أرشيف المقالات

شرح حديث ابن عباس: احفظ الله يحفظك

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2شرح حديث ابن عباس: احفظ الله يحفظك   عن ابنِ عبَّاس، رضي الله عنهما، قال: كنتُ خَلْفَ النَّبيِّ، صلي اللهُ عليه وسلَّم، يومًا فقال: «يا غُلامُ، إنِّي أعلِّمُك كلماتٍ: احْفظِ اللهَ يحْفظْكَ، احفَظِ اللهَ تجدْه تُجاهَكَ، إذا سَألتَ فأسْالِ اللهَ، وإذا اسْتعنْتَ فاسْتعِنْ باللهِ، واعلم: أنَّ الأمَّةَ لو اجتمَعتْ علي أن ينفعوك بشيءٍ، لم يَنفَعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كَتَبه اللهُ لك، وإنْ اجتمعوا علي أن يَضُّرُّوك بشيءٍ، لم يضرُّك إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفِعتِ الأقلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ».
رَوَاه الترمذيُّ وقال: حديثٌ حسَنٌ صَحيحٌ.   وفي روايةِ غيرِ التِّرْمذِيِّ: «احْفظِ اللهَ تَجدْه أمامَك، تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعْرفْكَ في الشِّدَّةِ، واعْلَمْ أنَّ ما أخطاءَك لم يكنْ لِيُصيبَكَ، وما أصَابكَ لم يَكُنْ ليُخْطئكَ، واعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مع الصَّبْرِ، وأنَّ الفَرَجَ مع الكَرْبِ، وأنَّ مع العُسْرِ يُسْرًا».   قال العلَّامةُ ابنُ عثيمين - رحمه الله -: قوله: «كنتُ خلْف النَّبي صلَّي اللُه عليه وسلَّم»؛ أي: راكبًا معَه.   قوله: «فقال لي: يا غُلامُ...
احْفظِ اللهَ يحْفظْكَ»
، قال له: «يا غلام»؛ لأنَّ ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيرًا، فإنَّ النبي صلي الله عليه وسلم توفي وهو قد ناهز الاحتلام؛ يعني من الخامسة العشرة إلى السادسة عشرة أو أقل.
فكان راكبًا خلف الرسول صلي الله عليه وسلم فوجَّه إليه النبيُّ صلي الله عليه وسلم هذا النداء: «يا غلامُ، احفَظِ الله يحفظْكَ» كلمةٌ جليلةٌ عظيمةٌ، احفظِ الله، وذلك بحفظِ شرْعهِ ودينِه، بأن تمتثلَ لأوامره وتجتنبَ نواهيَه، وكذلك بأن تتعلَّم من دينه ومن شريعته سبحانه وتعالى ما تقوم به عباداتُك ومعاملاتُك، وتدعوا به إلى الله عزَّ وجلَّ لأنَّ كل هذا من حفظِ الله، فالله سبحانه وتعالى نفسُه ليس بحاجةٍ إلى أحدٍ حتَّى يُحفظ، ولكن المراد حفظُ دينه وشريعتِه، كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾ [محمد: من الآية 7]، وليس المعني: تنصرون ذاتَ الله، لأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى غنيٌّ عن كل أحدٍ، ولهذا قال في آية أخرى: ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ ﴾ [محمد: من الآية 4]، ولا يعجزونه: ﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ﴾ [فاطر: من الآية 44].   إذًا: «احفظ الله يحفظك» جملةٌ تدلُّ على أنَّ الإنسان كلَّما حفظ دين الله حفظه اللهُ تعالى في بدنه، وحفظَه في ماله وأهلِه، وفي دينه، وهذه أهم الأشياء، أن يحفظكَ الله في دينك، وهو أن يُسَلِّمْك من الزَّيْغِ والضّلال، لأنَّ الإنسانَ كلَّما اهتدَي زاده الله هدًي، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17]، وكلَّما ضَلَّ - والعياذُ باللهِ – فإنَّه يزدادُ ضلالًا، كما جاء في الحديث: «إنَّ العبدَ إذا أخطأ خطيئةً نكتتْ في قلبِه نُكتةٌ سَوْداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قَلْبُه»، وإن أذنب ثانية انضم إليها نكتة ثانية وثالثة ورابعة، حتى يُطْبَع علي قلبه.
نسأل الله العافية.   إذًا: يحفظْكَ في دينِك وفي بدنِك ومالِك وأهلك، أهمُّها حفظُ الدِّينِ، نسألُ الله تعالى أن يحفظ علينا وعليكم ديننا.   وقوله: «احفظِ اللهَ تجدْه تُجاهَكَ»، وفي لفظٍ آخر: «تجدْه أمامَكَ».
احفظِ اللهَ أيضا بحفظِ شريعتِه، بالقيام بأمره واجتناب نهيه تجدْه تُجاهك وأمامك، ومعناهما واحٌد، يعني تجدِ اللهَ أمامك يدُلُّك علي كلِّ خيرٍ ويذُود عنك كلَّ شرٍّ، ولا سيما إن حفظتَ اللهَ بالاستعانةِ به، فإنَّ الإنسانَ إذا استعان بالله وتوكَّل على الله كان الله حسبَه، أي كافية، ومن كان الله حسبَه فإنَّه لا يحتاج إلى أحدٍ بعدَ اللهِ.
قال الله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [لأنفال: 64]، أي: وحسْبَ من اتَّبعَك مِنَ المؤمنين.
﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ﴾ [الأنفال: من الآية 62]، فإذا كان الله حسْبَ الإنسانِ، أي كافية، فإنَّه لن ينالَه سوءٌ، ولهذا قال: «احفَظِ اللهَ تجدْه تُجاَهك»، أو «تجدْه أمامَك»! والمراد بحفظِه حفظُ شريعتِه، ولا سيما بالتَّوكُّلِ عليه والاستعانةِ به.   ثم قال له: «إذا سألتَ فأسألِ اللهَ» أي لا تعتمد على أحدٍ مخلوق، إذا سألت فأسألِ اللهَ.   مثلًا: إنساٌن فقير ليس عنده مال، يسأل الله يقول: اللهم ارزقني، اللهم هيِّء لي رزقًا.
فيأتيه الرزقُ من حيث لا يحتسب.
لكن لو سأل الناس فربَّما يعطونَه أو يمنعونَه، ولهذا جاء في الحديث: «لأن يأخذَ أحدُكم حبلَه فيحتطب علي ظهره، خيرٌ له من أن يأتي رجلًا، أعطاه أو منعه».
فكذلك أنت، إذا سألت فأسأل الله، قل: «اللهم ارزقني..
اللهم أغنني بفضلِك عمَّنْ سواك»
وما أشبه ذلك من الكلمات التي تتجه بها إلى الله عز وجل.   وقوله: «إذا استعنتَ فاستعنْ باللهِ».
الاستعانة: طلبُ العونِ، فلا تطلبِ العون من أي إنسان إلَّا للضرورة القصوى، ومع ذلك إذا اضطررت إلى الاستعانة بالمخلوق فاجعل ذلك وسيلةً وسببًا لا رُكنًا تعتمدُ عليه! اجعلِ الرُّكنَ الأصيل هو اللهُ عزَّ وجلَّ، إذا سالتَ فأسالِ الله، وإذا استعنتَ فاستعنِ باللهِ.
وفي هاتين الجملتين دليلٌ علي أنَّه مِن نقصِ التَّوحيدِ أنَّ الإنسانَ يسأل غير الله؛ ولهذا تُكره المسالة لغير الله عزَّ وجلَّ في قليلٍ أو كثيرٍ.
لا تسألْ إِلَّا الله عزَّ وجلَّ، ولا تستعنْ إلَّا باللهِ.
واللهُ سبحانه إذا أراد عونك يسَّرَ لك العون، سواء كان بأسبابٍ معلومةٍ أو بأسبابٍ غيرِ معلومةٍ.   قد يُعنيك اللهُ بسببٍ غير معلومٍ لك، فيدفعُ عنك من الشرِّ ما لا طاقة لأحدٍ به، وقد يعنيك اللهُ علي يدِ أحدٍ من الخلق يُسخِّره لك ويُذلِّـله لك حتى يعنيك، ولكن مع ذلك لا يجوزُ لك إذا أعانك الله علي يد أحدٍ أن تنسيَ المسبب وهو الله عزَّ وجلَّ، كما يفعله بعض الجهلة الآن من تعلُّقِهم بالسببِ وضعف اعتمادهم علي الله سبحانه وتعالى، لما حصل عونٌ ظاهرٌ من دولٍ كافرةٍ، وما علموا أنَّ الكفرةَ هم أعداءٌ لهم إلى يوم القيامة سواء أعانوهم أم لا؟.   بل النافع الضار هو الله عزَّ وجلَّ وهذا من تسخيره سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، كما جاء في الحديث: «إنَّ الله ليؤيِّد هذا الدِّينَ بالرَّجلِ الفاجرِ».   فيجبُ علينا أن لا ننسي فضل الله الذي سخَّرهم لنا، ويجبُ علينا أن ننبِّه العامة، إذا سمعنا أحدًا يركن إليهم ويقول هم الذين نصرونا مائة بالمائة، وهم الأوَّل والآخر، فيجب علينا أن نبيِّن لهم أن هذا خللٌ في التَّوحيد.
والله أعلم.   وقوله: «واعلمْ أنَّ الأمَّةَ لو اجتمعتْ علي أنْ ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك».   فبيَّن النبيُّ عليه الصلاة والسلام في هذه الجملة أنَّ الأمَّة لو اجتمعتْ كلُّها على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه الله لك! فإذا وقع منهم نفعٌ لك فاعلمْ أنَّه مِنَ اللهِ، لأنَّه هو الذي كتبه، فلم يقلْ النبي صلي الله عليه وسلم: لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك.
بل قال: «لم ينفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ لك».   فالنَّاس بلا شكٍّ ينفع بعضهم بعضًا، ويعين بعضُهم بعضًا، ويساعد بعضهم بعضًا، لكنْ كلُّ هذا مما كتبه الله للإنسان، فالفضل لله فيه أوَّلًا عزَّ وجلَّ، هو الذي سخَّرَ لك مَنْ ينفعُك ويحسنُ إليك ويزيل كربتك، وكذلك بالعكس، لو اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيءٍ لم يضرُّوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه الله عليك.
والإيمانُ بهذا يستلزم أن يكونَ الإنسان متعلِّقًا بربِّه ومتَّكلًا عليه لا يهتمُّ بأحدٍ، لأنَّه يعلم أنهم لو اجتمع كلُّ الخلقِ على أن يضروه بشيءٍ لم يضرُّوه إلَّا بشيءٍ قد كتبه الله عليه.
وحيئذٍ يعلِّق رجاءَه بالله ويعتصمُ به، ولا يُهُّمه الخلقُ ولو اجتمعوا عليه، ولهذا نجدُ الناس في سلف هذه الأمة لما اعتمدوا علي الله وتوكلُّوا عليه لم يضرهم كيد الكائدين ولا حسد الحاسدين: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: من الآية 120].   ثم قال عليه الصلاة والسلام: «رُفِعتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحفُ».
يعني أنَّ ما كتبه الله فقد انتهي، والصُّحُفُ جَفَّتْ من المدادِ، ولم يبقَ مراجعة.
فما أصابك لم يكن ليخطئك، كما في اللفظ الثاني: «وما أخطاءَك لم يَكُنْ ليُصيبَكَ».   وفي اللفظ الثاني قال عليه الصلاة والسلام: «واعلمْ أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا».   يعني: اعلمْ علمَ يقينٍ أنَّ النَّصر مع الصبر، فإذا صبرتَ وفعلت ما أمرك الله به من وسائل النَّصر فإنَّ الله تعالى ينصرك.   والصَّبرُ هنا يشملُ الصَّبرَ علي طاعة الله، وعن معصيته، وعلي أقْدارِه المؤلمة، لأنَّ العدوَّ يصيبُ الإنسانَ من كلِّ جهةٍ، فقد يشعرُ الإنسانُ أنَّه لن يطيق عدوَّه فيتحسَّر ويدع الجهاد، وقد يشرع في الجهاد ولكن إذا أصابه الأذى استحسرَ وتوقَّف، وقد يستمرُّ ولكنَّه يصيبه الألم من عدوِّه، فهذا أيضا يجب أن يصبر عليه.
قال الله تعالى: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ﴾ [آل عمران: من الآية 140]، وقال تعالى: ﴿ وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ [النساء: 104]، فإذا صبر الإنسان وصابر ورابط فإنَّ الله سبحانه وتعالى ينصره.   وقوله: «واعْلمْ أنَّ الفرَجَ مع الكَرْبِ».
كلما اكتَرَبتِ الأمورُ وضاقت فإنَّ الفَرَجَ قريب، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول في كتابه: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62]، فكلَّما اشتدت الأمور فانتظر الفَرَجَ من الله سبحانه وتعالى.   وقوله: «وأنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» فكلُّ عُسْرٍ بعده يُسر، بل إنَّ العسْرَ محفوفٌ بيُسْرينِ، يُسرٌ سابقٌ ويُسر لاحقٌ.
قال الله تعالى: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾ [الشرح: 6، 5]، وقال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: «لنْ يغْلبَ عُسْرٌ يُسْرينِ».
فهذا الحديثُ الذي أوصى به النبي صلَّي الله عليه وسلَّم عبد الله بنَ عبّاسٍ رضي الله عنهما ينبغي للإنسان أن يكونَ على ذُكرٍ له دائمًا، وأن يَعتمِد على هذه الوصايا النَّافعة التي أوصى بها النبي صلي الله عليه وسلم ابنَ عمِّه عبدَ الله بنَ عباس رضي الله عنهما.
والله الموفق.   المصدر: «شرح رياض الصالحين»



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢