أرشيف المقالات

الرشوة

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2الرِّشوة (1)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه وبعد: فهذه عجالة في موضوع الرشوة تلبية لطلب (الإعلام)؛ لتُقدَّم في حلقات (تلفزيونية)، سطرتها كبحثٍ ليساعد على تقديمها على حلقات.
وبالله التوفيق ومنه العون والرشاد.   الرِّشْوة لغةً: قيل في المحاباة والجعل؛ قال صاحبُ القاموس: « الرشوة - مثلثة -: الجُعل.
ورَشَاه: أعطاه.
وارتشى: أخذها.
واسترشى: طلبها، والفصيل: طلبَ الرضاع.
والرِّشاء – ككساء -: الحبل»
.   وزاد "صاحب اللسان": « وهي مأخوذة من رشا الفرخ؛ إذا مد رأسه إلى أمه لتزقه».   قال ابن الأثير: « الرشوة الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرشاء الذي يتوصل به إلى الماء؛ فالراشي الذي يعطي من يعينه على الباطل، والمرتشي الآخذ، والرائش الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا ويستنقص لهذا».   ألفاظ مرادفة للرشوة: منها: السُّحْتُ والبرْطيل.   والسحت لغة: الحرام، أو ما خبث من المكاسب فلزم عنه العار؛ سمي بذلك لأنه يسحت البركة ويذهبها، يقال: (سحته الله) أي أهلكه، ويقال: (أسحته)، وقرئ بهما في قوله تعالى: ﴿ فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ﴾ أي يستأصلكم ويهلككم.   واستدل له بقول الفرزدق: وعضَّ زمانٌ يا ابنَ مروان لم يدَعْ *** مِنَ المالِ إلَّا مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ   وأصله كلب الجوع، يقال: (فلانٌ سحوت المعدَةِ) إذا كان لا يلقي أبدًا إلا جائعًا، قاله الفراء[1].   ومما يشهد لهذا المعنى اللغوي ما ثبت في فقه اللغة من تقارب المعنى بتقارب الألفاظ، والسحت متقارب مع السحق بالقاف، وهو الدق والطحن بشدة، وفيه الهلاك والتحطيم، وكذلك يشترك مع السحت السحب بالباء، وفيه سحب المرتشي، ويشترك مع السحر، والرشوة فعل عمل السحر في نفسه.   أما البرطيل: فقيل هو الحَجَر المستطيل، وسميت به الرشوة لأنها تلجم المرتشي عن التكلم بالحق، كما يلقمه الحجر الطويل، وكما جاء في الأثر: « إذا دخلتِ الرِّشوةُ من الباب خرجتِ الأمانة من الكوة» قاله ابن تيمية[2].   وفي القاموس: الترطيل: تليين الشعر بالدهن وتكسيره وإرخاؤه وإرساله.   مناقشة تلك الأقوال: إن قولهم في الرشوة هي المحاباة والجعل لا يخلو من نظر؛ لأن المحاباة أعمّ؛ فقد تحابي صديقك وتصانع ولدك، وبعض من يقرب منك، أو تلزم مداراته لمروءتك أنت؛ كعطاء الشعراء ونحوهم.   ويقرب من هذا ما فعله صلى الله عليه وسلم مع العباس بن مرداس السلمي، حين سخط العطاء في غنائم خيبر وقال شعرًا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «اقطعوا عنَّا لسانَه حتَّى رضي».   وكذلك دخل رجل واستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند عائشة رضي الله عنها؛ فتلطف له ثم قال صلى الله عليه وسلم قولًا، وذلك عندما استأذن عليه قال: « ائذنوا له؛ فبئس أخو العشيرة»، وقال: « إن شرَّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس لشره»، وهو صلى الله عليه وسلم بعيد ومعصوم عن شوائب الرشوة، مما يدل على أن المصانعة والمحاباة ليست رشوة، وأن تفسير الرشوة بذلك فيه نظر، وأن المصانعة تكون بمال وبغير مال.   أما الجُعْل فمعلوم أنه نوع من الإجارة، وهو لا شك جائز بشروطه من بيان العمل المطلوب والجعل المجعول، وله باب في الفقه معروف.   ولو سلمنا أن الرشوة نوع منه - كجعل على باطل - فإن مسمى الجعل أعمّ من الرشوة.   وكذلك السحت؛ فقد فسروه بما هو أعمّ، كقولهم: هو الحرام، وقولهم: هو ما خبث من المكاسب فلزم فيه العار؛ فإنه يشاركه الربا في الخبث ومهر البغي في لزوم العار..
الخ.   وهذا ما يجعلنا نقول: إنه تعريف للرشوة بالمعنى العام، وسيأتي إيضاح المعنى الخاص بها عند الكلام على نصوص القرآن في الموضوع إن شاء الله.   الرشوة في الاصطلاح: ومما يلزم التنبيه عليه هو أن ما لا يوجد له معنى دقيق في اللغة لا يتأتى وجود معنى دقيق له في الاصطلاح؛ لأن المعنى اللغوي أسبق في الوضع والاستعمال؛ فإذا جاء الشرع نقل المعنى اللغوي إلى الاستعمال الشرعي مع زيادة شروطٍ ووضع قيود شرعية.   ومن هذا المنطلق اختلف في تعريف الرشوة اصطلاحًا؛ فقيل: أ - ما يؤخذ بغير عِوضٍ ويعاب أخذه. ب - وقيل: كلُّ مال دفع ليبتاع به من ذي جاه عونًا على مالا يحل.
ذكرَهما في "فتح الباري"[3]. ج - وقال صاحب الإنصاف: الرشوة ما يعطى بعد طلبه، والهدية ما يدفع إليه ابتداء[4].   وهذا أيضا تعريف بالأعم؛ لأن دفع مال لذي جاه ليبتاع به عونًا، نوع من الرشوة وليس كلها؛ لأن المرتشي قد لا يكون ذا جاه، وقد يبتاع من ذي جاه ما يحل بالنسبة للراشي على ما سيأتي.   وقولهم: ما يؤخذ بغير عوض ويعاب أخذه؛ فيدخل فيه المكس وحلوان الكاهن.   وقولهم ما يعطى بعد طلبه؛ فقد تقدم الرشوة قبل الطلب وقبل أن تدعو الحاجة إليها تمهيدًا إليها.   د- وأحسن ما عُرِّفت به قول الجرجاني: « ما يُعطَى لإبطالِ حقٍّ أو لإحقاقِ باطلٍ». وهذا التعريف الأخير أقرب ما يكون لمدلول القرآن له؛ فإن صحة المعنى هو ما يمكن أخذه من عرض القرآن وإيرادها في مواطنها على ما سيأتي إن شاء الله.   وعلى كلٍّ فإن لما عرَّفوا به الرشوة لغةً واصطلحوا عليه شرعًا صلة كبيرة في الصورة والمنطلق، فالتكلم به إظهار للصورة بصفة عامة.   الصلة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي: تقدمت الإشارة إلى أنه لابدَّ من وجود صلة قوية بين المعنى اللغوي والاصطلاحي لكل مادة؛ إذ الأصل في الاستعمال هو اللغة، ثم يجري نقل اللفظ إلى الاصطلاح كما هو معلوم.   وهنا جاء في التعريف اللغوي أن الرشوة مأخوذة من (رشا الفرخ) إذا مدَّ رأسه إلى أمه لتزقه.   وهذه صورة صارخة لعمل المرتشي، وبيان حقيقة وضعه في منتهى الضعف النفسي، كالفرخ لم ينبت له ريش، العاجز عن كسب قوته بنفسه يرى أمه يفغر لها فاهه لتخرج مما في حوصلتها وتفرغه في فمه؛ يرد جوعته.   ولو علمنا أن ما تلقاه بفيه إنما هو بمثابة القيء تستخرجه أمه من حوصلتها لكان كافيًا في التقزز من أكل الرشوة؛ فهو بهذا يجمع بين ضعف الشخصية وذلة النفس وحقارة الطبع.   وهل يوجد أضعف شخصية ممن يبيع مبدأه وإنسانيته ورأيه وما يعتقد صحته، وينحرف إلى طريق معاكس في كل ذلك، ونظير ما يستخرجه الراشي من جوفه ومن ضروريات مقوماته أو اضطراره للوصول إلى حاجته.   وإذا جئنا إلى الأصل الثاني وهو (الرشاء) الذي هو حبل الدلو ليستخرج به الماء من البئر العميق؛ فإننا نجد أيضا صورة التدلي من علياء العزة والكرامة إلى سحيق الذلة والمهانة، وينحدر من منعة الصدق إلى هاوية الكذب، ومن عفة الأمانة إلى دنس الخيانة، وينزلق عن جادة الحق إلى مزالق الباطل، وكأن الحاجة المقصودة عند المرتشي مغيبة بعيدًا عن الراشي بعد الماء في عقر البئر؛ لا وصول إليها إلا بالتدلي بالرشوة كتدلي الدلو برشاه.   وبإمعان النظر تجد أن حقارة المرتشي ومهانته تأتي أول ما تأتي من الراشي نفسه؛ لأنه قاسه بمقياس الإنسانية فوجده لا إنسانية عنده، وبمقياس الأمانة والدين فوجده خاليا منهما، وما تقدم إليه بالرشوة إلا بعد اليأس منه، وإن ألان له القول وتلطف في السؤال، وقد أحسن من قال في نظير ذلك وقريب منه: وإذا امرؤٌ مدح امرأً لسؤالِه وأطال فيه فقدْ أرادَ هِجَاءَه لو لم يُقدِّر فيه بُعدَ المُسْتقَى عند الورودِ لما أطالَ رِشَاءَه   وهكذا صاحب الحاجة لو لم يقدر عدم استجابة من هي عنده، ولو لم يتوقع إعراضه عنه لما قدم له الرشوة ليستجيب إليه.   وكذلك الحال من جانب الراشي؛ إذا لم يكن له حق فيما يطلب، ولا طريق عنده للوصول لما يريد لمنعه منه وتحريمه عليه وعدم استحقاقه إياه؛ فإنه يعمد إلى الرشوة ليتدلى بها متخفيًا كتدلي الدلو في ظلمة البئر حتى يصل إلى ما يريد.   فظهر بهذا قوة الصلة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي للرشوة.   وكذلك السُّحت، إذا كان أصله كلب الجوع وشدته فإن الصلة قوية بينه وبين أكل الرشوة؛ لأن من تعودها - والعياذ بالله - فإنه لا يشبع قط، ولا يكف يده عنها من أي شخص فقير كان أو غني، ضعيف محتاج للمؤنة أو مستغن قوي، إنما همه هو أن يأخذ ويقذف في جوفه السحت لملء فراغه، ولكن ذاك الجوف كالجحيم يقول: هل من مزيد.   وكذلك البرطيل، لقد قيل إنه الحجر الطويل، وإنها لتسكت آكلها عن الحق كما يسكته الحجر، وهذا معنى ظاهر.   ولكن ما قاله "صاحب القاموس" من أن الترطيل تليين الشعر بالدهن وتكسيره وإرخاؤه وإرساله؛ فإن هذا المعنى أوضح؛ لأن الراشي يلين الطريق لنفسه ويمهده كي يصل إلى مطلبه بسهولة، كمن يمر على شعر مدهون ومن جانب المرتشي؛ فإنه يلين الكلام معه وييسر الطريق له ويسترسل معه في باطله استرسال الشعر في اليد، ويسترخي لسماع قول الراشي استرخاء الشعر المدهون الممشط، أي أنه فقد شخصيته وأسقط إرادته واسترخى في دينه وأمانته، واسترسل في باطله حيث أراده الراشي؛ عياذًا بالله!.   نظرة في هذه الألفاظ: يعتبر بعض العلماء أن هذه الألفاظ: (رشوة، سحت، برطيل) هي من قبيل الترادف الذي هو ترادف الألفاظ على معنى واحد، ومثل: (السيف، والمهند، والصمصام، والبتار)، ومثل: (الأسد، والهزبر، والغضنفر).
ولكن المحققين من علماء اللغة ينفون الترادف في اللغة العربية، ويقولون إن الترادف بمعنى وجود عدة صفات للمسمى، وكل لفظ يكون ملحوظًا فيه بعض تلك الأوصاف؛ كالسيف مثلا للجنس، مميزًا له عن السكين وأنواع السلاح الأخرى، والمهند يراعى جودة صنعه مثل المصنوع في الهند فعلا، والصمصام يراعى فيه نوع حديده ومعدنه وهكذا.   وقد أيد شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ذلك، ومثّل له في قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً ﴾؛ فقال: يقول العلماء (المور) الحركة من قبيل الترادف، ولكن المور فيه معنى زائد على مطلق الحركة، ألا وهو كونها بسرعة، فالمور الحركة بسرعة.   وعليه يمكن أن يقال هنا إن الرشوة والسحت يجتمعان ويفترقان.   يجتمعان حينما يكون العمل محرمًا من الجانبين الراشي والمرتشي، فهو رشوة في حقهما، كما في الحديث: « لعن الله الراشي والمرتشي»، على ما سيأتي الكلام عليه فيما بعد إن شاء الله، وهو سحت في حق المرتشي يأكله سحتًا.   وينفرد السحت حينما يكون العمل محرمًا من جانب واحدٍ، وهو جانب الأخذ فقط؛ فيأكله فيأكل ما أخذه سحتًا، والله أعلم.   المصدر: بحث الرشوة، الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة: السنة الثانية عشر - العددان 47، 48 - رجب - ذو الحجة 1400هـ.


[1] أبو حيان. [2] المجموع (ج 28/ ص 304). [3] (ج11 / ص 212). [4] (ج 11 / ص 212).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن