أرشيف المقالات

شرح حديث جبريل وسؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان (6)

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2شرح حديث جبريل وسؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان [الإيمانُ بالكُتب السّماوية والرُّسلِ]   وقوله: «وَكُتُبِهِ»؛ وهو الركن الثالث، والكتب جمع كتاب، والمراد به الكتاب الذي أنزله الله على الرسل، فكل رسول له كتاب؛ كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ﴾ [الشورى: 17]، وقال: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25].   لكن من الكتب ما لا نعلمه ومنها ما نعلمه! فالتوراة، وهي الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه الصلاة والسلام معلوم، والإنجيل، وهو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى عليه الصلاة والسلام معلوم، وصحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام مذكورة في القرآن، وزبور داوُد عليه الصلاة والسلام مذكور في القرآن، وصحف موسى عليه الصلاة والسلام إن كانت غير التوراة مذكورةٌ في القرآن أيضًا، فما ذكر الله اسمه في القرآن وجب الإيمان به بعينه واسمه، وما لم يذكر فإنه يؤمن به إجمالًا، فنؤمن بأن الله أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام كتابًا هو التوراة، وعلى عيسى كتابًا هو الإنجيل، وعلى داود عليه الصلاة والسلام كتابًا هو الزبور، وعلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام صحفًا، هكذا نقول، ولا يعني ذلك أن ما وُجِدَ عند النصارى اليوم هو الذي نزل على عيسى؛ لأن الأناجيل الموجودة عند النصارى اليوم محرَّفة ومغيَّرة ومبدَّلة، لعب بها قساوسة النصارى فزادوا فيها ونقصوا وحرفوا؛ ولهذا تجدها تنقسم إلى أربعة أقسام أو خمسة، ومع ذلك فإن الكتاب الذي نزل على عيسى كتاب واحد، لكن الله تعالى إنما تكفل بحفظ الكتاب الكريم الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا نبي بعده يبيِّن للناس ما هو الصحيح، وما هو المحرف، أما الكتب السابقة فإنها لم تخلُ من التحريف؛ لأنه سيبعث أنبياء يُبيِّنون فيها الحق ويُبيِّنون فيها المحرَّف.   وهذا هو السر في أن الله تكفل بحفظ القرآن دون غيره من الكتب، من أجل أن يعلم الناس حاجتهم إلى الأنبياء إذا وجدوا الكتب محرفة، فتأتي الأنبياء وتبيِّن الحق.   فالمهم أن نؤمن بأن الكتاب الذي نزل على النبي المعين حق من عند الله، لا على أن الكتاب الذي في أيدي أتباعه اليوم هو الكتاب الذي نزل، بل قطعًا أنه محرَّف ومغيَّر ومبدَّل.   ومن الإيمان بالكتب أن تؤمن بأن كل خبر جاء فيها فهو حق، كما أن كل خبر في القرآن فهو حق؛ لأن الأخبار التي جاءت في الكتب التي نزلت على الأنبياء من عند الله،وكل خبر من عند الله فهو حق، وكذلك تؤمن بأن كل حكم فيها صحيح من عند الله فهو حق؛ يعني: كل حكم لم يحرَّف ولم يغيَّر فهو حق؛ لأن جميع أحكام الله التي ألزم الله بها عباده كلها حق، لكن هل هي بقيت إلى الآن غير محرَّفة؟   هذا السؤال بيَّنا الجواب عليه بأنها غير مأمونة، بل مغيَّرة ومحرَّفة ومبدَّلة، ولكن هل علينا أن نعمل بالأحكام التي جاءت بها الكتب السابقة؟ نقول: أما ما قصَّهُ الله علينا من هذه الكتب، فإننا نعمل به ما لم يرِد شرعنا بخلافه.   مثاله: قوله تعالى عن التوراة: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [المائدة: 45]؛ هذه مكتوبة في التوراة ونقلها الله عز وجل لنا في القرآن، لكن الله عز وجل لم يقصَّها علينا إلا من أجل أن نعتبر ونعمل بها؛ كما قال الله: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]، وقال: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90].   فما قصه الله علينا وما نقله لنا من الكتب السابقة فهو شرع لنا؛ لأن الله لم يذكره عبثًا، إلا إذا ورَدَ شرعنا بخلافه، فإذا ورد شرعنا بخلافه صار ناسخًا لها، كما أن من الآيات الشرعية النازلة في شرعنا ما يكون منسوخًا بآيات أخرى، فكذلك ما ذكره الله عن الكتب السابقة نقلًا فإنه قد ينسخ بهذه الشريعة، أما ما جاء في كتبهم فإننا لا نصدقه ولا نكذبه، كما أمر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام فيما إذا حدثنا بنو إسرائل أن لا نصدقهم ولا نكذبهم؛ لأننا ربما نصدقهم بالباطل وربما نكذبهم بحق، فنقول: آمنا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل إليكم، ولا نصدقهم ولا نكذبهم إذا كان لم يشهد شرعنا بصحته ولا بكذبه، فإن شهد بصحته أو بكذبه عملنا ما تقتضيه هذه الشهادة، إن شهد بصحته صدقناه، وإن شهد بكذبه كذبناه.   ومن ذلك ما يُنسب في أخبار بني إسرائيل إلى أخبار بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ كما ذُكر عن داود أنه أعجبته امرأة رجل من جنده وطلب من الجندي أن يذهب إلى العدو ويقاتل لعله يُقتل فيأخذ امرأته من بعده! وأنه أرسل الجندي فبعث الله إليه جماعة من الملائكة يختصمون إليه فقال أحد الخصمين: ﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ [ص:23، 24]؛ قالوا: فهذا مَثَلٌ ضربه الله لداود حيث كان عنده من النساء ما يبلغ تسعًا وتسعين امرأة، فحاول أن يأخذ امرأة هذا الجندي ليُكملَ بها المائة! فهذه القصة كذب واضح؛ لأن داود عليه الصلاة والسلام نبي من الأنبياء، ولا يمكن أن يتحيل هذه الحيلة، بل لو أنه غيرُ نبيٍّ ما فعل هذا وهو عاقل فكيف وهو نبي؟!   فمثل هذه القصة التي جاءت عن بني إسرائيل نقول: إنها كذب؛ لأنها لا تليق بالنبي، ولا تليق بأي عاقل، فضلًا عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.   الخلاصة: أن ما جاء في كتبهم ينقسم إلى قسمين رئيسيْن: أولًا: ما قصه الله علينا في القرآن أو قصه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا مقبول صحيح. والثاني: ما نقلوه هم، فهذا لا يخلوا من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يشهد شرعنا بكذبه، فيجب علينا أن نكذِّبه ونردَّه. والثانية: ما شهد شرعنا بصدقه فنصدقه ونقبله؛ لشهادة شرعنا به. والثالث: ما ليس هذا ولا هذا، فيجب علينا أن نتوقف؛ لأنهم لايؤمنون، ويحصل في خبرهم الكذب والتغيير والزيادة والنقص.   قوله: «وَرُسُلِهِ»: هذا هو الركن الرابع، الرسل هم البشر الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى إلى الخلق وجعلهم واسطة بينه وبين عباده في تبيلغ شرائعه، وهم بشر خلقوا من أب وأم، إلا عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فإن الله خلقه من أم بلا أب.   أرسلهم الله سبحانه وتعالى رحمة بالعباد وإقامة للحجة عليهم؛ كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ إلى قوله: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء:163- 165].   وهم عدد كثير، أولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ﴾.   وقد صحَّ في «الصحيحين»، وغيرهما في حديث الشفاعة: أن الناس يوم القيامة يأتون إلى نوح فيقولون له: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض.   أما دليل كون النبي عليه الصلاة والسلام آخر الرسل فهو قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40].   وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا خاتم النبيين». فعلينا أن نؤمن بأن جميع الرسل الذين أرسلهم الله صادقون فيما بلَّغوا به عن الله وفي رسالتهم. علينا أن نؤمن بأسماء من عُيِّنت أسماؤهم لنا، ومن لم تُعيَّن أسماؤهم لنا، فإننا نؤمن بهم على سبيل الإجمال.   علينا أيضًا أن نؤمن أن ما من أمة إلا أرسل الله إليها رسولًا لتقوم عليهم الحجة؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [فاطر: 24].   وعلينا أن نُصَدِّقَ بكل ما أخبرتْ به الرسل إذا صح عنهم من جهة النقل ونعلم أنه حق.   وعلينا أن نتبع خاتمهم محمَّدًا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي فُرِض علينا اتِّباعه، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158]؛ فأمرنا الله تعالى باتباعه.   وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31]، أما ما سواه من الرسل فإننا نتبعهم إذا ورد شرعنا بالأمر باتباعهم؛ مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل الصلاة صلاة أخي داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثُلُثه وينام سُدُسه، وأفضل الصيام صيام أخي داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا».   فهذا حكاية لتعبد داود وتهجده في الليل، وكذلك صيامه، من أجل أن نتبعه فيه.   أما إذا لم يرد شرعنا بالأمر باتباعه فقد اختلف العلماء رحمهم الله هل شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بالأمر بخلافه، أو أنه ليس بشرع لنا حتى يرد شرعنا بالأمر باتباعه؟ والصحيح أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد شرعنا بخلافه؛ لأنه تعالى لما ذكر الأنبياء والرسل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]؛ فأمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي من سبقه، وقال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]؛ وهذه آخر سورة يوسف التي قصَّ الله تعالى علينا قصته مطولة من أجل أن نعتبر بما فيها؛ ولهذا أخذ العلماء رحمهم الله من سورة يوسف فوائد كثيرة، في أحكام شرعية في القضاء وغيره، وأخذوا منها العمل بالقرائن عند الحكم؛ لقوله تعالى:﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 26، 27]؛ فقالوا: هذه قرينة؛ لأنه إذا كان القميص قُدَّ من قُبُلٍ فالرجل هو الذي طلبها فقدَّت قميصَه، وإذا كان من دُبُر من الخلف فهي التي طلبته وجَرَّت قميصه حتى انقد، فهذه قرينة ثبت بها الحكم، والعلماء اعتمدوا هذه القرينة وإن كان في السنة ما يدل على الحكم بالقرائن في غير هذه المسألة، لكن القول الراجح في شرع من قبلنا أنه شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه.   وللرُّسُل عليهم الصلاة والسلام علينا أن نحبهم، وأن نعظِّمهم بما يستحقون، وأن نشهد بأنهم في الطبقة العليا من طبقات أهل الخير والصلاح؛ كما قال الله: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].   المصدر: «شرح رياض الصالحين» (1 /446 - 453).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢