أرشيف المقالات

الأدلة القرآنية على شرف ومكانة أهل العلم (1)

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2الأدلة القرآنية على شرف ومكانة أهل العلم (1)   1- شرف العلماء: قال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].   يقول القرطبي رحمه الله في تفسيره: 4 /41: وهذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء، لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته.   ويقول ابن القيم رحمه الله كما في مفتاح دار السعادة: 1 /219": وهذه الآية تدل على فضل العلم وأهله من وجوه: 1- استشهادهم دون غيرهم من البشر. 2- اقتران شهادتهم بشهادتِهِ سبحانه.
3- اقترانُها بشهادة الملائكة.   4- إنَّ في ضمن هذا: تزكيتهم وتعديلهم، فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول، وقد جاء في الحديث: "يحملُ هذا العلمَ من كل خَلَفٍ عُدُولُه، ينفونَ عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين"؛ (رواه البزار وابن عدي في الكامل، وابن أبي حاتم وصححه الألباني).   5- أنه سبحانه استشهد بنفسه وهو أجلُّ شاهد، ثم بخيار خلقه وهم ملائكتُهُ والعلماء من عباده، ويكفيهم بهذا فضلًا وشرفًا.   6- أنه استشهد بهم على أجلِّ مشهودٍ به وأعظمه وأكبره، وهو شهادةُ أن لا إله إلا الله، والعظيم القدر إنما يستشهد على الأمر العظيم أكابرَ الخلقِ وساداتِهم؛ ا.هـ؛ بتصرف واختصار.   وقال السعديُّ رحمه الله في تفسيره عند الآية السابقة: في هذه الآية فضيلةُ العلم والعلماء؛ لأن الله عز وجل خصَّهم بالذكر، من دون البشر، وقَرَن شهادتهم بشهادتِه، وشهادة الملائكة، وجعل شهادتهم من أكبر الأدلة والبراهين على توحيدهِ ودينه وجزائه، وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة، وفي ضمن ذلك: تعديلهم، وأن الخلق تبعٌ لهم، وأنهم هم الأئمة المتبوعون، وفي هذا من الفضل والشرف، وعُلو المكانة، ما لا يُقادَرُ قَدْره"؛ ا.هـ.   ومما يدل على هذا أيضًا قوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 43].   فهذه الآية تدل أيضًا على شرف وفضل العلماء؛ حيث قَرَن الله تعالى شهادته بشهادتهم على صدق بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم.   2- أهل العلم أعلم الناس بحقائقِ الأمور، بخلاف أهل الجهل فهم بمنزلة العُميان: قال تعالى: ﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ [الرعد: 19].   يقول ابن القيم رحمه الله كما في مفتاح دار السعادة: 1 /222: "جعل الله عز وجل أهلَ الجهل بمنزلة العميان الذين لا يُبصرون، فقال تعالى: ﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ﴾، فما ثم إلا عالم أو أعمى، وقد وصف سبحانه أهل الجهل بأنهم صُمٌّ بُكْمٌ عُميٌ في غير موضع من كتابه"؛ ا.هـ.   وقال السعدي رحمه الله: "في تفسيره" تيسير الكريم الرحمن، صـ371: "يقول تعالى مفرقًا بين أهلِ العلمِ والعملِ وضدهم: ﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ ﴾، ففهم ذلك، وعمل به ﴿ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ﴾ لا يعلم الحق، ولا يعمل به، فبينهما من الفرق، كما بين السماء والأرض، فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر: أي الفريقين أحسن مآلًا، وخير حالًا، فيؤثر طريقها، ويسلك خلف فريقها، ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه ويضره، ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾؛ أي: أولو العقول الرزينة، والآراء الكاملة، الذين هم لب العالم، وصفوة بني آدم.   قال سابق البربري في قصيدة له: والعلمُ يجلو العمى عن قلبِ صاحبِهِ كما يُجلِي سوادَ الظلمَةِ القمرُ وليس ذو العلمِ بالتقوى كجاهِلِها ولا البصِيرُ كأعمَى مالَهُ بصرُ   والله تعالى سلَّى نبيه بإيمان أهل العلم به وأمره ألا يعبأ بالجاهلين شيئًا؛ قال تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا * قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ﴾ [الإسراء:106- 108]، وهذا شرف عظيم لأهل العلم.   3- أهل العلم أصحاب بصيرة: قال تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف:108]. فالعلماء هم أصحاب البصيرة الذين أوتوا الحكمة، فهم يقضون بها، ويعلِّمونها للناس، وبهذه البصيرة يتفرسون ويَسْتَشِفُّون عواقب الأمور، فهم يرون الفتنة وهم مقبلة، والناس يرونها وهي مدبرة.   4- أهل العلم يرفعهم الله عز وجل على الناس درجات في الدنيا والآخرة: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11].   قال القرطبي رحمه الله في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن، 17 /285": "وقوله تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾؛ أي: في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع الله المؤمن على من ليس بمؤمن، والعالم على من ليس بعالم، وقال ابن مسعود رضي الله عنه مدح الله العلماء في هذه الآية، والمعنى: أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم ﴿ دَرَجَاتٍ ﴾؛ أي: درجات في دينهم إذا فعلوا ما أُمروا به"؛ ا.هـ.   ويقول ابن القيم رحمه الله في "كتابه الفوائد ص138": أفضل ما اكتسبته النفوسُ وحصلته القلوبُ، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، هو العلم والإيمان، ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ﴾ [الروم: 56]، وقوله: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]؛ ا.هـ.   ومما يدل على رفعة أهل العلم: ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه: "أن نافع بن عبدالحارث الخزاعي لقيه بعُسْفَانَ، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: مَنْ استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابنُ أبزى؟ قال مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى، قال: إنه قارئٌ لكتاب الله عز وجل وإنه عالمٌ بالفرائض، قال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين".   وقال الحجاج لخالد بن صفوان: "من سيد أهل البصرة؟ فقال له: الحسن، فقال الحجاج: وكيف ذلك وهو مولى؟ فقال: احتاج الناس إليه في دينهم واستغنى عنهم في دنياهم، وما رأيت أحدًا من أشراف أهل البصرة إلا وهو يروم الوصول في حلقته إليه؛ ليستمع قوله، ويكتب علمه، فقال الحجاج: هذا والله السؤدد".   رأيت العلمَ صاحبُه شريفٌ وإن ولدته آباءٌ لئامُ وليس يزال يرفعُهُ إلى أن يُعظم قدَرَه القومُ الكرامُ ويتبعونه في كل أمر كراعِي الضأنَ تتبعه السوامُ[1] ويحمل قوله في كل أمر ومن يكُ عالمًا فهو الإمامُ فلولا العلم ما سعدت نفوس ولا عرف الحلال ولا الحرامُ فبالعلم النجاة من المخازي وبالجهل المذلة والرغامُ هو الهادي الدليل إلى المعالي ومصباحٌ يضئُ به الظلامُ   فبهذا العلم رفع الله به أقوامًا، وجعلهم في الخير قادة وسادة يُقتدى بهم، أدلة في الخير تقتفي آثارهم، تحفهم الملائكة بأجنحتها، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه.   5- العلم يجعل صاحبه إمامًا للناس يأخذ بنواصيهم إلى مرضاة الله عز وجل: قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 83]. وقال السعدي رحمه الله في تفسيره ص225:" وقوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾؛ أي: علا بها عليهم، وفَلَجَهُم بها، ﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ﴾، كما رفعنا درجات إبراهيم عليه السلام في الدنيا والآخرة، فإن العلم يرفع الله به صاحبه فوق العباد درجات، خصوصًا العالِمَ العاملَ، المعلمَ، فإنه يجعله اللهُ إمامًا للناسِ، بحسب حاله، تُرمَقُ أفعالُهُ، وتُقْتَفى آثارُهُ، ويُستضاء بنورِه، ويُمشى بعلمه في ظُلمة ديجوره، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم ﴾، فلا يضع العلم والحكمة إلا في المحل اللائق بهما، وهو أعلم بذلك المحل وبما ينبغي له"؛ ا.هـ.   6- لا يستوي أهل العلم وغيرهم في الفضل والمكانة: قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]؛ يقول ابن القيم أيضًا رحمه الله في كتابه"؛ مفتاح دار السعادة: 1 /172": "إنَّ الله سبحانه نفى التسوية بين العالم وغيره، كما نفى التسوية بين الخبيث والطيب، وبين الأعمى والبصير، وبين النور والظلمة، وبين الظل والحَرُور[2]، وبين أصحاب الجنة، وأصحاب النار، وبين الأبكم العاجز الذي لا يقدر على شيء، ومن ويأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، وبين المؤمنين والكافرين، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض، وبين المتقين والفجار، فهذه عشرة مواضع في القرآن نهى فيها التسوية بين هؤلاء الأصناف، وهذا يدل على أن منزلة العالم من الجاهل كمنزلة النور من الظلمة، والظل من الحرور، والطيب من الخبيث، ومنزلة كل واحد من هذه الأصناف مع مقابله"؛ ا.هـ.   ويقول الشاعر: أهلًا وسهلًا بالذين أحبُّهم وأودُّهم في الله ذي الآلاء أهلًا بقوم صالحين ذوي تقي غر الوجوه وزين كل ملاءِ ومدادُ ما تجري به أقلامهم أزكى وأفضل من دم الشهداءِ يا طالبي علم النبي محمد ما أنتم وسواكم بسواءِ   وقال السعدي رحمه الله: في تفسيره ص666: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ﴾ ربهم ويعلمون دينه الشرعي، ودينه الجزائي وما له في ذلك؟ من الأسرار والحكم ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ شيئًا من ذلك؟ لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء، كما لا يستوي الليل والنهار، ولا الضياء والظلام، والماء والنار، ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ ﴾ إذا ذكروا ﴿ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾؛ أي: أهل العقول الزكية الذكية، فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى، فيؤثرون العلم على الجهل، وطاعة الله على مخالفته؛ لأن لهم عقولًا ترشدهم للنظر في العواقب، بخلاف من لا لُبَّ له ولا عقل، فإنه يتخذ إلِهَه هواه.


[1] السوام: جمع سائمة وهي الأغنام وغيرها. [2] الحرور: شدة الحر ووهجه نهارًا كان أو ليلًا.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١