أرشيف المقالات

السبوح القدوس جل جلاله

مدة قراءة المادة : 20 دقائق .
2السُّبُّوحُ القُدُّوسُ جل جلاله   عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقول في ركوعه وسجوده: "سُبُّوحٌ قُدوُّسٌ، ربُّ الملائكة والروح"[1].   معنى "سُبوح قدوس": (السُّبُّوحُ) جلَّ جلاله: هو المُنَزَّهُ سبحانه وتعالى، المُبرَّأُ من كل نقص وعيب في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وألوهيته وربوبيته: ♦ في ذاته: عن الفناء أو الزوال، أو المثال، أو نحوها مما لا يليق به سبحانه، فذاته كاملةٌ من جميع الوجوه. ♦ وفي أسمائه: عن كل سوءٍ أو شرٍّ، فأسماؤه كلها حسنى من كل الوجوه. ♦ وفي صفاته: عن كل ذمٍّ ونقص، فصفاته كلُّها صفات كمال وجلال وجمال. ♦ وفي أفعاله: عن كل ما يشينها، فأفعاله كلها حكمة وعدل ورحمة. ♦ وفي ألوهيته وربوبيته: عن كل شريك أو ندٍّ أو ضدٍّ أو معينٍ أو صاحبةٍ أو ولدٍ، سبحانه.   قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 43].   وقال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182].   وقال عزَّ من قائل: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111].   (السُّبوح) جلَّ جلاله: هو الذي يسبحه خلقه بكل لسان وفي كل مكان، من إنسٍ وجان وجمادٍ وحيوان؛ كما قال عزَّ من قائل: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44].   (الْقُدُّوسُ) جلَّ جلاله: "هو الذي له كل قدْسٍ وطهارة وتعظيم"[2].   ومنه سُميت الجنة حظيرة القُدُس لطهارتها ونزاهتها من كل آفات الدنيا؛ كما جاء في الحديث الشريف: عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏: ‏‏"‏من ترك الخمر وهو يقدر عليه، لأُسقينَّه منه من حظيرة القُدُس، ومن ترك الحرير وهو يقدر عليه، لأكسونَّه إياه من حظيرة القُدُس‏"[3]‏.   (الْقُدُّوسُ) جلَّ جلاله: المتصف بأفضل الصفات؛ قال ابن جرير في قوله تعالى: ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30]؛ أي: نَنسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس....."[4].   (الْقُدُّوسُ) جلَّ جلاله: "هو المُطهَّر من كل ما لا يليق بالخالق"[5].   (الْقُدُّوسُ) جلَّ جلاله: هو الطاهر في نفسه، المطهِّر لمن شاء من خلقه ممن استجابوا لأمره وشرعه كملائكته وأنبيائه، والصالحين من عباده، ومنه قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33]، وقوله عزَّ من قائل: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [المائدة: 6]، وقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27].   ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟"، وسبب ورود الحديث ما رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: "لَمَّا رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر، قال: "أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟"، قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفَعها، فخرت على رُكبتيها، فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه، فقالت: (سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتْ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا)، قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟"[6].   "أي: أخبروني، كيف يطهر الله قومًا لا ينصرون العاجز الضعيف على الظالم القوي، مع تمكنهم من ذلك؟ أي: لا يطهرهم الله أبدًا"[7].   (الْقُدُّوسُ) جلَّ جلاله: المبارك[8]. ومنه الأرض المقدسة؛ أي: المباركة؛ كما جاء في قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1].   فالقدوس: المبارك الذي كثُرت خيراته، وعمَّت على طول الأوقات، في الأرض وفي السماوات بركاته.   كيف نعبد الله تعالى بذلك؟ أولًا: أن نحبه الحب كله: الحب الأكبر الخالص: "لأنه سبحانه المتصف بصفات الكمال والجلال، والمنزَّه عن النقائص والعيوب، ومن كان هذا وصفه، فإن النفوس مجبولةٌ على حبه وتعظيمه، وهذه المحبة تورث حلاوةً في القلب، ونورًا في الصدر، وهذا هو النعيم الدنيوي الحقيقي الذي يصغر بجانبه كل نعيم"[9].   ثانيًا: أن نكثر من تسبيحه سبحانه بالليل والنهار، حتى ننضم إلى سائر العوالم التي تسبحه آناء الليل وأطراف النهار؛ قال تعالى: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44].   كما قال صلى الله عليه وسلم: "ما تستقل الشمس - أي: ما تطلع الشمس - فيبقى شيءٌ من خلق الله، إلا سبَّح الله بحمده إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم"[10]، وقال سبحانه: ﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 79]، فالطير والجبال يسبحن للكبير المتعال، أفلا نكثر نحن تسبيحه وتحميده؟ قال عز من قائل: ﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ﴾ [الرعد: 13]، أفلا نخاف نحن، فنكثر حمده وتسبيحه؟ وقال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]، وقال سبحانه عنهم: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 20]، فكيف يفتر عن التسبيح أصحاب المعاصي؟! ﴿ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30].   وتأمَّل: تسبيح ملك عظيم الخلقة، بلغ حجمه من الأرض إلى العرش؛ يقول صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) أذِنَ لي أن أُحدِّثَ عن ديكٍ قد مَرَقَتْ رجلاه الأرضَ، وعُنُقُه مَثْنِيَّةٌ تحت العرشِ, وهو يقول: سبحانك ما أعظَمك ربَّنا! فيردُّ عليه: لا يعلم ذلك من حلفَ بي كاذبًا"[11].   "قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ، فأمَرَ بقَرْيَةِ النَّمْلِ، فَأُحْرِقَتْ، فأوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: أنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ"[12].   يقول عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه): "لقد رأيتُ الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنَّا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكَل"[13].   الأمر بالتسبيح بل بالإكثار منه: • قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: 41، 42]، وقال سبحانه: ﴿ وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾[آل عمران:٤١]، وقال سبحانه: ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ [طه: 130].   • وقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 97، 98]، وقال سبحانه: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1].   • وجعله الله تعالى صفة المؤمن، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [السجدة: 15].   • وقال سبحانه: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].   • وجعل الله تعالى التسبيح من أعظم أسباب تفريج الكروب: إذ قال تعالى عن نبيه يونس (عليه السلام): ﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 142 - 144].   وقال صلى الله عليه وسلم: "دعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا وهو في بطنِ الحوتِ: لا إلهَ إلَّا أنتَ سبحانَك إنِّي كنتُ من الظالمينَ، فإنَّه لم يدعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قطُّ إلَّا استجاب اللهُ له"[14].   الأجور الكثيرة في التسبيح اليسير: يقول (صلى الله عليه وسلم ): "أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ، كُلَّ يَومٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِن جُلَسَائِهِ: كيفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قالَ: يُسَبِّحُ مائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فيُكْتَبُ له أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عنْه أَلْفُ خَطِيئَةٍ"[15].   وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زَبدِ البحر"[16].   وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده، مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال، أو زاد عليه"[17].   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ"[18].   وعَنْ جُوَيْرِيَةَ أَن النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم)َ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: "مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ "قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ"[19].   وقال النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: "أَفْضَلُ الْكَلامِ أَرْبَعٌ لا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ"[20].   وقال صلى الله عليه وسلم: "وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض....."[21].   وقال صلى الله عليه وسلم: " لَأنْ أقولَ: سُبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكبَرُ - أحَبُّ إليَّ ممَّا طلَعَتْ عليه الشَّمسُ"[22].   وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُكثرُ أن يقولَ في رُكوعِه وسجودِه: سبحانَك ربَّنا وبحمدِك، اللَّهمَّ اغفرْ لي"[23].   ولعظم التسبيح جعل الله أهل الجنة يُلْهمون التسبيح كما يُلهمون النفس: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَبُولُونَ، وَلَكِنْ طَعَامُهُمْ ذَاكَ جُشَاءٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالْحَمْدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ"[24].   ثالثًا: أن يُنزه العبد نفسه ويطهِّرها مما يعيبها أو يشينها من أمراض الشبهات والشهوات: • ففي قول الملائكة لله سبحانه: ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30]. قال الضحاك وغيره: "نطهر أنفسنا لَكَ ابتغاء مرضاتك"[25].   وهذا الذي أعلنته الملائكة، هو مهمة الإنسان في هذه الحياة، أن يطهر نفسه مما يعيبها، وهذا هو ثمن دخول الجنة، والتي لا يدخلها إلا المطهَّرون الطيبون؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر:٧٣]؛ أي: طبتُم من دنس المعاصي وطُهَّرتم من خبث الخطايا، فادخلوا الجنة خالدين فيها، وإن لم تتطهر في هذه الدار طُهِّرتَ في النار، ولهذا لما جاء شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنا، فلما فهَّمه النبي صلى الله عليه وسلم ووعَّاه، قال: "اللهم طهِّر قلبه واغفر ذنبه، وحصِّن فرجَه"[26].   فمن عبَد الله تعالى السبوح القدوس، طهَّر قلبه من الشبهات، ونفسه من متابعة الشهوات، وماله عن الحرام والشبهات، ووقته عن دنس السيئات، وحرص أن يراه الله حيث أمره، ويفقده حيث نهاه؛ قال ابن القيم رحمه الله: "إن القلب يعترضه مرضان يتواردان عليه، إذا استحكما فيه كان هلاكه وموته، وهما: مرض الشهوات ومرض الشبهات، وهذان أصل داء الخلْق إلا من عافاه الله"[27].   ومرض الشبهات صاحبه إما أنه تلبس به شعبة من الكفر، أو شعبة من النفاق البدعة.   • قال سبحانه: ﴿ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا ﴾ [المدثر: 31]، وقال سبحانه: ﴿ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحج: 53].   وقال سبحانه: ﴿ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [النور: 48 - 50].   وأما مرض الشهوات، فينشأ من اتباع النفس لما تهوى، دون النظر هل هو منقذٌ أم مهلك، نافعٌ أم ضار!   إن الذي يرجو الله والدار الآخرة لا يألو جهدًا في استقامة قلبه وإصلاح نفسه، وذلك بدوام مراقبة الله ومجاهدة النفس، والعمل الجاد على إخراج المواد من القلب وإحلاب المواد النافعة كلها[28].   فاللهم طهِّر قلوبنا من كل مرضٍ وعيب، ونفوسنا من كل ظلم ورَيب، وألسنتنا من الغيبة، وأبصارنا من الحرام، وبطوننا من الشبهة، إنك على كل شيء قدير.


[1] رواه مسلم. [2] الحق الواضح المبين، السعدي. [3] رواه البزار عن أنسٍ مرفوعًا، وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب. [4] تفسير الطبري. [5] شرح النووي على مسلم. [6] رواه ابن ماجه وأبو يعلى وابن حبان، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع. [7] فيض القدير للمناوي. [8] صح عن قتادة؛ انظر: التفسير الصحيح؛ د.
حكمت ياسين. [9] ولله الأسماء الحسنى؛ عبدالعزيز ناصر الجليل. [10] رواه أبو نعيم في الحلية، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع. [11] رواه أحمد وغيره، وصحَّحه الألباني في الصحيحة. [12] رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعًا. [13] رواه البخاري. [14] صحيح الترمذي. [15] رواه أحمد والحاكم والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني. [16] رواه مسلم. [17] رواه البخاري ومسلم. [18] رواه مسلم. [19] متفق عليه. [20] رواه مسلم. [21] صحيح النسائي. [22] رواه مسلم. [23] رواه مسلم. [24] رواه مسلم. [25] تفسير القرطبي. [26] أخرجه أحمد بسند صحيح. [27] إغاثة اللهفان لابن القيم. [28] طالع كتاب: عبادات القلب للمؤلف، وكتاب: القلوب وآفاتها.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن