أرشيف المقالات

بيير فيلليه

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 في اليوم الرابع والعشرين من شهر أكتوبر الماضي كان قطار من القطر آتيا إلى باريس من مدينة (كان) فانحرف عن طريقه وسقطت القاطرة ومعها عربات أربع في هوة عميقة، وكثر الجرحى والقتلى، وكان بين الذين حملتهم عربات الإسعاف إلى مستشفى قريب فمات فيه آخر النهار عالم أديب من علماء الفرنسيين وأدبائهم هو الأستاذ بيير فيلليه، ولم تكد الصحف تذيع نعيه حتى وقع من قلوب الأدباء المثقفين الفرنسيين موقعا أليما. وقد طلبت مجلة العالمين إلى الأستاذ جوز يف بدييه مدير الكوليج دي فرانس وأستاذ الفقيد أن ينعاه في كلمات قصيرة إلى قرائها في العالمين فقبل رغم ما بقلبه من الحزن.
وكتب صفحات مؤثرة نترجمها في ما يلي: كان بيير فيلليه صاحب الآثار الأدبية القيمة ضريراً كما يعلم كثير من الناس، أصابته هذه الآفة بعد مولده بقليل، ولكنه لم يرض قط أن يشير في أثر من مآثره التاريخية إلى هذه الآفة، وكان يكره أن يشير إليها في مقدمة من مقدماته على أنها تعلة من التعلات أو معذرة من المعاذير.
وكان يصدر في ذلك عن رأي له فضله في كتابه (عالم المكفوفين).
كان يرى في هذا الكتاب عزاء لأمثاله انهم ليسوا بحال من الأحوال مغلقين كما يقول الناس، وان ليس هناك ميدان من ميادين العمل الاجتماعي أو العقلي يؤخذ عليهم ويغلق من دونهم.
وان آفتهم يمكن أن تضايقهم ولكنها لا تستطيع أن تعجزهم عن العمل والإنتاج، لا يحتاجون في ذلك إلا إلى أن تكون قلوبهم قوية صلبة.
وأن أشد آلامهم، أو قل ألمهم الوحيد، لأنهم لا يرون، إنما يأتيهم من هذا الإشفاق الظالم الذي يختصهم به المبصرون.
وقد أراد دائما أن يعامل في مهنته التي كان يحترفها كغيره من الأساتذة، وفي كتبه التي كان يمليها كغيره من المؤلفين كما يعامل غيره من الناس، فينقد ويحكم على آثاره في غير رعاية ما بأنه ضرير. أيجب علي الآن أن أطيع أمره وأحترم كبريائه هذه؟ لا.
فان الموت قد ألغى هذا الأمر.
وإذا كان من الحق أن آفته هذه هي التي بعثت في نفسه أقوى الفضائل وأحقها أن تكون قدوة ومثلا، فأني أستطيع أن أقول أن هذه الآفة نفسها هي التي منحت حياته وآثاره نصيبهما الموفور من الجمال، وكل من قرأ هذه الكلمات سيشعر بأني لا أقول هذا إشفاقا وعطفا، بل حنانا وإكبارا. ولأجل أن أجد في نفسي أصول هذا الحنان والإكبار يجب أن أرجع بالذاكرة إلى عهد بعيد. دخل بيير فيلليه مدرسة المعلمين العليا في سنة 1900، وكنت حينئذ معلما فيها.
كان قبل ذلك تلميذا ينشأ في معهد العميان الأهلي، ثم اختلف إلى غير مدرسة من المدارس الثانوية في باريس.
ثم أقتحم المسابقة لدخول مدرستنا على نفس القواعد والشروط، وفي نفس المواد التي يستبق فيها غيره من المبصرين، لا يميزه منهم إلا أنه كان يستعين بغلام أقل منه ثقافة وعلما، فكان هذا الغلام يبحث له في المعاجم، ويكتب ما يملي عليه.
فنجح نجاحا حسنا.
ونستطيع أن نتصور ما أدركنا نحن الأساتذة من القلق، وما أدرك رئيسنا الطيب القلب جورج بيرو.
كنا نتساءل ماذا نصنع بهذا الغلام الحدث الذي كان يحسن فنون البيان في أكبر الظن، ولكنه كان ضئيلا نحيلا ضريرا.
إلى أي نحو من أنحاء العلم نوجهه؟ والى أي غاية نسيره؟ ولا سيما وقد كان يقول أنه لا يحب إلا التاريخ وتاريخ الآداب خاصة، ولكن كيف كان يعرف هذا النوع من العلم؟ كنا ننظر إلى كتبه المكتوبة بالخط البارز والتي أصطحبها حين أقبل إلينا، فكنا لا نجد إلا ديوان فرجيل وبعض الآثار الفرنسية الكلاسيكية، وبعض كتب النحو، ومع أن هذه الكتب كانت تزحم غرفته فإنها لم تكن في حقيقة الأمر إلا شيئا يسيرا جدا مما يستعين به التلاميذ.
ماذا كان يتصور من أمور البحث التاريخي ومصاعبه؟ ألم يكن حقا علينا أن نوجهه إلى نحو من أنحاء هذا البحث العقلي الذي يمكن أن يعتمد فيه الباحث على تفكيره الخاص، فان صاحب ما بعد الطبيعة أو الأخلاق أو المنطق أو فقه اللغة، يستطيع إلى حد ما أن يعتمد على نفسه.
فكان علينا إذن أن نبين له إلى أي حد يعرض نفسه لخيبة الأمل إن مضى في طلب التاريخ، وأن نمحو هذه الآمال التي كان يعلل نفسه بها.
ولكني رأيت إلحاحه وحزنه، فاعتزمت سرا أن أخضعه لامتحان لا يعلم به أحد. فكلفته أن يهيئ بحثا عن أسطورة من أساطير لافونتين، وهي أسطورة الطحان وأبنه والحمار، ليلقيه في محاضرة قريبة.
فقبل محزونا لأني كنت قد كلفت رفاقه بأبحاث أخرى أوسع من بحثه وأعظم خطرا، وكان يحس أني كنت أريد أن أحصره دائما في التمرينات المدرسية التي كان قد شبع منها حتى أدركته التخمة قبل أن يدخل مدرسة المعلمين، ولم يكن يطمئن إلى هذا الموضوع إلا حين أنبأته بأن أستاذي جاستون باري قد خصص له صفحات عشرا في بحثه المعروف عن القصص الشرقي وأثره في الأدب الفرنسي.
وكنت أكلفه أن يدرس هذه الأسطورة، لا في صورتها الكثيرة التي اختلفت عليها.
ولم أدله إلا على هذا المرجع ثم انتظرت: وبعد ستة أسابيع أو بعد شهرين ألقى الدرس الذي طلب إليه.
فيا له من دهش عم رفاقه في قاعة المحاضرات! ويا له من فرح ملأ قلبي! فأنه لم يكتف كما كان غيره يكتفي بالتفكير في هذه النصوص الخمسة أو الستة التي رواها جاستون باري: فقد اهتدى لا أدري من أي طريق إلى مجلة (بنفى) (الشرق والغرب) حيث كان (جودوك) قد أخذ منذ سنة 1860 يسجل مجموعات من الأساطير الشعبية، وما هي إلا أن أراه قد استطاع أن يستكشف نصوصا عشرة أهملها جاستون باري عمدا أو خطأ.
هنالك أعلنت مكيدتي وهي أن أعرض على هذا الطالب الجديد أيسر بحث في ظاهر الأمر، هذا البحث الممهد المطروق لأتبين من أمره ما أريد، ولأعلم أيكتفي بإعادة ما قرأ، أم يحاول أن يأتي بشيء جديد، وبينت لرفاقه مصاعب هذا البحث عن الأساطير.
وقد كان الناس كلفين به في ذلك الوقت، وبينت لهم ما يحتاج إليه الباحث المجد من الجهد والاستقصاء لاستكشاف الصور المختلفة لهذه الأساطير في كتب غامضة مهجورة، ثم أنبأتهم بأن جهدا خصبا منتجا للاستقصاء العلمي قد ظهر في هذا اليوم. وما لي أطيل الوقوف عند هذه القصة كأني أريد أن أتحدث عن نفسي، ذلك لأبين أولاً كيف كانت الحياة قديما في مدرسة المعلمين، كيف كانت صورة من صور التعاون بين الأصدقاء، يعطي الأساتذة فيها من أنفسهم أكثر ما يستطيعون إعطاءه، ولكنهم يأخذون من طلابهم مثل ما يعطون، ثم لأن بيير فيلليه كثيرا ما كان يذكرني بهذه القصة فيما بعد، في ذلك اليوم أعلن بعض الطلبة المتقدمين الذين لم يسبقهم كثيرون أنه مؤمن بهذا الشاب الضرير واثق بفوزه في هذا النوع من البحث الذي يميل إليه. ولكن هذا الشاب - بيير فيلليه - وجد في الوقت نفسه بين أساتذته ورفاقه من أعانه على قطع هذه الطريق.
وكان منهم الظريف (بيير موريس ماسون) والجاد (جبرييل ليرو) وكلامها سقط في ميدان الشرف أثناء الحرب الكبرى، ومنهم بول ازار، وأوجين البرتيني، وتراشيه، وموريت، وبيير كومير، ولويس ريو، وألكسندر جوانو، واميه برتو، وجاك شيفالييه.

وكم أحب أن أسميهم جميعا هؤلاء الأصدقاء الذين كانوا مثله في سن العشرين، والذين أعطوه وأخذوا منه أحسن المثل وأقومها.
بهذه التجربة وبتجارب أخرى أمثالها اثبت بيير فيلليه أثناء الأعوام الثلاثة التي قضاها في المدرسة أنه كان قادرا على النهوض بأعباء الاستقصاء العلمي وبأثقلها وأشدها تعقيدا. ومن هنا دهشت البيئات العلمية، ولم ندهش نحن حين أظهر في سنة 1908، بعد أن ظفر بإجازة الأجر بجاسيون - وبعد أن أتم دراسته في معهد تيير في ظل أميل بوترو الذي لقيه أحسن لقاء - كتابه الأول الذي عرض فيه مصادر كتاب - تطور فصوله. وكان قد فكر في هذا الكتاب أثناء إقامته في مدرسة المعلمين وشجعه على ذلك الأستاذ جوستاف لنسون، ولأجل أن يبلغ من هذا البحث ما يريد، بدأ فنسخ كتاب مونتيني بيده خطا بارزا فكانت نسخته تبلغ عشرين مجلدا.
ثم وضع حكم مونتيني وتجاربه في قصاصات من الورق، وكانت هذه القصاصات التي رتبها على حروف المعجم تملأ صندوقا ضخما لم يفارقه أعواما طوالا.
وكذلك تسلح بهذه الأدوات وحفظ كتاب مونتيني عن ظهر قلب على اختلاف نسخه، ثم أخذ يبحث عن مصادره.
فمن أراد أن يقدر هذه المحولة فليلاحظ ما أحاط بها من الظروف.
فقد كان يجب أن يقرأ عليه كل المؤلفين الذين نقل عنهم مونتيني، وكل المؤلفين الذين كان يرجح أن مونتيني قد عرفهم في التراجم اللاتينية التي كانت معروفة في وقته، مثل سكستوس امبيريكوس، كزينوفون، ديوجين، لارس، أفلاطون، وفي التراجم الفرنسية المعروفة في ذلك الوقت تيودور الصقلي، هيرودوت، اريانوس، وفي النصوص الأولى من لوكريس إلى فاليريوس مكسيموس، أي كل ما كتبته روما القديمة تقريبا.
ثم ما كتبه علماء النهضة من ارسم إلى جوست ليس.
وإذنفقد بذل بيير فيلليه جهده هذا في قراءة ألف من الكتاب، ويمكن أن نقدر غنيمته المادية من هذا الجهد إذا نظرنا في الجزء الرابع من طبعته لكتاب مونتيني التي ظهرت سنة 1920 ورأينا المراجع وقد رتبها على حروف المعجم بثمانية آلاف مرجع تتصل بأربعمائة من المؤلفين كتبوا باليونانية واللاتينية والإيطالية والفرنسية. وبنحو هذه الطريقة وبمعونة طائفة من القراء كانوا يعيرونه أبصارهم إعارة آلية استطاع أن يتتبع تأثر المؤلفين والكتاب بمونتيني، فأظهر كتاب مونتيني ولوك وروسو، ثم مونتيني وبيكون، ثم مونتيني والألاهيين الإنجليز.
هذه عنوانات لطائفة من أبحاثه ظهرت كتبا أو رسائل.
وهذا النحو من إظهار استعارة المؤلفين بعضهم من بعض أو تقليد المؤلفين بعضهم لبعض لا يعني أصحاب الاستقصاء من العلماء وحدهم، وإنما يمكن أن يقال في كتبه كلها ما قاله أميل بوترو حين قرأ كتابه الأول: (انه يظهر في هذا الكتاب مفكرا مرويا، ماهرا، نفاذا، فيلسوفا، يمس بدقة غريبة أخفى الفروق.
وما بين الأفكار والآراء من صلات)
ولكن أتراه أنفق جهده الضعيف الخصب كله في درس مونتيني؟ ألم ينته إلا إلى طبعه كتاب مونتيني التي ظهرت سنة 1922 والتي وصفها أخصائي ماهر هو المسيو هنري شمار فقال إنها توشك أن تبلغ الكمال.
كلا.
فلنذكر كتابه الذي سماه مصادر الآراء في القرن السادس عشر، أو كتابه عن المصادر الإيطالية لمقالة الدفاع عن اللغة الفرنسية الذي يظهر فيه بين ما أظهر من الغرائب أن القسم الذي يثبت فيه دبيلليه مساواة اللغة الفرنسية للاتينية واليونانية ليس إلا ترجمة من كتاب سبرون سيروني ألفه في مدح اللغة التسكانية.
ولنذكر أبحاثه عن دوبينيه وأبحاثه عن مونلوك، وأحدث كتبه الكبرى (مارو ورابليه).
فهو قد عنى بروضته وهي هذه الروضة النضرة روضة النهضة الفرنسية، فلم يهمل منها شيئا.
ثم هو لم يكتف بخدمة الآداب، وإنما أنفق أعظم جهده المادي والعقلي والشعوري في الإحسان إلى أصدقائه المكفوفين.
فعاش كما عاش فالنتان هاوى، وبراي، وموريس دي لاسيزيران.
وقد أستحق من المكفوفين تقديس ذكراه بكتابه (عالم المكفوفين) وكتابه (تربية المكفوفين) وبإحسانه إليهم في غير انقطاع. أما حياته الخاصة، أما المعونة التي وجدها عند زوجه بنت أميل بوترو التي تأثرت بوفاء أمها لأبيها، فلم تفارق زوجها يوما واحدا والتي كادت تموت معه يوم 24 أكتوبر، فلا أستطيع أن أشير أليها إلا في خفة وسرعة، وحرص شديد على ما ينبغي من التحفظ.
ولكن جميع الذين عرفوا بيير فيلليه وأحبوه يرون من الخير والعدل أن أقول فيه ما قاله مونتيني حين تحدث عن صديقه ايتين دي لابويسي: (إني أعرف كثيرا من الناس يمتازون بأنحاء من الخير والجمال، هذا يمتاز بالعقل، وهذا يمتاز بالقلب، وهذا يمتاز بالمهارة، وهذا يمتاز بالضمير، وهذا يمتاز بالحديث، وهذا يمتاز بعلم، وهذا يمتاز بعلم آخر، أما هذا فقد كان حقا ذا نفس مليئة وكان يستقبل الأشياء كلها أحسن استقبال: نفسا من تلك النفوس التي وسمها القدم بسمة العتق والرقي الصحيح).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١