أرشيف المقالات

التحذير من إتيان الكهان والعرافين

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2التحذير من إتيان الكهان والعرافين[1]   الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فإن من أول ما قامت عليه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم هوتحرير العقول من الأوهام والخرافات والشبهات، وذلك عن طريق الدعوة إلى إعمال العقل، وإلى النظر والتفكر والتأمل والتدبر في الكون المنظور، وفي كتاب الله المسطور؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]؛أي: الذين يستعملون عقولهم في تأمل الدلائل[2] .   فبالعقل يدرك الإنسان حقيقة وجوده في هذه الحياة، ويتعرف على خالقه ومولاه، وبالعقل يميز الإنسان بين الخير والشر، والنافع والضار، والمعروف والمنكر، والحق والباطل؛ ولذلكم كان الإنسان مدعوًّا إلى إعمال عقله واستعماله، وتوظيفه في جلب المنافع ودرء المفاسد.   وإنه من مظاهر تعطيل العقول وتحجيرها، وإلغائها وتقزيمها - إتيانُ الكُهَّان والعرَّافين من أجل معرفة ما هو مُخبَّأٌ من علم الغيب، ويكفي العقل دليلًا على كذِبِ هؤلاء في ادعائهم علمَ الغيب أنهم لو كانوا يعلمون شيئًا من الغيب، لكانوا من أغنى الناس، ومن أهنئهم عيشًا، ولدفعوا عن أنفسهم ما يكرهون.
وقد قال تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 188]؛ أي: لو كنت أعلم من الغيب شيئًا ﴿ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ﴾؛ أي: من المال، ﴿ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ﴾؛ أي: لاجتنبتُ ما يكون من الشر قبل أن يكون[3] ؛ قال ابن عباس: "أي: لعلمتُ إذا اشتريتُ شيئًا ما أربح فيه، فلا أبيع شيئًا إلا ربحتُ فيه، ولا يصيبني الفقر"[4] .
فثبت بهذا أنه لا يعلم الغيب إلا الله وحده ولا أحد سواه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34]؛ قالابن عباس: "هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملكٌ مقربٌ ولا نبيٌّ مرسل، فمن ادَّعى أنه يعلم شيئًا من هذه فقد كفر بالقرآن؛ لأنه خالفه"[5] ؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها:"ومن زعم أن محمدًا يعلم ما في غدٍ، فقد أَعَظَمَ على الله الفِرْيَةَ، والله يقول: ﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [النمل: 65]"[6].   فمن زعم أنه يعلم شيئًا من الغيب، فقد افترى على الله، ومن أتى كاهنًا أو عرَّافًا، فقد عرَّض نفسه لبطلان أعماله إلا أن يتوب إلى الله؛ فعن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أتى عرافًا فسأله عن شيء، لم تُقبَلْ له صلاة أربعين ليلةً))[7] ؛أي: لا ثواب له فيها[8] .
وإذا كان إتيان الكهان حرامًا، فإن ما يعطى لهم في مقابل كهانتهم حرام أيضًا؛ وفي الحديث عنأبي مسعود الأنصاري: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمنِ الكلب، ومهر البغيِّ، وحُلوانِ الكاهن))[9] ، وحلوان الكاهن: هو ما يأخذه المتكهن عن كهانته[10]، والكاهن: هو من يخبر بما سيكون عن غير دليل شرعي[11] .
قال النووي: "أجمع المسلمون على تحريم حلوان الكاهن؛ لأنه عِوضٌ عن محرم، ولأنه أكل المال بالباطل"[12].   وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان لأبي بكر غلامٌ يخرج له الخراج[13] ، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنتُ تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية وما أُحسِنُ الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده فَقاءَ كلَّ شيء في بطنه))[14].   ولهذا على الذي ينفق مالهعلى الكهان والعرافينأن يعلم أنه سيُسأل يوم القيامة عن ذلك؛ فعن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسألَ عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه))[15]، فمن أنفق ماله في أمر حرام، فليعلم أنه مسؤول عن ذلك بين يدي الله.
فاللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، آمين.



[1] الدخلاوي علال. [2] الجامع لأحكام القرآن، ج: 4، ص: 310. [3] تفسير القرآن العظيم، ج: 3، ص: 524. [4] تفسير القرآن العظيم، ج: 3، ص: 524. [5] الجامع لأحكام القرآن، ج: 14، ص: 82. [6] صحيح مسلم، كتاب الإيمان،باب: معنى قول الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾ [النجم: 13]. [7] صحيح مسلم، كتاب السلام، باب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان. [8] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ج: 14، ص: 227. [9] صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب: تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي. [10] معالم السنن، وهو شرح سنن أبي داود للخطابي، ج: 3، ص: 104. [11] فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج: 7، ص: 154. [12] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ج: 10، ص: 231. [13] الضريبة التي يتفق العبد مع سيده على إخراجها له وأدائها إليه في كل يوم أو كل شهر، والتكهُّن: تعاطي علم الغيب؛ [كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي، ج: 1، ص: 44]. [14] صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب: أيام الجاهلية. [15] المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، باب: كراهية طلب العلم لغير الله.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير