أرشيف المقالات

الفرق بين بيع المضطر وبيع المكره وبيع التلجئة

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2الفرق بين بيع المضطر وبيع المكره وبيع التلجئة   بيع المضطر: فيه يُضطر المرء إلى بيع الشيء لحاجته إلى المال؛ وذلك لسداد دَينٍ رَكِبَه أو مؤنه ترهقه، فيبيع بالنقص للضرورة. حكمه: هو بيع صحيح نافذ، ويترتب عليه آثاره من انتقال المبيع وتملك الثمن.   قال ابن حزم: بيع المضطر قد تم عن تراضٍ، ولم يجبره أحدٌ عليه، فهو صحيح بنص القرآن[1].   فالدافع إلى بيع المضطر هو الحاجة لا الإكراه، فصح لحصول التراضي[2]، وهو قول الجمهور خلافًا للحنفية، أما ما رُوي في النهي عن بيع المضطر، فهو ضعيف لا يصح[3].   لكن: وعلى القول بصحة بيع المضطر، وهو الصحيح، فلا يحل لمن اشترى منه أنْ يبخسه حقه.   قال الشوكاني: كل مضطر لا يحل لمسلم أنْ يغتنم اضطراره إلى البيع، فيشتريه منه بدون قيمته[4].   قال العظيم آبادي: في حق الدين والمروءة ألا يُبَايع المضطر على هذا الوجه، بل يُقرَض إلى الميسرة، أو تشتري منه السلعة بقيمتها[5].   بيع الإكراه: الإكراه لغة: حمل المرء على فعل شيء بغير رضاه. وقولنا: باع عليه القاضي ضيعته: باعها على غير رضاه[6].   والإكراه في البيع: هو حمل المرء على بيع شيء لا يريد بيعه، أما حكمه، فهو على تفصيل: 1- إكراه على البيع بحق: وفيه يُكره المرء على بيع الشيء، ولكنه إكراه بحق، ومن صور ذلك: أ- إكراه المفلس على بيع ما في يده لسداد دينه. قال ابن تيميه: للحاكم أنْ يُجبر المدين على بيع العرَض في وفاء دينه؛ لأنَّه حق واجب، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب؛ ا.هـ[7].   ب- إكراه صاحب الأرض على بيعها لتوسعة مسجد يضيق بالناس، أو توسعة طريق المسلمين[8]. حكمه: صحيح نافذ. قال النووي: إنْ كان الإكراه على البيع بحق صح؛ لأنَّه قول حُمل عليه بحق فصح[9]. نقول: فالإكراه بحق لا يمنع انعقاد البيع؛ إقامةً لرضا الشارع مقام رضا المكرَه، والقاعدة: "الإكراه الحلال لا يفتقر إلى الرضا"[10].   2- إكراهٌ على البيع بغير حق: وفيه يُحمل المرء على بيع شيء بغير رضاه، وبغير سبب شرعي. حكمه: باطلٌ لا يصح؛ قال تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29]، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّما البيع عن تراض"[11]، وفي رواية: "لا يَفترقنَّ اثنان إلا عن تراضٍ"[12].   قال ابن تيمية: بيع وشراء المكرَه بغير حق لغوٌ عندنا والعقد باطلٌ، وهو بيعٌ غير لازم باتفاق المسلمين؛ ا.هـ[13]، والقول ببُطلان بيع المكرَه هو قول الأئمة الأربعة.   قال ابن العربي: قوله تعالى: ﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾، نصٌّ في إبطال بيع المكرَه؛ وذلك لفوَات الرضا فيه، وتنبيه على إبطال أفعاله كلها حملًا عليه[14].   قال الشوكاني: البيع الذي أحلَّه الله وجعله مقتضيًا لانتقال الأملاك، لا يعتبر فيه إلا مجرد التراضي[15].   فائدة: وإنْ كان التراضي شرطًا في صحة البيع، وأنه قد ينتفي في حالات، ومع ذلك يصح البيع، كما أسلفنا ذكره، ألا فاعلم أنَّ هناك من البيوع ما يقع فيها التراضي من الطرفين ومع ذلك فهي باطلة، كالبيوع الرِّبوية وبيوع الغرر.   قال الشافعي: لَمَّا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيوع تراضى بها المتبايعان، استدللنا أن الله أحلَّ البيع إلا ما حرمه الله على لسان رسوله[16].   قال الشوكاني: والرِّبا مما قد حرَّمه الله وتوعَّد بالحرب على فاعله، والعجب ممن يزعم أنَّها إذا طابت أنفس المتعاملين ورضيا به، كان جائزًا، فهذه غفلةٌ عظيمةٌ للعلم؛ لأنَّ الله لم يجعلْ للتراضي حكمًا يحلل كبيرة الرِّبا[17].   قال ابن العربي: وقد حرَّم الله الرِّبا، وقد كانوا يفعلونه ويعلمونه ويتسامحون فيه.   لذا نقول: ليس كل بيع يصح بالتراضي وليس كل بيع يبطل بالإكراه.   فائدة: الذي يبطل به البيع هو الإكراه على البيع، أما من أُكره على سبب البيع، فهنا يصح البيع، كمن يُكره على دفع مال لا يملكه، فيضطر إلى بيع شيء يملِكه لسداد هذا المال، فهنا يدخل تحت بيع المضطر، ولا يعد من باب بيع المكره[18].   بيع المُلجَأ (التلجئة): تعريفه اصطلاحًا: يرجع معناه إلى معنى الإلجاء، وهو الإكراه التام، وصورته: أنْ يلجأ المرء إلى بيع ما لم يرده باطنًا؛ وذلك خوفًا أنْ يستولي عليه ظالم، فيتظاهر ببيعه لآخر على أنْ يرده عليه بعد ذلك.   قال الجرجاني: هو العقد الذي يُباشره الإنسان عن ضرورة، ويصير كالمدفوع إليه، وهو نوع من الهزل[19].   أما حكمه: فهو عقدٌ باطلٌ غير صحيح؛ حيث إنَّ كلا العاقدين لم يقصدا حقيقة البيع، فلم يصح منهما كالهازلين، فالعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.   قال ابن قدامة: وبيع التَلْجِئة باطل؛ لأنَّهما ما قصدا حقيقة البيع؛ ا.هـ[20].


[1] انظر المحلى (9/ 29). [2] انظر معالم السنن (3/ 87)، وصحيح فقه السنة (4/ 271). [3] حم (937) د (3382) عن علي بن أبي طالب مرفوعًا، وفي سنده مجهول، وأيضًا في سنده صالح بن رستم، قال عنه ابن معين: ضعيف ليس بشيء، وليَّنه الدارقطني والحاكم، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، قال ابن حجر: صدوق يخطئ كثيرًا؛ قال النووي: النهي عن بيع المضطر لا يصح، في سنده شيخ مجهول من بني تميم؛ ا.هـ، وقد ضعَّف الحديث الألباني في ضعيف الجامع (14224)، كذلك جاء في رواية أبي يعلى عن حذيفة مرفوعًا: "ألا إن بيع المضطرين حرام"، وهو أيضًا ضعيف، في سنده كوثر بن حكيم وهو ضعيف بالإجماع، قال أحمد: أحاديثه بواطيل، ليس بشيء؛ ا.هـ، وانظر شرح السنة (4/ 298)، ونثل النبال (3/ 1148)، والمجموع (9/ 153). [4] انظر: السيل الجرار (3/ 12)، والسائل والفقيه (ص/ 13). [5] انظر: عون المعبود (6/ 253). [6] انظر: لسان العرب (12/ 81)، ومختار الصحاح (ص/ 292). [7] انظر: الفتاوى الكبرى (29/ 190)، وقال ابن تيمية: كل من وجب عليه أداء مال، إذا لم يمكن أداؤه إلا بالبيع، صار البيع واجبًا يُجبر عليه، ويُفعل بغير اختياره؛ ا.هـ. [8] ولكن لا يجوز للحاكم هنا أنْ يبخسه حقَّه، بل يعطيه أكثر من ثمن المثل جلبًا لرضاه، فإنَّ ما يؤخذ بالتراضي أولى مما يُؤخذ بالإكراه. [9] ذكره النووي في المجموع (9/ 150). [10] انظر: القواعد الفقهية لمحمد بكر إسماعيل (ص/ 264). [11] جه (1792) حب (4967)، وصححه الألباني في الإرواء (5/ 125). [12] حم (10922) د (3458)، والترمذي (1248)، واللفظ لأبي داود، وقال الألباني: حسن صحيح (الإرواء/ 1283). [13] ذكره في مجموع الفتاوى (29/ 196). [14] وانظر: أحكام القرآن(1/ 411). [15] ذكره الشوكاني في السيل (3/ 7). [16] انظر: أحكام القرآن (ص/ 136). [17] انظر: السيل الجرار (3/ 79). [18] انظر: الفقه على المذاهب الأربعة (2/ 147). [19] انظر: التعريفات (ص/ 48). [20] والقول ببطلان بيع الملجئ هو ما ذهب إليه الحنابلة وأبو يوسف ومحمد أصحاب أبي حنيفة، وبينما ذهب أبو حنيفة والشافعي إلى القول بصحته، وانظر: المغني (4/ 237)، وروضة الطالبين (2/ 15).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣