَوَّد بطنها ...
بذلَ النوالِ وظهرُها التقبيلا وفي قوله: تعرفتُ في صحبي وأهلي وخادمي ...
هواني عليهم مذ جفاني قاسمُ وبعد ذلك بأبيات الرئيس المعاتَبَ ألا ينسى أنه خادم.
أما شدته في هجائه فشدة الرجل المرهف الحس إذا جُوِفَي أو غُبنَ أو أُسيءَ إليه أو اضطهد.
ونكرر أن النفس كالبلور ذي الأضلاع والأشعة المنعكسةُ عليه مختلفة النواحي.
ولكن لعل أصدقُ وصف يوصف به ابن الرومي هو أن يوصف بالمصوِّر أو الرسام أو النقاش.
ويخيل إلينا أنه لو كان عائشا في إيطاليا في عهد نهضة الإحياء واشتغل بالنقش والرسم ما كانت قدرته تقل عن قدرة مصور مثل تشيانو (تيتيان) في ولوعه بألوان الجمال.
وجمال الألوان.
ولا نعني أنه كان مصورا في وصف مناظر الطبيعة والنبات فحسب، وإنما كان مصورا في كل أبواب شعره من مدح أو ذم أو غزل أو وصف للغناء أو المآكل أو الأشربات.
وقد ذكرنا قدرته الخطابية في قصيدة التحريض على قتال صاحب الزنج ولكن أعمق أجزاء القصيدة أثرا هو وصفه دخول الزنج، المدينة ووصفه ما فعلوا بها وبأهلها.
فولوع ابن الرومي بالألوان لم يكن مقصورا على ألوان المرئيات بل تعداها إلى ألوان الآراء، فتراه يُغري بوصف لون من الرأي ثم بوصف اللون الذي هو نقيضه.
والولوع بالألوان وشدة الإحساس بمعانيها وجمالها وأثرها من صفات المصور، وكذلك تَقَصِّي الأجزاء وربط أجزاء الصورة في القصيدة.
ومن مظاهر ولوعه بوصف ألوان الرأي قصائده في مدحه الحقد وذمه؛ وليس من المرفوض أن نقول إن مدحه الحقد كان بسبب إحساسه المرهف وحقده على الذين آلموا هذا الإحساس المرهف من مناوئيه.
فمن مدحه الحقد قوله: أديمي من أديم الأرض فاعلم ...
أُسئُ الريع حين يسئ بذرا يُسمى الحقد عيبا وهو مدح ...
كما يَدْعُونَ حُلْوَ الحق مُرَّا وقوله: وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى ...
وبعض السجايا يَنْتَسِبْنَ إلى بعض وإني أشك في أن الحقد توأم الشكر دائماً فإنه إذا قُرِنَ بالحسد، ولكل نفس نصيب منه قل أو كثر، منع من الشكر.
وقد راجع ابن الرومي نفسه ولامها على مدح الحقد في قصائد منها قصيدته التي يقول فيها: يا مادح الحقد محتالا له شبها ...
لقد سلكتَ إليه مسلكاً وعثا وأبدع منها وأعظم قصيدته التي مطلعها: يا ضارب المثل المزخرف مُطْرياً ...
للحقد لم تقدح بزند وارى وعندي أن هذه القصيدة من أعظم وأجل قصائده، وكل منتخبات من شعره لا تشملها تعد ناقصة، وفيها يحث على مغالبة النفس لطابع الشر وعلى تنمية طباع الخير.
وقد بلغت قوة التصوير عند ابن الرومي مبلغاً جعله يُصوِّر الطبيعة وكأنها من الأحياء.
وربما كان ولوعه بذلك أكثر من ولوع شعراء العربية الذين كانوا يجردون من الجماد أشخاصاً فيخاطبون الليل أو السري أو الرياح أو النجوم أو الربوع والأطلال أو الفراق، فيحدثونها وتحدثهم، وهذه الصفة من قبيل تلك الصفة في ابن الرومي وإن كان إحساسه بحياة الطبيعة أعم وأشبه بطريقة الشعراء الآريين.
وليس شبه ابن الرومي بالشعراء الآريين مقصوراً على إحساسه بحياة الطبيعة وإشاعة المعنى في أكثر من بيت وتقصي أجزاء المعنى، بل هو يشمل أيضاً تفضيله فكاهة الصور الخيالية ومعانيها على الفكاهة اللفظية الشكلية، وكانت فكاهة الصور الخيالية ومعانيها على الفكاهة اللفظية الشكلية، وكانت فكاهة الصور الخيالية مفضلة في العصور المتقدمة في الآداب العربية فلم يبتدعها ابن الرومي وهي ليست ملكاً له ولا ابتكاراً ولكنه زاد فيها زيادة كبيرة، ثم إن المتأخرين من الشعراء صاروا يفضلون فكاهة المغالطات اللفظية، وهذا النوع كان معروفاً شائعاً في الأدب الأوربي وإن كانت الصور الخيالية أفضل وأعلى مرتبة. ولعل عظم نصيب ابن الرومي من فكاهة الصور الخيالية كانت من أسباب تبريزه في الهجاء تبريزاً لا يضارعه فيه شاعر آخر.
ولو حذفنا هجاءه الذي أفحش فيه مثل هجاء ابن الخبازة المعروف بهجاء بوران وغيره من الفحش القاذع الذي لا يصح نشره في هذا العصر بقيت لنا في هجائه صور فكاهية خيالية لا يستطاع تجنب اختيارها إذا أحصيت خلاصة من شعره، لأنها أعلى مرتبة من مدحه بالرغم من إجادته فيه.
وقد كان الهجاء سبب موته مسموماً.
والظاهر أن الأمراء والوجهاء كانوا يسيئون الظن ببعض مدحه غلاوة على خشية الذم، وهذا أمر يشاهد كثيراً في الحياة؛ فإذا اشتهر رجل بالسخر ظن الناس كل ما يقول من قبيل السخر أو الذم حتى ولو لم يقصد إلا المدح والتودد والصفاء.
ومن شواهد سوء الظن هذا ما حدث عند ما مدح ابن الرومي أبا الصقر إسماعيل بن بلبل الشيباني بقصيدته الرائعة التي مطلعها (أجنت لك الوردَ أغصانٌ وكثبان) فأساء الممدوح الظن بقول الشاعر: قالوا أبو الصقر من شيبان قلتُ لهم ...
كلا ولكن لعمري منه شيبان وكم أبٍ قد علا بابن ذر اشرف ...
كما علا برسول الله عدنان ولم أُقصرْ بشيبان التي بلغتْ ...
بها المبالغ أعرقٌ وأغصان وظن أنه يهجوه بضعة الأصل مع أن المدح ظاهر للأصل والفرع.
ولا نظن أن الغباء هو الذي سما بالممدوح إلى مرتبة الوزارة، وقد كان وزيراً فلم يبق إلا التعليل الذي ذكرناه، وهو أن الرجل إذا اشتهر بالسخر والذم حُملُ مدحه على محمل الذم والسخر، والشك في نية القائل يُغطي على فهم السامع، وكثيراً ما تراه في الحياة يُغطي على فهم ذوي الفهم حتى تراهم كالأغبياء.
والظاهر أن حادث أبي الصقر لم يكن الحادث الوحيد من نوعه وإن كان أظهر حادث.
فإن لابن الرومي أشعاراً كثيرة يشكو فيها من خذلان الممدوحين مثل قوله: (مالي لديك كأني قد زرعتُ حصى).
وقوله: (فلا تعتصر ماء الصنيعة بالمطل).
وقوله: (طال المطال ولا خلود فحاجة).
وقوله: (أبا حسن طال المطال ولم يكن).
ومثل هذا كثير في شعره.
وكان يغبط البحتري لإقبال الممدوحين على شعره، ومن أجل ذلك كان يتعرض ابن الرومي للبحتري، وله أهاجٍ منها قوله: الحظ أعمى ولولا ذاك لم نره ...
للبحتري بلا عقل ولا حسب (البقية في العدد القادم) عبد الرحمن شكري

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢