أرشيف المقالات

مضار الرشوة وعوامل تفشيها وطريقة علاجها

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2مضار الرشوة وعوامل تفشيها وطريقة علاجها   أولًا: عوامل تفشي الرشوة والبيئة التي تساعد على انتشارها: ما دامت الرشوة على غير العادة فإنَّ عوامل تفشيها هي أيضا عوامل غير عادية: وأهمها وأساسها هو ضعف الوازع الديني للآتي: 1- ما ظهر من ربطها بالصوم. 2- ما ظهر من أنها من عمل المنافقين واليهود. 3- ما ظهر من أن منهجها الأساسي هو الاستماع للكذب والمسارعة للعدوان والإثم.   ثانيًا: وقوع الظلم والجور في المجتمعات؛ فيعمد العامة لدفعها خوفًا على أنفسهم أو تفشيًا في غيرهم.   ثالثًا: عدم مراقبة العمال وأصحاب الولايات على الرعية من قبل المسؤولين؛ فيتجرأون على أخذ الرشوة على أعمالهم.   رابعًا: وجود خلل في نظام السلطة؛ فلا يصل صاحب الحق إلى حقه إلا بها.   خامسًا: وجود الحاجة والفاقة؛ فيعمد المحتاج إليها للوصول إلى أكثر مما له لسد حاجته وفاقته كما فعل اليهود في خيبر. أما البيئة التي تساعد على انتشار الرشوة فيها كالآتي: بما أن الرشوة داءٌ ومرضٌ اجتماعي فهي كأمراض البدن تتفشى في البيئة القابلة للمرض: أولًا: مقدمتها البيئة الفقيرة في حالات الأزمات.   ثانيًا: البيئة التي لم يتوفر لها الوعي العام؛ فلم تدرك مضار الرشوة فيها، ولم يقو أفرادها على مجابهة من لهم عندهم حقوق في المطالبة بحقوقهم.   ثالثًا: البيئة التي فقدت الترابط ووقع في أفرادها التفكك؛ فلا يلوى أحدهم إلا على مصلحته الخاصة ولو عن طريق الرشوة وعلى حساب الآخرين.   وإذا تصورنا عوامل تفشي الرشوة والبيئة التي تساعد على انتشار الرشوة فيها، فإنه بقي علينا تصوير وبسط نماذج مضار الرشوة وسط هذه العوامل، ومن خلال تلك البيئة بإيجاز.   مضار الرشوة: لا شك أن مضار الرشوة مما أجمع العقلاء عليها؛ سواء على الفرد أو على المجتمع، في العاجل أو في الآجل، ولكن هذا الإجماع في حاجة إلى تفصيل وأمثلة في بعض المجالات مما يزيد المعنى وضوحًا، وعليه سنورد الآتي على سبيل الأمثلة لا الاستقصاء والحصر، وفي البعض تنبيه على الكل.   وأعتقد أن مضار الرشوة تتفاوت بتفاوت موضوعها واختلاف درجات طرفيها، فهي وإن كانت داءً واحدًا إلا أن الداء تختلف أضراره باختلاف محل الإصابة به.
فالداء يصيب القلب وغيره، إذا أصاب اليد أو الرجل، كالجرح مثلًا؛ فجرح القلب أو الدماغ قد يميت، وجرح اليد أو الرجل غالبًا ما يسلم صاحبه ويبرأ جرحه، وإن ترك ألمًا أو أثرًا في محله.   والناس في هذا الموضوع منهم من هو بمثابة القلب والرأس والعين، ومنهم من هو كسائر أعضاء الجسد، وعليه فإذا كانت الرشوة في معرض الحكم فإنها الداء العضال والمرض القاتل؛ لأنها تصيب صميم القلب فتفسده فيختل في نبضاته ويفقد التغذية ويصبح غير أهل للحكم، وقد نص الفقهاء أن الحاكم إذا أخذ الرشوة انعزل عن الحكم؛ لأنها طعنٌ في عدالته التي هي أساس توليته.   (ب) تفسد منهج الحكم في الأمة أيًّا كان منهجها؛ فإذا كان يقتضي كتاب الله في بلد إسلامي فإنها ستجعله يغير هذا المنهج ويحكم بهواه وهوى من أرشاه، وهذا أشد خطرًا عليه هو، كما قال ابن مسعود: إنَّه كفرٌ مستدلًا بقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44].   (ج) يفقد المجتمع الثقة في الحكم، فلا يعول أحد على منهج القضاء والتحاكم لأخذ الحق، وعندئذ فلا يكون أمام المظلوم إلا أن ينتقم لنفسه، ولا عند صاحب الحقِّ إلا الاحتيال لأخذ حقه بيده.
وفي هذا كله من الفساد مالا يعلم مداه إلا الله تعالى.   (د) وبالتالي ينقلب منهج الإصلاح الاجتماعي، فبدلًا من أن يتعاون الناس على البر والتقوى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكون على العكس من ذلك كله، وفي هذا مضيعة للأمة كلها، كما ضاعت أمة بني إسرائيل كما قال تعالى في موجب لعنهم: ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 79].   (هـ) إعطاء الفرصة والتمكين لكل مبطل ليتمادى في باطله؛ فتسلب الأموال وتنتهك الأعراض وتسفك الدماء بدون أي مبالاة؛ تعويلًا على أنه سيعبر على جسر الرشوة دون أن يلقى جزاءه.   (و) ومن مجموعِ كل ذلك ستقعُ الفرقة والشحناء والتقاطع في المجتمع.   وإذا جاوزنا مجال الولاة والحكام فإننا نجد بساحتهم وقريب منهم قرب الفم من الرأس كل من ولي أمرًا للمسلمين فلم ينصح لهم حتى يرى الرشوة بعينه أو ينالها بيده، أو تظهر في نطاق عمله وإن كان هو عفيفًا لكنه تغاضى عنها بالنسبة إلى من تحت ولايته، وفي استطاعته منعه منها.   وذلك على حدِّ قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه..
»
الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته»، والمفاسد في هذا المجال عديدة منها: (أ) تعطيل الأعمال بغية بذل الرشوة. (ب) وبالتالي تكديسها وعدم إنجازها. (ج) يترتب عليه كساد العمل في البلدة وقلة الإنتاج والمضرة على المجتمع بكامله.   (د) ذهاب قيمة هذا الجهاز بكامله أدبيًّا وخلقيًّا وقريبًا من ذلك رسميًّا، وقد يؤدي إلى تغيير في الجهاز، ويفشو في الناس أن الرشوة هي السبب فتكون مسبةً وعارًا.   ثالثًا: ما يقع في الجمارك وعلى الحدود التي هي بمثابة الثغور؛ فقد تكون سببًا في إدخال ما هو ممنوع لشدة ضرره كالممنوعات الدولية من مخدرات ونحوها، أو إخراج ما تمس الحاجة إليه.   ففي الأول تمكن عملاء السوء من بث سمومهم في الأمة لإفساد الأبدان وضياع الأديان، بل وإفساد الأموال والعقول، وما يجر فساد الفعل وراءه من ويلات، وكل ذلك بسبب رشوة يدفعها العامل لعامل الجمرك.   وفي الثاني حرمان الأمة مما هو من حقها أن ترتفق به وتتوسع في استعماله؛ فيتيح الفرصة للمهربين وتحصيلهم مصلحة أنفسهم في اتجارهم في ضروريات الأمة.   رابعًا: قد تكون في إجراء تعاقد مع العاملين، فقد يتعاقد مع غير الأكفاء بسبب ما يقدمونه من الرشوة، ويترك الأكفاء لتعففهم وعزة نفوسهم، واعتدادهم بكفاءتهم.   وفي ذلك من المضار ما يفوت على الأمة الاستفادة من كفاءة، ومعرفة الأكفاء ويمنحهم بمضار وعجز الضعفاء، ومجالات ذلك عديدة؛ فإذا كان في حقل التعليم أضرّ بالعلم نفسه وبتحصيل أبناء وطنه، وإن كان في الطب فليس هو أقل من غيره، وكذلك في المجالات الأخرى ذات الطابع الفني الذي يرتبط بالمجتمع، وقد يكون في إرساء عطاء لمشروع أو في الإشراف عليه؛ فيتعاطف المرتشي مع الأقل كفاءة وإمكانيات وأسوأ معاملة، وتكون النتيجة على رأس المجتمع، فقد يكون مشروع إسكان أو مدّ جسور فينهار هذا أو ينكسر ذاك، والضحية من المجتمع، وقد سمعنا على مثل هذا، وأن مشروع الإسكان انهار قبل أن يسكن وقبل أن تستلمه الجهة المختصة؛ فكيف تكون الحال لو سكن بالفعل، ومثل ذلك في الطرق والمنشآت الأخرى.   خامسًا: وقد تكون في إبرام صفقة لحاجة البلد؛ فقد يقع التساهل في الصنف أو النقص في المقدار، وقد سمعنا عن صفقة حبوب؛ فلما وصلت بلدها فإذا هي تالفة بالسوس، فهل تشتري دولة لنفسها حبوبًا مسوسة أم أن الرشوة هي التي سوستها، وقد تكون السلعة سلاحًا للدفاع عن الوطن والنفس والأهل والمال والعرض فيأتي إما غير صالح أو غير كاف، وقد سمعنا عن السلاح أول ما دخلت الجيوش العربية فلسطين فكان السلاح يرجع على المقاتلين، فهل كانت الأمة تبعث بأبنائها ليعود عليهم السلاح فيقتلهم؛ فيقتلون بأيدي أنفسهم أم الرشوة هي التي قتلتهم.   وقد تكون في إفشاء سر الدولة أيًّا كان موضوعه؛ فيقع على الأمة من الخسارة بقدر موضوع ذلك السر الذي أفشاه؛ فقد يكون عسكريًّا فيفوت الفرصة على الجيش أو يوقع الجيش في مهلكة ويمكن العدو منه.   وقضية حاطب بن أبي بلتعة عندما همّ بإفشاء سر تحركات المسلمين إلى مكة معروفة، لولا أن تدارك الله المسلمين بمجيء جبريل عليه السلام بالجنود وتدارك الظعينة بالخطاب قبل أن تصل العدو.   كل هذا من المفاسد على عامة الأمة والمجتمع حكومة وشعبًا، وهناك المضار الفردية، وهي بالتالي تعود على المجتمع؛ لأن الفرد جزء منه، وما يؤثر على الجزء يؤثر بالتالي على الكل.   تأثير الرشوة على الفرد: أما تأثيرها على الفرد فإن مردّ ذلك على طرفيها: (أ) الراشي والمرتشي.
وتقدمت الإشارة إليه في نصوص سورة المائدة من دنس القلب وذلة النفس وصغار المرتشي.
وأول ما يكون ذلك وصغاره عند راشيه وشريكه، وقد جاء في بعض الأخبار أن شخصًا ارتشى وباع سرًّا من أسرار بلده لملك من الملوك؛ فجاء ليقبض ثمن خيانته وطلب لقاء ذلك الملك وظنَّ أنه سيكرمه لقاء ما أسداه إليه من جميل، فلمَّا حضر طلب مصافحة الملك فأمر الملك بدفع الثمن إليه، وقال له: هذا ثمن عملك أما يدي فلا تصافح خائنًا.   (ب) إماتة الضمير في العاملين؛ فلا يخلص في عمله ولا ينجز ما وكل إليه إلا بأخذها.   (ج) إضعاف الكفاءات فلا يجهد المجدُّ نفسه في تحصيل مقوماته الشخصية لثقته بالوصول إلى مطلبه عن طريقها، كما يعوّل بعض الطلاب على الغش في الامتحان، أو بعض المشتركين في المسابقات للعمل يعوّل على ما سيوصله إلى العمل المنشود عن طريقها وبالطرق التي يسلكها.
وكما أسلفنا نتائج كل ذلك إنما هي على الفرد أولًا ثم على المجتمع ثانيًا.   ومن كل ما تقدم يظهر خطر تفشيها ومضار وجودها، مما يحتم محاربتها ومعالجة المجتمع من دائها.   طريقة علاجها: طريق علاج أي داءٍ إنما تبدأ من تشخيصه، ثم بمنع مسبباته، ثم علاج أعراضه ومضاعفاته.
وإذا كان التشخيص قد وضح فيما تقدم، والأسباب قد وضحت، والأغراض ملموسة والمضاعفات تتزايد فلم يبق إلا منهج العلاج.   ومن المعلوم أن المرض الشخصي يتحمل مسئوليته الشخص المختص به، وإذا كان جماعيًّا تتحمل الجماعة مسئولية التعاون على علاجه.   والرشوة جمعت بين الأمرين الشخصي والجماعي؛ فعلى الجميع أفرادًا وجماعات واجب التعاون على علاجها، وقد رسم لنا القرآن والحديث منهج العلاج. أولًا وقبل كل شيء: القضاء على مسبباتها كما علمنا (ضعف الوازع الديني)؛ فيعالج بتقويته وتوعية المجتمع توعية دينية، والتحذير من مضارها العاجلة والآجلة من مغبة الأكل الحرام وأثر السحت في النفوس والقلوب مما تقدم.   ثانيًا: الرقابة على الأجهزة التي تكون مظنة تفشيها في أوساطها حتى يحسبوا لذلك حسابًا، وهذا إن لم يمنعها كلية سيخفف من وطئها.   ثالثًا: مصادرة كل ما ثبت أنه أخذ رشوة، سواء كان هذا المأخوذ مالًا أو عرَضًا أو أي عين مادية، حتى تقلل طمع المرتشين وتسد الطريق على من تُسول له نفسه بها، كما فعل صلى الله عليه وسلم بابن اللتبية.   رابعًا: ما جاء في نص القرآن الكريم: ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ ﴾ [المائدة: 63]، والربانيون هم ولاة الأمر العالمون بحدود الله، والأحبار هم العلماء والمعلمون فيجتمع الوازع الديني من العلماء والوازع السلطاني من الحكام.   المصدر: بحث الرشوة، الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة: السنة الثانية عشر - العددان 47، 48 - رجب - ذو الحجة 1400هـ.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١