أرشيف المقالات

حديث: لأقضين بينكما بكتاب الله

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2حديث: لأقضينَّ بينكما بكتاب الله   عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالاَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَقَالُوا لِي: عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ، فَفَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ الغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الوَلِيدَةُ وَالغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ لِرَجُلٍ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَارْجُمْهَا))، فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا[1].   بيان غريب الحديث: ♦ (عسيفًا): العسيف: الأجير. ♦ (الوليدة): الأَمَة، والجمع الولائد.   أهم ما يُستفاد من الحديث: ♦ ترجم الإمام البخاري (256هـ) رحمه الله على هذا الحديث بقوله: (باب الاقتداء بسنن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)[2]، ومقصده أنَّ قوله: "بكتاب الله" يعني: سنته صلى الله عليه وسلم، فاستنبط من هذا الحديث أنَّ سنة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وحيٌ من الله، حتى إنَّه يُطلق عليها كتاب الله، إلا أنَّا غير متعبدين بأحرفها في الصلاة كالقرآن، ولكنا متعبدون بما فيها من أحكامٍ وتشريع، قال الحافظ ابن حجر (852هـ): "واقتصر البخاري هنا عليه؛ لدخوله في غرضه من أنَّ السُّنة يطلق عليها كتاب الله؛ لأنَّها بوحيه وتقديره؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾" [النجم: 3، 4]، وقال العلامة العيني (885هـ) رحمه الله: "مطابقته للترجمة من حيث إنَّ قوله: (بكتاب الله)، أنَّ السُّنة يطلق عليها كتاب الله؛ لأنَّها بوحيه، فإذا كان المراد هو السُّنة يدخل في الترجمة".   إذًا النَّبيُّ عليه الصلاة والسَّلام أخبر أنَّه سيقضي بينهما بكتاب الله، ومن تأمل علم أنَّ الحكم الذي أشار إليه ليس موجودًا في كتاب الله القرآن، فدلَّ ذلك على أنَّ سنة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم هي عين حكم الله، كيف لا؟ والله يقول: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، قال الإمام ابن دقيق العيد (702هـ) رحمه الله: "قوله: (إلا قضيت بيننا بكتاب الله): تنطلق هذه اللفظة على القرآن خاصة، وقد ينطلق كتاب الله على حكم الله مطلقًا، والأَوْلى حمل هذه اللفظة على هذا؛ لأنَّه ذكر فيه التغريب، وليس ذلك منصوصًا في كتاب الله، إلا أن يؤخذ ذلك بواسطة أمر الله تعالى بطاعة الرسول وأتباعه"[3]، والأدلة على ذلك كثير جدًّا، ولا يرتاب عاقلٌ في ذلك، ولا ينبغي لمؤمنٍ أن يشك في ذلك أبدًا.   ولعلي أعزز هذا التأصيل والفَهم بواقعة تؤكد الفَهم الذي حررناه، ولا يرتاب عاقل في أنَّ أعلم الناس بأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هم أصحابه.   جاء في الصحيحين[4] عن عبداللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: ((لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُوتَشِمَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ، وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَالَ: وَمَا لِي لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ، فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ، قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأْتِ: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ، قَالَتْ: فَإِنِّي أَرَى أَهْلَكَ يَفْعَلُونَهُ، قَالَ: فَاذْهَبِي فَانْظُرِي، فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ، فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا، فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعْتُهَا)).   فينبغي ممن يردُّ السنة أو يقلِّل من قدرها ألا يفضح نفسه إن كان عاقلًا، فالأدلة واضحة ولامعة ودامغة على أنَّ سنة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وحي من الله جل وعلا، ولا يستقيم الدين إلا بها، حتى قال الإمام يحيى بن أبي كثير (129هـ) رحمه الله: "السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاضٍ على السنة"؛ أراد: أنها مبينة للكتاب، منبئة عما أراد الله تعالى فيه[5].


[1] أخرجه البخاري (2695)، واللفظ له، ومسلم (1697). [2] صحيح البخاري، قبيل (7275).
[3] إحكام الأحكام 2/ 238. [4] البخاري (4886)، واللفظ له، ومسلم (2125). [5] تأويل مختلف الحديث: 287.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١