أرشيف المقالات

سلامة الصدر (خطبة)

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2سلامة الصدر[1]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].   أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.   أيها المسلمون، أخرج أحمد وابن ماجه بسند صحيح عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ((يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: يا رسول الله، صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقيُّ النقيُّ لا إثمَ فيه ولا بغيَ، ولا غلَّ ولا حسد)).   هذا هو مخموم القلب، هو سليم الصدر الذي لا بغي ولا غل ولا حسد، تقيٌّ نقيٌّ، هذا هو أفضل الناس إذا اجتمع مع ذلك صدق اللسان.   إن من سمات المؤمنين العظيمة وصفاتهم الكريمة الدالة على كمال إيمانهم سلامةَ صدورهم وألسنتهم تجاه إخوانهم المؤمنين؛ فليس في قلوبهم حسدٌ أو غل أو بغضاء أو ضغينة، وليس في ألسنتهم غِيبةٌ أو نميمة أو وقيعة، بل لا يحملون في قلوبهم إلا المحبة والخير، والرحمة والإحسان، والعطف والإكرام، ولا يتلفظون بألسنتهم إلا بالكلمات النافعة، والأقوال المفيدة، والدعوات الصادقة، ينتقون الطيب من القول؛ هم الذين قال الله فيهم: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].   إن سلامة الصدر من أخلاق أولياء الله عز وجل، وأخلاق المؤمنين الصادقين، الذين امتدحهم الله عز وجل في كتابه، فينبغي للمسلم أن يحرص على الإقتداء بهم؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه قومه فأدمَوه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون)).   وقد كان السلف الصالح رحمهم الله يعدُّون الأفضل فيهم من كان سليم الصدر سليم اللسان؛ قال إياس بن معاوية بن قرة: "كان أفضلهم عندهم - أي: عند السلف - أسلمَهم صدورًا، وأقلهم غيبة"، وقال سفيان بن دينار: "قلت لأبي بشر: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا ويُؤجرون كثيرًا، قلت: ولمَ ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم"، ولما دُخل على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض، كان وجهه يتهلل، فقيل: ما شأنك؟ قال: "ما من عمل أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فقد كان قلبي للمسلمين سليمًا".   عباد الله، إذا كان الحسد يسبب للإنسان القلق والتوتر، ويجعله يعيش في ضيق وفي نكد، فإنه سلامة الصدر في المقابل يعيش الإنسان معها في راحة عظيمة، فهي نعمة من أجلِّ النعم؛ ولذلك فإن الله تعالى امتنَّ على أهل الجنة بأن جعل صدورهم سليمة، ونزع من قلوبهم الغلَّ؛ فقال سبحانه: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47]، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد، لا تباغضَ بينهم ولا تحاسد).   وهذا يدل على أن سلامة الصدر نعمة من الله على الإنسان، فينبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيق هذه الخَصلة العظيمة الشريفة، التي تسبب له الراحة والطمأنينة، وتبعده عن القلق والتوتر.   بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.   الخطبة الثانية الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، الهادي إلى إحسانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد: من الوسائل المعينة على اكتساب سلامة الصدر: 1- الإخلاص لله تبارك وتعالى: مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((ثلاثٌ لا يُغَلُّ عليهن قلبُ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن الدعوة تحيط من ورائهم))؛ قال ابن الأثير: "إن هذه الخِلالَ الثلاث تستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهُرَ قلبه من الخيانة والدَّخل والشر".   2- الإقبال على كتاب الله تعالى قراءةً وتعلمًا وتعليمًا: فهو شفاء لِما في الصدور؛ كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57].   3- الدعاء: فهو العلاج الناجع والدواء النافع، فيدعو العبد مولاه أن يجعل قلبه سليمًا من الضغائن والأحقاد على إخوانه المؤمنين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].   4- التخلق بالأخلاق التي تزيد من المحبة والألفة بين المؤمنين: كالبشاشة والتبسم، وإفشاء السلام، وإهداء الهدية وغيرها؛ فإن هذه الأخلاق كفيلة بانتزاع سَخِيمةَ القلوب، وأعلاق الصدور، فتصبح نقية صافية.   5- الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يفسد الود، ويعكر صفو الصدور؛ فيبتعد المؤمن عن الأخلاق الرديئة، كالحسد والغل والحقد والظن السيئ وغيرها.   6- رضا العبد بما قسمه الله تعالى: قال ابن القيم: "إن الرضا يفتح له باب السلامة، فيجعل قلبه سليمًا نقيًّا من الغش والدَّغل والغل، ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم، كذلك وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضا، وكلما كان العبد أشد رضًا، كان قلبه أسلم".   وصلوا رعاكم الله على محمد بن عبدالله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشرًا)).


[1] مستفادة من خطب أخرى.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣