أرشيف المقالات

اشتقنا لرمضان

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2اشتقنا لرمضان
هبَّتْ نَسَائمُ الرحمة، جَاءتْ بشائرُ المغفرة، وصلتِ البُشْرَى للمذنبين بالعفو، غدًا تُسلسلُ الشياطين، وتُغَلَّقُ النِيران، اشْتقْنَا لِرَمَضَان، والشوقُ أثرٌ من آثارِ المحبة، وهو سفرُ القلبِ إلى المحبوب في كل حال.   هكذا يكون حال المؤمنين مع العبادة؛ ينتظرونها بشوقٍ، ويحزنون لفِراقها، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((وجُعِلَتْ قُرَّة عيني في الصَّلاةِ))[1].   ولا يجد العبد ذلك إلا بمعرفةٍ صحيحةٍ بالله عز وجل، الذي أمر وشرع هذه العبادات، وبمطالعة فضائلها وثوابها.   وكيف لا نشتاق لرمضان؟! ♦ وهو الزمان الذي أنزل فيه القرآن؛ ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].
♦ إنَّه نداءُ الودودِ الرحيم، بهذا الوصف الكريم والنداء المحبَّب إلى نفوس وقلوب المؤمنين؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
♦ إنه الشهر الذي اختاره الله أن تؤدى فيه هذه العبادة ذات الحكم السامية، والثواب الجزيل؛ ففيها إصلاحٌ للنفوس، وتهذيبٌ للأخلاق، وتحصيلٌ للتقوى؛ لأنه يكفُّ النفسَ عن المعاصي، وفيه امتثالٌ للأمر، واجتنابٌ للنهي، ومخالفةٌ للهوى.   قال ابنُ الجوزي رحمه الله: "إنما الصوم صوم الجوارح عن الآثام، وصمت اللسان عن فضول الكلام، وغض العين عن النظر إلى الحرام، وكف الكف عن أخذ الحطام، ومنع الأقدام عن قبيح الأقدام" [2].   فالصائم يحفظُ قلبَه: من الغل والحسد والبغضاء والكراهية والشماتة، وسوء الظن والاعتقاد الباطل، والتعلُّق بغير الله. ويحفظُ لسانَه: من الفحش والسبِّ والكذب، والغِيبة والطعن في الناس، والقذف، وسب الدهر. ويحفظُ عينَه: من النظر المحرَّم لمشاهد الخلاعة، وصور العري والاختلاط التي لا تُرضِي الله. ويحفظُ أذنَه: من سماع الحرام؛ الموسيقى، والغناء، والمسلسلات والأفلام. ((مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ))[3].   والصوم اختَصَّه اللهُ تعالى لنفسه؛ لأن سائرَ الأعمالِ تظهرُ على صاحبها، وقد يدخلها شيءٌ من الرِّياء، والصومُ لا يظهرُ على صاحبه، فيقع لله خالصًا، وأخبر في الحديث: أنه يتولَّى جزاءه بنفسه، ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي، وأنا أجْزِي به))[4].   قال القرطبي: "معناه: أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس، وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإنه يجازي عليه جزاءً كثيرًا من غير تعيين لمقداره"؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، وفي مسند أحمد وغيره: ((كلُّ حسنةٍ بعشرِ أمثالِهَا إلى سبعمائِةِ ضعفٍ، إلا الصيام فهو لِي، وأنا أجزِي بِهِ))[5].   ♦ وكيف لا نشتاق لرمضان وقد سمِعنا قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ في الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ له الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ منه الصَّائِمُونَ يَومَ القِيَامَةِ، لا يَدْخُلُ معهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ منه، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ، أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ منه أَحَدٌ))[6].   إنه بابٌ في الجنة وليس خارجها، والريَّان مشتقٌّ من الرَّيِّ، وهو مناسبٌ لحال الصائمين، هذا الاسم بَرَّدَ أجوافَهم التي احترقت من أثرِ الصيام والظمأ في شدَّةِ الحرِّ.   "وداعًا للعطش، وداعًا للظمأ، طالما عطشتم في الدنيا لله فَحُقَّ لكم أن ترتووا اليوم فلا تَظمئوا أبدًا"[7].   وداعًا لِهَمِّ الدنيا ونصَبها، وداعًا لتعبِها وكربِها وجراحِها وألمِها، طالما سهرتم وتعِبْتُم ونَصَبْتُم أقدامَكم لله عز وجل في سوادِ الليل، فحُقَّ لكم أن ترتاحوا فلا تتعبوا أبدًا.   طالما تحمَّلْتم وصبرتم، فحُقَّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، طالما اجتهدتم وبذلتم لدينِ الله، فَحُقَّ لكم أن تُكافئوا وتفرحوا أبدًا. غدًا نلقى الأحبَّة *** محمدًا وصحبه   ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ﴾ [الزمر: 73، 75].   لو تفكَّر العبد في هذا المشهد؛ مشهد إغلاقِ الباب، هل يكون ممن دخل وأغلقَ الباب خلفه؟ أو لم يدخل فأغلِق دونه؟! كيف لا نشتاق لرمضان؟ و((إذا جاءَ رَمَضانُ فُتِّحَتْ أبْوابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبْوابُ النَّارِ، وصُفِّدَتِ الشَّياطِين))[8].   كيف لا نشتاق لرمضان؟ والصيام سببٌ لدخول الجنة؛ عن أبي أُمامةَ قال: "أتَيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقُلتُ: مُرْني بعملٍ يُدخِلُني الجنَّةَ، قال: ((عليك بالصَّومِ؛ فإنَّه لا عِدلَ له، ثُمَّ أتَيتُه الثَّانيةَ، فقال لي: عليك بالصِّيام))[9].   الجنة التي قال اللهُ تعالى عنها في الحديث القدسي: ((أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ))[10].   إنَّها الجنة، طيبةٌ وباردٌ شرابُها، لا يَمَلُّ منها أهلُها، ولا يبغون التحوُّل عنها إلى غيرها.   ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ﴾ [الكهف: 107، 108].   إنها الجنة دار النعيم، دار السلام، دار الخلد، ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ [فاطر: 33 - 35].   بناؤها لبِنة من ذهب، ولَبِنة من فِضة، حصباؤها اللؤلؤ والياقوت، تربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، يخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابُهم، ولا يفنى شبابُهم، ما فيها من شجرة إلا وساقُها من ذهب، وثمارها أمثال القلال، وأحلى من العسل.   كيف لا نشتاق لرمضان؟ و((من صامَ يومًا ابْتغاءَ وجْه اللهِ خُتِمَ له به دخلَ الجنةَ))[11]. قال المناوي رحمه الله: أي مَن ختم عمره بصيام يوم، بأن مات وهو صائم، أو بعد فطره من صومه دخل الجنة.   حسن الخاتمة من توفيق الله تعالى لعبده الذي عاشَ على طاعتهِ أن يلقاه على تلك الطاعة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملَهُ))، فقيلَ: كيفَ يستعملُهُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ((يوفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ قبلَ الموتِ))[12].   وأخيرًا: فقد اقتربَ اللقاء؛ لقاءُ أغلى حبيبٍ في حياتك، طوال هذهِ السنوات نحبك يا رب، ونشتاقُ إلى لقائك وسيأتي حتمًا يوم اللقاء؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ﴾ [العنكبوت: 5]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ))[13].   إن شاء الله سنفرح بهذا اليوم، وهذا ظننا بالله عز وجل ((أنا عندَ ظَنِّ عبدي بي))، ما أجمل تلك اللحظة التي يُقال فيها لتلك النفس: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30].   لو قُلتَ: أحبُّ الله؛ لكن أخشى من ذنوبي وتقصيري في جنبِ الله، الحل اتَّخِذ قرارًا بالتخلُّص من هذا التقصير، قرارًا بالتوبة ستتحوَّل بإذن الله كل هذه الذنوب إلى حسنات، وتصبح هذهِ اللحظة لحظة الموت، هي أحلى لحظات حياتِك، فلا تيأس من رحمة الله.   ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53] ظنُّنا بربِّنا أنه سيجعل أحلى أيامنا يومَ نلقاه تفضُّلًا منه سبحانه ورحمةً منه.   امسح ذنوبك كل ليلة بتوبة، امسح ذنوبك بالحسنات؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114].   امسح ذنوبك بالاستقامة على أمرِ الله باقي حياتك ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾ [فصلت: 30، 31].   هذا الذي استقام على دينِ الله عز وجل في لحظة فِراق هذهِ الحياة الملائكة تُبشِّره، الناس من حولهِ يبكون لفراقهِ، وهو يريد أن يُفارقهم إلى هذهِ البشارات التي يسمعها الآن من الملائكة، ويدخل الجنة التي طالما كانَ يحلم بها ويتمنَّاها ولم يرها.   يا أيها المشتاق إلى لقاء الله، هذهِ بشارة الله للمشتاقين إليهِ؛ ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ﴾ [العنكبوت: 5].   أيها المجتهد، لا بُدَّ أنك يومًا ما ستقرُّ عينُك برؤية الله بمشيئة الله، اللهم إنَّا نسألك لذَّة النظرِ إلى وجهِكَ والشوقَ إلى لقائك.   اللهم بلغنا رمضان، وبارك لنا في أيَّامهِ ولياليه، وارزقنا صيامَه وقيامَه على الوجه الذي يرضيك عنا، وآخرُ دعوانا أن الحمد للهِ ربِّ العالمين.


[1] صحيح الجامع (3124). [2] (نداء الريان) (1 /8) نقلًا عن (مشتاق لرمضان)؛ الشيخ: إيهاب الشريف. [3] صحيح البخاري (6057). [4] أخرجه البخاري (5927)، واللفظ له، ومسلم (1151). [5] مسند أحمد (13 /239)، صحيح. [6] صحيح مسلم (1152). [7] مشتاق لرمضان؛ إيهاب الشريف، ص(63-64) بتصرُّف. [8] صحيح مسلم (1079). [9] تخريج المسند (22149)،إسناده صحيح على شرط مسلم. [10] أخرجه البخاري (4779)، واللفظ له، ومسلم (2824). [11] صحيح الترغيب (985). [12] أخرجه الترمذي (2142) واللفظ له، وابن حبان (341). [13] صحيح مسلم (2684).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١