أرشيف المقالات

قبل الزيارة..

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2قبل الزيارة..   دخلت سنة تسع وثلاثين من الهجرة، وفيها توفي من الأعيان: صهيب الرومي رضي الله عنه، الذي سابَقَ العرب إلى الإسلام، فكان من القلة على الأرض الذين أسلموا آنذاك، وهاجر بعد ذلك مع مَن هاجروا إلى المدينة، تاركًا للذين لاحقوه من كفار قريش مالَهُ المخبَّأ بعدما دلَّهم عليه مقابل تركه، توفي صهيب في ذلك العام.   ومنذ ذلك الحين إلى الآن، وصهيب في قبره! منذ ألف وأربعمائة سنة، قرون طويلة، وعهود مديدة، وأزمنة متخمة بالأحداث والتقلبات...
قامت فيها دول وانهارت دول...
وبشرية وُلدت وأخرى دُفنت...
وأفراح وأتراح...
وفساد وصلاح...
وأفكار ومذاهب...
وحضارات وأمم...
كل ذلك وصهيب في لحده.   أُخَيَّ، أتَرَى سلسلة القرون المتطاولة تلك؟ أترى الآن بياض شيبها؟ إنها لا تُعَدُّ في الميزان القرآني إلا مجرد (زيارة)! مجرد زيارة! والزيارة غالبًا لا تتسم بالطول؛ قال تعالى: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾ [التكاثر: 1، 2]، فتلك الأزمان المتعاقبة على وفاة صهيب ما هي إلا زيارة قصيرة، وحياتنا أقصر من تلك الزيارة!   حياتنا ما هي إلا ومضةُ برقٍ في جنب ليلٍ طويلٍ لا صباح له إلا يوم القيامة، هذه الحياة - ويا للأسف - يذهب ثلثها عند البعض في لهو الطفولة وطيش الشباب، وثلثها الآخر في الملذات، وثلثها الثالث في شغل الدنيا والركض خلفها إلا ما شاء الله، وليس يصفو من تلك الأثلاث إلا القليل القليل، يصرفه الموفَّقون للدار الآخرة وعسى أن يُقبَل، ويُلحِقه الآخرون بما مضى وعسى أن يُغفَر.   وقعت بيدي مرة وأنا أبحث في أحد الأدراج المنزوية ورقةً عتيقة، متثلمة الجوانب، لينة من تعاقب الأيام، متكسرة، منثنية الزوايا، رفعتُها وقلَّبتُ فيها ناظريَّ، فإذا بي أنظر إلى أحداث وذكريات لا حروف وكلمات، فاندهشت من انفراط الأزمنة وبغتة الأيام، فتلك الورقة قد مضى عليها عقدان من الزمان!   أسلمني ذلك الاندهاش إلى اندهاش من نوع آخر يقع من المجرمين يوم القيامة من سرعة تصرم دنياهم، وذلك حين يقومون من تلك (الزيارة)، لكنهم من بغتتها أقسموا أنهم ما مكثوا إلا قليلًا؛ قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ﴾ [الروم: 55]، وهؤلاء المجرمون قد يكونوا من تلك الأمم التي طالت أعمارها في الدنيا، فلربما بلغت المئات من الأعوام، ومع هذا وصفوا دنياهم تلك كأنها ساعة!   فإذا كان هذا الأمر معلومًا للعاقل، فلِمَ تتسرب الأيام بين يديه؟ لِـمَ صار بعض المشار إليهم بالبنان - في مجتمعه على الأقل - يتساءل صباح ذاك اليوم: كيف أقضي المساء؟ وأين؟   لقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى انصرام الأيام وتبدُّل الأحوال حين شبَّه بقاءه في الدنيا كرجلٍ استراح بظلِّ شجرةٍ ثم راح وتركها، ستة عقود وأكثر عاشها صلى الله عليه وسلم يشبهها قبل موته بظلٍّ، نعم...
بظلٍّ!   صوَّر متمم بن نويرة سرعة انمحاء الأيام الخوالي بين الندماء والأخلاء حتى كأن ليلة واحدة لم تجمعهم حين رثى أخاه مالكًا فقال: فلما تفرقنـا كأني ومالكًا *** لطول اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا   وقال أبو الحسن التهامي واصفًا تقليب الزمان لصفحات الحياة: بينا يُرى الإنسان فيها مخـبرًا *** حتى يُرى خبرًا من الأخبارِ   وما دام الأمر كذلك، فمن العبث بالعمر أن يتسمَّرَ المرء أمام شاشة جواله طوال يومه متنقلًا بسبابته بين العالم، ومقتحمًا مواقع التواصل موقعًا موقعًا غير مؤثرٍ فيها بخير ولا متأثر، أو فاغرًا فاه أمام سيل من الأفلام، أو حاشرًا جدوله باللقاءات والمسامرات، دائسًا بقدم الفراغ على زهرة شبابه، فصار حِملًا آخرَ زيادة على الأحمال التي على كاهل الأمة.   إن غياب الهدف لدى الشاب، وانحسار مدِّهِ الدعوي، وضياع حياته في تتبع الجاري من الأحداث - انهزامٌ داخلي غير معلن، واهتبالُ الفرصة والعضُّ على دقائق العمر من الانفلات هو ما يميز - اليوم - الجادَّ.   ومما يرغِّب النفس على اغتنام العمر: النظر في حياة الراحلين المؤثرين الذين كتب الله آثارهم وما قدموا، فما مات من أبقى أثرًا حيًّا.   ومن يرد الله به خيرًا يأخذ بيده لطاعته، فينكب على كتب العلم، أو يثني ظهره ليخطَّ ما قال الشيخ، أو يشخص بصره للسماء يهمهم بورده من القرآن، أو يتتبع أثر الدعاة سائرًا على موضع أقدامهم، أو يمسح جبينه من عرق أحمال الإغاثة، أو غير ذلك من أبواب الخير المشرعة، والمخذول من خذله الله فاتكأ على قادم الأيام!   أيقظ الهمة...
وانطلق للميادين...
فلربما تقوم بالزيارة بعد قليل.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣