أرشيف المقالات

المختصر المفيد في خلق المروءة

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2المختصر المفيد في خُلق المروءة   المقدمة: المروءة خُلق جُبلت عليه النفوس الزكية، واتصفت به الهمم العليَّة، وضعُفت عنه الطباع الدنيَّة، وهو كمال الإنسان والرجولة، وبين أيدينا كلمات مختصرة في المروءة وحقيقتها وخوارمها.   أولًا: ما حقيقة المروءة؟ أحسن ما قيل في المروءة: قال الدردير المالكي رحمه الله تعالى: "المروءة هي كمال النفس بصونها عما يوجب ذمها عرفًا ولو مباحًا في ظاهر الحال"؛ [الشرح الصغير، (284)].   وقال المجد ابن تيمية: "المروءة: استعمال ما يجمله ويزيِّنه، وترك وتجنب ما يدنسه ويشينه"؛ [المحرر، (266/2)]. وقال البيضاوي: "المروءة: أن يحترز مباحًا، يستهجن من أمثاله عرفًا"؛ [الشرح الصغير، (28/4)].   وقال الشيخ ابن عثيمين: "الضابط في المروءة: ألَّا يفعل ما ينتقده الناس فيه، لا من قول ولا من فعل"؛ [الشرح الممتع، (108/11)]، وهذا أسهل وأحسن ما قيل في تعريفها.   وقال ابن حبان: "اختلفت ألفاظهم في كيفية المروءة، ومعاني ما قالوا قريبة بعضها من بعض"؛ [روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، (ص: 230، 232)].   ثانيًا: خوارم المروءة: هذه أمثلة مما ذكره العلماء يتضح بها معنى المروءة وما يخرِمُها: • من ذلك، التَّجشُّؤ بصوت مزعج ما وجد إلى خلافه سبيلًا، والجُشاء هو: خروج الهواء بصوت من المعدة عن طريق الفم عند حصول الشبع؛ وفي الحديث: ((تجشَّأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كفَّ عنا جُشاءك؛ فإن أكثرهم شِبَعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة))؛ [سنن الترمذي (2478)، وحسنه الألباني]، وعدَّه ابن القيم من خوارم المروءة في [مدارج السالكين، (2، 353)].   • ومن ذلك: التصريح بأقوال لم ينطق الشرع بها إلا كناية؛ مثل: ذكر ما يُخجل من ذكره صراحة؛ قال ابن قدامة في عمدة الأحكام في الحديث الرابع عشر: "الغائط: الموضع المطمئن من الأرض، كانوا ينتابونه للحاجة، فكنُّوا به عن نفس الحدث؛ كراهية لذكره بخاصِّ اسمه".   • حضور الوليمة من غير دعوة؛ قال ابن قدامة في [المغني (49/12)]: "ولا تُقبل شهادة الطفيلي، وهو الذي يأتي طعام الناس من غير دعوة، وبهذا قال الشافعي".   • استخدام الضيف؛ عن عمر بن عبدالعزيز قال: "ليس من المروءة استخدام الضيف"؛ [أخرجه أبو نعيم،كشف الخفاء (223/2)]، وذلك مثل أن تطلب منه أن يضيءَ المصباح أو يحمل الضيافة إلى غير ذلك.   • الأكل في غير جهته مما لا يليه؛ قال صلى الله عليه وسلم للغلام: ((كُلْ مما يليك))؛ [صحيح مسلم، (2022)].   • الربح من الصديق؛ عن عبدالله بن زيد: "ليس من المروءة أن يربح الرجل على صديقه"؛ [روضة العقلاء، (ص: 233)].   • كثرة الالتفات في الطرقات وعلى الناس؛ ((وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى لم يلتفت))؛ [رواه الحاكم (292/2)، وصححه الألباني].   • كثرة الضحك والمُزاح، وينبغي أن تكون كالملح في الطعام؛ قال صلى الله عليه وسلم ناصحًا أبا هريرة: ((ولا تُكثرِ الضَّحِكَ؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب))؛ [صحيح الترمذي، (2305)].   • الأكل في الطريق والأسواق في أماكن غير مخصصة للأكل؛ قال ابن الإمام سيرين: "ثلاثة ليست من المروءة، وذكر منها: الأكل بالأسواق"؛ [روضة العقلاء، 233].   • مد الرجلين في مجمع الناس من غير حاجة ولا ضرورة ولا عذر؛ [ابن قدامة في المغني، (33/11)].   وأنشد أبو بكر الإسماعيلي: وإذا جلستَ وكان مثلُكَ قائمًا فمِن المروءة أن تقومَ وإن أبى وإذا اتكأتَ وكان مثلُكَ جالسًا فمِن المروءة أن تُزيلَ المتَّكا وإذا ركبتَ وكان مثلُكَ ماشيًا فمن المروءة أن مشيتَ كما مشى [المروءة لابن المرزبان، (ص: 136)].   • ومن المروءة أن يضبط نفسه عن هيجان الغضب ودهشة الفرح، ويقف موقف الاعتدال في جميع أقواله وأحواله. وقيل: المروءة استحياء المرء من نفسه، وألَّا يعمل في السر من الأحوال والحركات ما يستحيي منه في العلانية، وهذا من عِظَمِ النفس؛ لذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: "والله لو علمت أن الماء البارد ينقص من مروءتي، ما شربتُه"؛ [حلية الأولياء (9، 132)].   ثالثًا: المروءة والعرف: صلة المروءة بالعرف أن هناك أقوالًا وأعمالًا هي عند قوم من خوارم المروءة، وعند آخرين ليست كذلك، ويكون هذا النوع مما أصله مباح، فلا بد من مراعاة العرف في النظر إلى المروءة.   قال العلامة السخاوي: "وما أحسن قول الزنجاني في شرح الوجيز: المروءة يرجع في معرفتها إلى العرف، فلا تتعلق بمجرد الشارع، وأنت تعلم أن الأمور العرفية قلما تُضبط، بل هي تختلف باختلاف الأشخاص والبلدان، فكم من بلد جرت عادة أهله بمباشرة أمور لو باشرها غيرهم لعُدَّ خرمًا للمروءة"؛ [فتح المغيث (291، 2)].   ومن أمثلة ذلك كشف الرأس للرجل؛ قال الإمام الشاطبي: "مثل كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح فى البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحًا فى العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح"؛ [الموافقات (2، 284)]، إلى غير ذلك من الأحوال التي تختلف باختلاف الأعراف.   تنبيه: ولا بد من التنبيه على أن المراد بالعرف هو الصحيح الذي لا يصادم النصوص الشرعية؛ قال العلامة السخاوي بعد ذكر العرف في كلامه آنف الذكر: "وفي الجملة رعاية مناهج الشرع وآدابه، والاهتداء بالسلف والاقتداء بهم أمرٌ واجب الرعاية"؛ [فتح المغيث (2، 291)].   رابعًا: فوائد وأهمية المروءة: • الأدب في القول فتصون صاحبها عن الأقوال المُخلَّة. • وتصون صاحبها عن الأحوال والأفعال المخلة التي لا تليق. • وتحفظ صاحبها عن البخل فيكون كريمًا. • وعن الكذب فيكون صادقًا. • وعن الغش والخيانة فيكون أمينًا. • ويكون محترمًا مهيبًا من الناس، لا يستخفُّون به ولا يحتقرونه. • وتحمله على العفة والنزاهة. • ويسود مجلسه الجد والحكمة، وفيها راحة ولذة. • وتحمله على كل فضيلة والبعد عن كل دنيئة ورذيلة.   خامسًا: تفاوت الناس ودرجاتهم فيها، كلٌّ حسب همته للفضائل وبُعدِهِ عن الدنايا والرذائل: قال علي بن الهذيل: "للمروءة وجوهًا وآدابًا لا يحصرها عدد ولا حساب، وقلما اجتمعت شروطها قط في إنسان، ولا اكتملت وجوهها في بشر، فإن كان، ففي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم دون سائرهم، وأما الناس فيها فعلى مراتب بقدر ما أحرز كل واحد منهم من خصالها، واحتوى عليها من خِلالِها"؛ [عين الأدب والسياسة، (ص: 132)].   قال ابن حبان البستي: "الواجب على العاقل أن يلزم إقامة المروءة بما قدر عليه من الخصال المحمودة وترك الخِلالِ المذمومة"؛ [(ص: 230)].   قال الشاعر: وإذا الفتى جمع المروءة والتقى *** وحوى من الأدب الحياءَ فقد كمل   سادسًا: المروءة تكون في الرجال وتكون في النساء، وما ذُكر آنفًا يكون في المرأة والرجل: وذكر الإمام النووي رحمه الله تعالى: "أن خدمة المرأة زوجها بنحو الخبز والطبخ وغسل الثياب وغير ذلك من المعروف والمروءات التي أطبق الناس عليها"؛ [شرح صحيح مسلم (164/14)].   سابعًا: مما يعين على المروءة: • مجالسة أهل المروءات ومجانبة إخوان السوء؛ قال ابن حبان: "ومجالسة أهل المروءات تدل على مكارم الأخلاق"؛ [روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، (ص: 234)].   • الزوجة الصالحة؛ قال مسلمة بن عبدالملك: "ما أعان على مروءة المرء كالمرأة الصالحة"؛ [الإشارة في تدبر الإمارة، (ص: 143)].   • المال؛ قال أبو حاتم: "من أحسن ما يستعين به المرء على إقامة مروءته المال الصالح".   ثامنًا: الفرق بين المروءة والعقل: سُئل بعض الحكماء عن الفرق فقال: "العقل يأمرك بالأنفع، والمروءة تأمرك بالأرفع"؛ [أدب الدين والدنيا، (ص: 306)].   تاسعًا: رد شهادة من يخرم المروءة: قال العيني: "وكل فعل فيه ترك المروءة، يوجب سقوط شهادته بلا خلاف بين الأئمة الأربعة"؛ [البناية شرح الهداية، (179/7)].   وقال الآمدي في سياق الكلام عن المروءة: "ولا خلاف في اعتبار اجتناب هذه الأمور في العدالة المعتبرة في قبول الشهادة والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من لا يجتنب هذه الأمور أحرى ألَّا يجتنب الكذب؛ فلا يكون موثوق بقوله، ولا خلاف في اشتراط هذه الأمور الأربعة في الشهادة"؛ [الإحكام في أصول الأحكام، (110/2)].   عاشرًا: المروءة مثل بقية الأخلاق منها ما هو جِبليٌّ وطبعٌ في الإنسان، ومنه ما هو مكتسب بالمجاهدة حتى يصير ذلك عادة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبدالقيس رضي الله عنه: ((إن فيك خَلتين يحبهما الله: الحلم والأناة، قال: يا رسول الله، أنا أتخلَّق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: بل الله جبلك عليهما، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله))؛ [أبو داود، (5220)].   قال الإمام ابن القيم: "فدلَّ على أن من الخلق ما هو طبيعة وجبلَّة، وما هو مكتسب"؛ [مدارج السالكين، (315/3)].   قال الشيخ ابن عثيمين: "فهذا دليل على أن الأخلاق الحميدة الفاضلة تكون طبعًا وتكون تطبُّعًا، ولكن بلا شك الطبع أحسن من التطبع؛ لأن الخلق الحسن إذا كان طبيعيًّا صار سجية للإنسان وطبيعة له، لا يحتاج في ممارسته إلى تكلف، ولا يحتاج في استدعائه إلى عناء ومشقة، ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن حُرِم هذا - أي: من حُرم الخلق عن سبيل الطبع - فإنه يمكنه أن يناله عن السبيل التطبع"؛ [مكارم الأخلاق للشيخ ابن عثيمين، (ص: 13)]، ولو كان الخلق كله جبلي، لتُرِكت المجاهدة واستُغنيَ عن الوصايا والمواعظ.   ولذا قال ابن القيم: "فإن قلت: هل يمكن أن يقع الخُلق كسبيًّا أو هو أمر خارج عن الكسب؟ قلت: يمكن أن يقع كسبيًّا بالتخلق والتكلُّف، حتى يصير له سجيةً ومَلَكَة"؛ [مدارج السالكين، (3، 315)].   نسألك اللهم حسن الخلق ونعوذ بك من سيئ الخلق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.




شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣