أرشيف المقالات

تفسير: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها)

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
تفسير قوله تعالى
﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ [الرعد: 2]

﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ [الرعد: 2].
 
يقول سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولكل من يعقل القول من الله سبحانه: إن ربك الذي أنزل عليك آيات الكتاب بالحق المبين الواضح، الذي عميت عنه بصائر أكثر الناس فكفروا به: هو الله القوي القاهر الغالب العلي الأعلى العظيم الذي أقام على عظيم قدرته وقوى قهره لكل شيء، نافذ سلطانه في كل شيء أبهر الآيات وأوضحها وأجلها وأعظمها، بحيث لا يمكن لأحد مهما بلغ به العمى والضلال، والكفر والجحود والعناد أن ينكرها، وهي السماوات السبع الطباق الشداد التي حبكها فلا ترى فيها من فروج وفلا فطور ولا شقوق، وزينها بالنجوم والكواكب الضخمة الهائلة التي يبلغ من عظم الواحد منها وضخامته أنه أكبر من الأرض آلاف المرات وملايين المرات.
وتلك السماوات مع هذا العظم الهائل جداً قد رفعها الله وجعلها فوقها سقف محفوظا، وأمسكها أن يزول من علوها العظيم، وحفظها أن تقع على الأرض إلا بإذنه، بدون سبب مرئي لنا من عمود ترتكز عليه وترتفع فوقه، ولا سناد أو جدار تستند عليه ولا غير ذلك مما جرت به طبيعة حمل الأثقال ورفها عن مركزها، وهذا يدل على أن السماء بناء محبوك قوي شديد، ثقيل أعظم الثقل فليست طبقات الهواء كما ادعى الجغرافيون، وإلا فلا معنى لأن يكون رفعها بلا عمد نراها من آيات قدرته العزيمة؛ وليست من فضة وذهب كما ادعى المخرفون، وإنما بناها الله بأيده وقوته مما لا نعلمه ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [الاسراء: 85]، ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الكهف: 51]، وكم من المخلوقات في العالم العلوم والسفلي لم يبلغنا علمه، والله بكل شيء عليم.
قال الله تعالى في سورة الفرقان ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً ﴾ [الفرقان: 25]، وفي الرحمن ﴿ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ﴾ [الرحمن: 37]، وفي الحاقة ﴿ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 16]، وفي المزمل ﴿ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ﴾ [المزمل: 18]، وفي المرسلات ﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ﴾ [المرسلات: 9]، وفي عم ﴿ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً ﴾ [النبأ: 19]، وفي القمر ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ﴾ [القمر: 11]، وفي التكوير ﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ﴾ [التكوير: 11]، وفي الانفطار ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴾ [الانفطار: 1]، وفي الانشقاق ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1]، وفي الأعراف ﴿ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ﴾ [لأعراف: 40]، وفي الحجر ﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً ﴾ [الحجر: 16]، وفي البروج ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾ [البروج: 1]، وفي الفرقان ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً ﴾ [الفرقان: 61]، وفي البقرة ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾ [البقرة: 22]، وفي الذاريات ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [الذريات: 47]، وفي الشمس ﴿ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ﴾ [الشمس: 5]، وفي الذاريات ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ﴾ [الذريات: 7]، وفي الأنبياء ﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً ﴾ [الانبياء: 32]، وفي الحج ﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [الحج: 65]، وفي فاطر ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ﴾ [فاطر: 41]، وغير ذلك في القرآن كثير جداً ينطق بالحق وأن السماء بناء محكم مرفوع فوقنا كالسقف المرفوع.
وفي صحيح البخاري في حديث المعراج "ثم عرج به إلى السماء الدنيا فضرب أبوابها، فناداه أهل السماء من هذا؟ فقال: جبريل، فقالوا: ومن معك؟ قال: محمد - الحديث" في عدة روايات من عدة من الصحابة.
 
فهذا القرآن الحكيم وقول الرسول الصادق المصدوق الذي يخبر عن عيان ومشاهدة؛ فما بعد الحق إلى الضلال.
وما لنا نعدل عن ذلك إلى قول الخراصين الذين ينقضون اليوم ما أبرموه بالأمس، ويهدمون غداً ما بنوه اليوم من نظريات؟! آمنا بالله الذي بنى السماء وشد بناءها وجعلها محبوكة لا ترى فيها فروجاً ولا فطورا وآمنا بأنه رفع ذلك البناء بغير عمد نراها وأمسكه بعظيم قدرته.
 
وهو سبحانه مع ذلك قد استوى على عرشه العظيم الذي السماوات والأرض من تحته كذرة رمل في صحراء مترامية الأطراف، على ما يليق بعظمته سبحانه وجلاله وما ينبغي لذاته العلية التي لا يعلم ولن يعلم كنهها إلا هو سبحانه.
وصفة استواء ربنا سبحانه على العرض قد ذكرها ربنا ووصف نفسه بها في سورة الأعراف ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [لأعراف: 54]، وفي سورة يونس (3) كسورة الأعراف، وفي سورة الرعد الآية التي نفسرها، وفي سورة طه ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [طه: 5 - 8]، وفي سورة الفرقان ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الفرقان: 59]، وفي السجدة ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [السجدة: 4]، وفي سورة الحديد ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الحديد: 4].
 
وقد ذكر الله كذلك في عدة مواضع من آي الذكر الحكيم أنه رب العرش العظيم وأنه رب العرش الكريم، وأنه ﴿ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ﴾ [غافر: 15]، وأنه ﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴾ [البروج: 15]، وأن في يوم القيامة ﴿ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾ [الزمر: 75]، ووصف نفسه في سياق تنزيهه عما نسبه إليه الكافرون وادعوه جهلاً بالله من اتخاذ الآلهة وسطاء بينهم وبين الله من الأولياء والصالحين وغيرهم فقال في سورة الأنبياء ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الانبياء: 21 - 22]، وقال في سورة الزخرف رداً على من نسب إليه الولد ﴿ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الزخرف: 82]، وأخبر في سورة الحاقة عن يوم القيامة وما يكون فيه من فصل الملك الحق المبين بين الخلق، وأنه هو الرب العظيم الكبير المتعال، فقال ﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 17 - 18].
 
هذا ولا يخالج المؤمنين ذرة من الشك في ن الله سبحانه أنزل القرآن الذي بعضه هذه الآيات هدى ورحمة وشفاء لما في صدور المؤمنين من أمراض الجهل بالله والاجتراء على انتقاصه وعيبه - سبحانه - بنسبة ما لا يليق به، مما زعمه الكافرون، ومن أمراض القول عليه في صفاته ودينه وأحكامه وشرائعه وجزائه بغير علم ولا هدى ولا نور، وأنه لا شفاء للقلوب من هذه الأمراض وغيرها إلا بدواء هذا القرآن العربي المبين؛ وآياته التي فصلت وأحكمت من لدن حكيم خبير.
 
وكذلك لا يشك مسلم أن الله أعلم بصفاته وأسمائه الحسنى، وبما يليق بعظمته وجلاله من كل أحد، وأنه لا ينبغي لأحد كائناً من كان أن يتكلم في صفات الله وأسمائه إلا بوحي من الله الذي ﴿ َلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]، وكذلك لا يشك مسلم في هذه الآيات المفصلات؛ وهذا ا لقرآن العربي المبين الذي أنزله الله هدى ونوراً - محال أعظم المحال أن يكون فيه جملة أو آية توهم تشبيه الله سبحانه وتعالى بخلقه؛ وإلا لم يكن هدى بيناً واضحاً ونوراً؛ وإن أدل البراهين على ذلك وأقطعها لكل متحرض ومتظنن: ما أثمر في قلوب المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من الإيمان والأخلاق والآداب مما خلعهم مرة واحدة من جاهليتهم الأولى وشركهم ووثنيتهم، وجعلهم خير المهتدين، وأبر المتقين؛ وأصدق المؤمنين وأعرف العارفين بالله رب العالمين، وأتقاهم له، وأسبقهم إلى طاعته ومرضاته، وبيع أنفسهم وأموالهم له بأن لهم الجنة.
لأنهم سمعوا تلك الآيات المفصلات المنزلات بلسانهم العربي المبين؛ وتلاها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهموها حق الفهم فآمنوا بها، وكانوا كلما تليت عليهم زادتهم إيماناً ويقيناً ونوراً وهدى، وأنهم لم يستدركوا عليها بما استدرك به ورثة منطق اليونان وفلسفتهم؛ ولم تضق صدورهم بها كما ضاقت صدور أولئك الخالفين، فلم ينقل أن أحداً منهم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلاها عليهم: كيف؟ ولماذا؟ ويلزم الجهة، ويلزم التحيز، ويلزم المكن ويلزم كذا وكذا، لأنهم يعلمون يقيناً أنها تنزيل الحكيم الحميد وأنه ما أنزلها إلا وهو يعلم أنها هي التي تنقذ قلوب عباده الصادقين من براثن شياطين الجن والإنس، وترجعهم إلى سيدهم ومولاهم الذي يتعرف إليهم بصفاته هذه، وآلائه ونعمائه؛ فإنهم - رضي الله عنهم وأرضاهم، وفي وألحقنا بهم- كانوا أعرف بأنفسهم من كل أحد؛ وأنهم كانوا في ضلال فهداهم الله، وفي جهل عميق فعلمهم الله؛ وفي ظلمات دامسة فأطلع الله عليهم شمس القرآن فأنارت بصائرهم.
لم يكونوا يرون العلم في غير القرآن، ولا عند غير الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا قد جربوا قبل ذلك نتائج أفكار الإنسان، ومحصول عقله، وقياسات رأيه، وطالما ذاقت قلوبهم الشقاء من جراء هذه الأهواء والآراء، فما كادت تطلع عليهم شمس الهداية المحمدية حتى عرفوا فرق ما بين نورها، وظلمات آراء الرجال وقياسات الأفكار، وعرفوا فرق ما بين السعادة التي امتن الله عليهم بها على قلب ولسان ذلك النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم - والشقاء الذي كانوا فيه أولاً من ظلمات الجاهلية الأولى.
 
كانوا يوردون قلوبهم موارد القرآن والسنة العذبة ويحرمون عليها غيرهما؛ فلذلك كانوا يؤمنون بالكتاب كله، لا يضربون بعضه ببعض، ولا يفرقون بين آية وآية، فهداهم الله إلى الإيمان به وبأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، على ما يليق بجلاله وعظمته، بلا تحريف ولا تأويل؛ ولا تشبيه ولا تعطيل ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182]، ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 11 - 12].
 
أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وأفاض علينا من عظيم فضله وإحسانه ما لا نستطيع أن نفيه حقه من الشكر: في أنفسنا وفيما مهد لنا من الأرض وجعلها ذلولا لنمشي في مناكبها ونأكل من رزقه، وفيما بث لنا فيها من كل دابة، ومن كل فاكهة، ومن الحب والعصف والريحان.
وفيما سخر لنا في السماء من فوقنا من الشمس وضيائها وإشعاعها الذي يبعث الله به الحياة والحركة والنشاط في الإنسان والحيوان والنبات.
ومن القمر ونوره الهادئ الذي يضيء للساري بالليل يبتغي حاجته ويسعى إلى معاشه ويزعج غيره ممن قضى وطره من النهار وهو بحاجة إلى السبات والسكن والراحة بالليل.
كما سخر غير الشمس والقمر من النجوم والكواكب لخدمة الإنسان ومنفعته وهدايته في ظلمة البر والبحر، وعاقب بين الشمس والقمر ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ﴾ [الاسراء: 12].
 
وضرب للشمس والقمر أجلاً مسمى عنده سبحانه ينتهي عند سيرهما، وينقطع عنده تسخيرهما، وينطفئ ضوء الشمس فتكور، ويذهب نور القمر فيخسف، وتقف حركتها وتتعطل، وعندئذ تنشق السماء، وتتدكدك الأرض، وتزول الجبال.
 
فليحذر الذين كفروا سطوة الله، وليخشوا ذلك اليوم الذي علمه عند الله وحده وأمره بيده وحده؛ فإنه سبحانه هو الذي ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ﴾ [يونس: 3] كله من السماء إلى الأرض، وينظر في أمور الخلائق كلها علويها وسفليها، وينظمها بواسع علمه وبديع حكمته، لا معقب لحكمه ولا راد لأمره، ولا مساعد ولا معين ولا وزير له في تدبير مملكته.
 
ومن مقتضى هذا التدبير الحكيم والتنظيم لشئون الخلائق كلهم: أن يدبر شأن الإنسان بما يبعث إليه من الرسل، وما ينزل إليه من الكتب والشرائع والأحكام، فإن ذلك التدبير من لوازم ربوبيته سبحانه.
فينبغي للإنسان أن يخضع لهذا التدبير وينقاد له ويطيعه، فإنه من عنده سيده ومالكه الرءوف الرحيم.
فهو سبحانه وتعالى لذلك ﴿ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ ﴾ [الرعد: 2] ويبينها ويوضحها بحيث لا يخفى مقصوده منها، ولا يشكل على طالب الهدى فيها ما أودع الله فيها من علم نافع وعقيدة صحيحة، وخلق كريم.
 
فألفاظ وكلمات كل آية مفصلة على مغانيها المقصودة منها، كما يفصل الثوب على قدر الجسم لا يزيد ولا ينقص، لتقوم به الحجة لله على الناس؛ وليقطع عذر من يدعي أن القرآن غامض وبعيد المنال، وأنه يكفيه منه تكرير ألفاظه للتبرك.
أما العلم والعقيدة والحكم وشئون الحياة فمن غيره مما كتب الناس بأيديهم واستولدوه من بنات أفكارهم فليعلم أولئك والمعتذرون لهم والمقرّون لهم أن القرآن ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1]، ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [فصلت: 3]، وأن الله الذي أنزله كذلك أخذ على نفسه سبحانه - والقلوب بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء - أن ييسر فهمه على من أراد التذكر به؛ وحض على تدبره والادكار به، فقال غير مرة ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]، ولذلك ختم هذه الآية بقوله ﴿ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ [الرعد: 2]، يعني أنه سبحانه إنما أنزل هذا الكتاب؛ وفصل آياته ويسرها للتدبر والذكر لنعرف منه أن الدنيا دار الغرور؛ وأنها متاع قليل، وأن الآخرة هي دار القرار، وأن الإنسان ما خلق عبثاً، ولا ترك سجى، وإنما خلق لعبادة الله سبحانه، وأن الله جعل له هذه الدنيا ممراً وطريقاً يعبر عليها إلى الآخرة.
فمن عرف ربه فعبده وحده، وأخلص له دينه، ولم يتخذ من دونه ولي يدعوه كدعاء الله، ويحلف به كما يحلف به، ويجعل له من الأنعام والحرث نذراً وقربة ما لا ينبغي إلا لله.
فأولئك لهم جنات الفردوس نزلا لا يبغون عنها حولا، ومن كان على خلاف ذلك.
يتخذ من دون الله أنداداً يحبهم كحب الله، ويجعل لهم من نفسه وماله ما لا ينبغي إلا لله، ويزعم أنهم أولياء مكرمون يقربونه إلى الله زلفى؛ ومن اتخذ دين الله هزواً وأعرض عن ذكره، واتخذ إلهه هواه، وألقى مقوده إلى الشيطان يلقيه في كل هاوية، ويقذف به في مساخط الله، ويتخذه من حزبه الذين يحادون الله ورسوله فأولئك مأواهم جهم وساءت مصيرا.
 
قمن قرأ تلك الآيات المفصلات وتدبرها حق التدبر، وفهمها حق الفهم، انتفع بها وعرف الله والدار الآخرة فسعى لها سعيها، موقناً بأنه مهما طالت حياته في هذه الدار فإلى الله مرجعه ومصيره فيوقفه بين يديه ويسأله سؤالاً شديداً، ويحاسبه حساباً عسيراً ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ * وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [سبأ: 3 - 6].
 
اللهم فقهنا في كتابك، واجعلنا من الموقنين بلقائك، ووفقنا لما تحب وترضى من العمل الصالح بمنك وفضلك يا أرحم الراحمين.
 

مجلة الهدي النبوي المجلد الخامس - العدد 23-24، ذو الحجة سنة 1360هـ

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣