أرشيف المقالات

شرح حديث صفوان بن عسال.. وفيه بيان متى تنقطع التوبة (1)

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2شرح حديث صفوان بن عسال..
وفيه بيان متى تنقطع التوبة (1)   عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أسْألُهُ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ، فَقالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا زِرُّ؟ فقُلْتُ: ابتِغَاءَ الْعِلْمِ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضًا بِمَا يطْلُبُ، فقلتُ: إِنَّهُ قَدْ حَكَّ في صَدْرِي الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّينِ بَعْدَ الغَائِطِ والْبَولِ، وَكُنْتَ امْرَأً مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَجئتُ أَسْأَلُكَ هَلْ سَمِعْتَهُ يَذكُرُ في ذلِكَ شَيئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، كَانَ يَأْمُرُنا إِذَا كُنَّا سَفْرًا - أَوْ مُسَافِرينَ - أَنْ لَا نَنْزعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيالِيهنَّ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، لكنْ مِنْ غَائطٍ وَبَولٍ ونَوْمٍ، فقُلْتُ: هَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكُرُ فِي الْهَوَى شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنّا مَعَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في سَفَرٍ، فبَيْنَا نَحْنُ عِندَهُ إِذْ نَادَاهُ أَعْرَابيٌّ بصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٍّ: يَا مُحَمَّدُ، فأجابهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَحْوًا مِنْ صَوْتِه: «هَاؤُمْ» فقُلْتُ لَهُ: وَيْحَكَ! اغْضُضْ مِنْ صَوتِكَ؛ فَإِنَّكَ عِنْدَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ نُهِيتَ عَنْ هذَا! فَقَالَ: وَاللهِ لَا أغْضُضُ، قَالَ الْأَعْرَابيُّ: الْمَرْءُ يُحِبُّ القَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟ قَالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ يَومَ القِيَامَةِ»، فَمَا زَالَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى ذَكَرَ بَابًا مِنَ المَغْرِبِ مَسيرَةُ عَرْضِهِ أَوْ يَسِيرُ الرَّاكبُ في عَرْضِهِ أرْبَعينَ أَوْ سَبعينَ عامًا - قَالَ سُفْيانُ، أَحدُ الرُّواةِ: قِبَلَ الشَّامِ - خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاواتِ والْأَرْضَ مَفْتُوحًا للتَّوْبَةِ، لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ[1]، رواه الترمذي، وغيره، وقال: «حديث حسن صحيح».   قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: هذا الحديث من أحاديث التوبة التي ساقها المؤلف - رحمه الله - في بيان متى تنقطع التوبة، لكنه يشتمل على فوائد: منها: أن زِرَّ بن حبيش أتى إلى صفوان بن عسال - رضي الله عنه - من أجل العلم، يبتغي العلم، فقال له صفوان بن عسال: «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يطلب».   وهذه فائدة عظيمة تدل على فضيلة العلم، وطلب العلم؛ والمراد به العلم الشرعي؛ أي: علم ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- أما علم الدنيا فللدنيا، لكن طلب العلم الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي فيه الثناء والمدح، والحث عليه في القرآن والسنة، وهو نوع من الجهاد في سبيل الله؛ لأن هذا الدين قام بأمرين: قام بالعلم والبيان، وبالسلاح: بالسيف والسنان.   حتى إن بعض العلماء قال: «إن طلب العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله بالسلاح»؛ لأن حفظ الشريعة إنما يكون بالعلم، والجهاد بالسلاح في سبيل الله مبني على العلم، لا يسير المجاهد، ولا يقاتل، ولا يحجم، ولا يقسم الغنيمة، ولا يحكم بالأسرى؛ إلا عن طريق العلم، فالعلم هو كل شيء.   ولهذا قال الله عز وجل: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].   وَوَضْعُ الملائكة أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يطلب، واحترامًا له، وتعظيمًا له، ولا يَرِدُ على هذا أن يقول القائل: أنا لا أحس بذلك! لأنه إذا صح الخبر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنه كالمشاهد عيانًا.   أرأيت قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يَنْزِلُ رَبُّنَا - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»[2].   نحن لا نسمع هذا الكلام من الله - عز وجل - لكن لما صح عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- صار كأننا نسمعه، ولذلك يجب علينا أن نؤمن بما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبما صح عنه مما يذكر في أمور الغيب، وأن نكون متيقِّنين لها كأنما نشاهدها بأعيننا ونسمعها بآذاننا.   ثم ذكر زِرُّ بن حبيش لصفوان بن عسال أنه حَكَّ في صدره المسح على الخفين بعد البول والغائط.   يعني أن الله تعالى ذكر في القرآن قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]؛ فيقول: إنه حكَّ في صدري؛ أي: صار عندي توقف وشك في المسح على الخفين بعد البول أو الغائط هل هذا جائز أو لا؟   فبيَّن له صفوان بن عسال - رضي الله عنه - أن ذلك جائز؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرهم إذا كانوا سفرًا أو مسافرين ألا ينزعوا خفافهم إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم، فدل هذا على جواز المسح على الخفين، بل إن المسح على الخفين أفضل إذا كان الإنسان لابسًا لهما.   وقد ثبت في «الصحيحين» من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أنه كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فتوضأ النبي -صلى الله عليه وسلم- فأهوى المغيرة لينزع خفيه، فقال: «دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ»، وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا[3].   ففي هذا دليل واضحٌ على أن الإنسان الذي عليه جوارب، أو عليه خفان - أن الأفضل أن يمسح عليهما ولا يغسل رجليه.   ومنها: أنه ينبغي إذا أشكل على الإنسان شيء أن يسأل ويبحث عمن هو أعلم بهذا الشيء؛ حتى لا يبقى في قلبه حرج مما سمع؛ لأن بعض الناس يسمع الشيء من الأحكام الشرعية ويكون في نفسه حرج، ويبقى متشككًا مترددًا، لا يسأل أحدًا يزيل عنه هذه الشبهة، وهذا خطأ، بل الإنسان ينبغي له أن يسأل حتى يصل إلى أمر يطمئن إليه ولا يبقى عنده قلق.   فهذا زِرُّ بن حبيش - رحمه الله - سأل صفوان بن عسال - رضي الله عنه - عن المسح على الخفين، وهل عنده شيء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فقال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفرًا أو مسافرين ألا ننزع خفافنا إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم.   فهذا الحديث فيه دليل على ثبوت المسح على الخفين، وقد تواترت الأحاديث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، وأخذ بهذا أهل السنة، حتى إن بعض أهل العلم الذين صنفوا في كتب العقائد، ذكروا المسح على الخفين في كتاب العقائد؛ وذلك لأن الرافضة خالفوا في ذلك؛ فلم يثبتوا المسح على الخفين، وأنكروه.   والعجب أن ممن روى المسح على الخفين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومع ذلك هم ينكرونه ولا يقولون به، فكان المسح على الخفين من شعار أهل السنة ومن الأمور المتواترة عندهم، التي ليس عندهم فيها شك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم.   قال الإمام أحمد: «ليس في قلبي من المسح شك»، أو قال: «شيء فيه أربعون حديثًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه».


[1] أخرجه الترمذي (3535)، وقال: «حسن صحيح». [2] متفق عليه: أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758). [3] متفق عليه: أخرجه البخاري (206)، ومسلم (274).



شارك الخبر

المرئيات-١