أرشيف المقالات

العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني   تشير هذه القاعدة إلى أنَّ عقود البيع والشراء وإن كانت تتم بالألفاظ والمباني، فإنَّ المعتبر في هذه العقود هو المقصد والنية للمتعاقدين، لا مجرد ألفاظهما "فالعبرة بما أُضمر لا بما أُظهر"[1].   ودليل هذه القاعدة: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّما الأعمال بالنِّيَّات، وإنَّما لكل امرئ ما نوى"[2].   قال ابن تيمية: والنِّيَّات معتبرة في العقود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الأعمال بالنِّيَّات"، فهذا الحديث أصلٌ في إبطال الحيل، وبه احتج البخاري على ذلك؛ ا.هـ[3].   وبناءً على هذه القاعدة فقد حرَّم الشرع عقودًا من البيع ظاهرها الصحة؛ وذلك لأنَّها قد أخفت في باطنها ما أفسدها وجعلها باطلة، ومن أمثلة ذلك: بيع العِينة: وهو نوع من الحيل المذمومة التي يتحايل بها المرء على التعامل بالرِّبا الذي حرَّمه الله[4]؛ عن ابن عمر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى تُراجعوا دينكم"[5]، وعن ابن عباس رضي الله عنه وقد سُئل عن العِينة، فقال: إنَّ الله لا يُخدع، هذا ممَّا حرَّم الله ورسوله[6].
قال ابن القيم: فسمَّى الصحابة من أظهر عقد التبايع ومقصوده الرِّبا خداعًا لله، وهم المرجوع إليهم في هذا الشأن؛ ا.هـ[7].   وقال رحمه الله: والمتكلم إذا لم يقصد بكلامه معانيه، بل تكلَّم به غير قاصد لمعانيه، أبطل الشرع عليه قصده؛ كالمرابي بعقد العِينة؛ ا.هـ[8].   فمثل هذه الحِيَل التي يُتوصَّل بها ما حرَّمه الله، هي حِيَلٌ محرمة وباطلة، يُعامل فيها المرء بنيته وقصده، لا بكلامه ولفظه، وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله اليهود، إنَّ الله حرَّم عليهم شحوم الميتة فأذابوه، ثم جملوه فباعوه، وأكلوا ثمنه"[9].   قال الخطابي: في هذا بيان بُطلان كل حيلة يحتال بها للتوصل إلى محرَّم، فإنَّه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه؛ ا.هـ[10].   وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود، وتستحلُّوا محارم الله بأدنى الحيل"[11].   قال ابن القيم معلِّقًا على الحديث: وهذا نص في تحريم استحلال محارم الله بالحيل؛ ا.هـ.   وقال أحمد بن حنبل رحمه الله في أصحاب الحيل: عمدوا إلى السنن، فاحتالوا في نقضها، فالشيء الذي قِيل أنَّه حرام احتالوا فيه حتى أحلُّوه؛ ا.هـ[12].   وقد ذكر ابن تيميه رحمه الله كلامًا بديعًا في التفريق بين العاصي والمحتال، قال فيه: إنَّ بني إسرائيل أحلُّوا الرِّبا، وذلك أعظم من أكل الصيد المحرَّم، ثم إن أكلَة الرِّبا لم يُعاقبوا بالمسخ كما عُوقِب به مستحلو الحرام بالحيلة، فيشبه - والله أعلم - أنْ يكون هؤلاء أعظم جُرْمًا؛ ا.هـ، فنلحظ من قصة أصحاب السبت أنَّ عاقبة المحتال أسوأ من عاقبة العاصي[13].   قال أيوب السختياني في أهل الحيل: يُخادعون الله كأنَّما يُخادعون الصبيان، فلو أتوا الأمر عيانًا كان أهون عليَّ؛ ا.
هـ[14].   قال ابن القيم: وقد مسخ الله أصحاب السبت قردة؛ لأنَّ صورة القرد فيها شبه بصورة الإنسان، وهو مخالف له في الحقيقة، فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله ولم يتمسكوا إلا بما يُشبه الدين في ظاهره دون حقيقته، مسخهم الله قردة، يُشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاءً وفاقًا؛ ا.هـ[15].


[1] المباني: هي الجمل التامة التي تفيد معنى، وانظر القواعد الفقهية لمحمد بكر إسماعيل (ص/ 39)؛ د.
عزام (ص/ 370)، والأشباه والنظائر؛ لابن الملقن (1/ 325). [2] متفق عليه. [3] قلت: حيث إن البخاري بوَّب للحديث بقوله: كتاب الحيل، ثم ذكر الحديث، وانظر: التدابير الواقية (ص/ 122). [4] وبيع العِينة هو أن يبيع الرجل لآخر سلعة بثمن مؤجَّل، ويسلمها للمشتري، ثم يشتريها منه بثمن نقد أقل من ثمنها المؤجَّل، فهو في ظاهره بيع، أما في حقيقته فهو بيع مال معجَّل بأكثر منه مؤجَّل؛ انظر السائل والفقيه (ص/ 49)، ونصب الراية (4/ 42)، والتعريفات (ص/ 48). [5] حم (5562) د (3462)، وصححه الألباني في الصحيحة (1/ 10). [6] انظر: إغاثة اللهفان (1/ 328). [7] انظر: المصدر السابق. [8] انظر: إعلام الموقعين (3/ 106). [9] حم (14472) خ (2223) م (1581) د (3488) ت (1297). [10] انظر: عون المعبود (6/ 343). [11] رواه ابن بطة في جزء إبطال الحيل، وقال: وهذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي، وحسنَّه ابن تيمية، وقال ابن كثير: إسناده جيد، وكذا حسنَّه ابن القيم في حاشيته على السنن، وانظر: مجموع الفتاوى (29/ 29)، والإرواء (1535). [12] انظر: إغاثة اللهفان(1/ 335). [13] انظر: التدابير الواقية (ص/ 127)، وقضايا معاصرة (ص/ 210). [14] انظر: إعلام الموقعين (3/ 108). [15] انظر: إغاثة اللهفان (1/ 330).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢