أرشيف المقالات

الاعتراف بالجميل خلق إسلامي أصيل

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
2الاعتراف بالجميل خُلق إسلامي أصيل   الاعتراف بالجميل خُلق من الأخلاق الفاضلة، وسجية من السجايا الكريمة، تدل على سلامة القلب، وطهارة النفس، ونقاء السريرة، كما أنها تدل على قيمة من أعظم القيم الإسلامية وهي الوفاء، أما عدم الاعتراف بالجميل والتنكر لصاحبه، فإنه يدل على لؤم الطبع، فالأول من الأخلاق العالية، والثاني من الأخلاق السيئة، وشتان ما بين الخُلقين، لذلك حرَص الإسلام على ترسيخ هذا الخلق في نفوس أتباعه، وغرسه في قلوبهم؛ لأنه يترتَّب عليه صلاحُ المجتمع، والمساعدة في تقوية روابط الألفة والمحبة بين أفراده؛ حتى يصيروا كالجسد الواحد، والبنيان الواحد الذي يشد بعضه بعضًا.   والإنسان في هذه الحياة لا يعيش وحيدًا، وإنما يعيش في مجتمع يتفاعل فيه مع أفراده تفاعلًا لا يُمكنه أن يعيش في الحياة بدونه، فالإنسان كما هو معلوم كائن مدني بطبعه، وهذا التفاعل ينتج عنه وجود أناس لا حصر لهم قد يفعلون معه جميلًا، أو يسدون له نصحًا، أو يؤدون له خدمة، أو يقضون له حاجة، أو يساعدونه في بلوغ هدف لا يستطيع الوصول إليه بمفرده، ومن هنا تنبع أهمية الاعتراف بالجميل لأهله والإقرار بالفضل لذويه؛ لأنه خُلقٌ يتعلق بشيء يكتنف حياتك كلها؛ من حيث إنك فرد ضمن مجموع من الناس، لذلك سوف نقسم الاعتراف بالجميل إلى ثلاثة أقسام، وهي حسب الأهمية: 1- الاعتراف بالجميل للوالدين.
2- الاعتراف بالجميل بين الزوجين.
3- الاعتراف بالجميل لعامة الناس.   أولًا: الاعتراف بالجميل للوالدين: للوالدين على ولدهما فضلٌ عظيم، فهما سببا وجوده في هذه الحياة بعد الله عز وجل، ولكم تعِبَا وذاقا العنتَ والمشقة في تربية ولدهما، فهذه الأم تقاسي من الآلام ما تنوء بها الجبال حال ولادة ولدها، ثم تلاقي عنتًا ومشقة في رضاعته وتربيته، وكذلك الأب يظل يسعى في الحياة ليوفر لولده لُقمة العيش التي تسد جوعه، وتُقيم أودَه، ويظلان على هذا الحال في تربية ولدهما مع المحبة الكاملة والشفقة الكبيرة، حتى يصير شابًّا يافعًا، وفتى قويًّا، وفي أحيان كثيرة كانا يسهران لينام، ويجوعان ليشبع، ويُحرمان على أنفسهما اللقمة ليَطعمها، وهما في ذلك مغتبطان مسروران.   إن جميل الأب والأم على ولدهما لا يُقدِّر قدرَه إلا الله عز وجل، لذلك يجب على الولد أن يعترف بجميلهما وحُسن صنيعهما، ولا يكون ذلك إلا ببرهما والإحسان إليهما، وتوقيرهما ومعاملتهما بكل أدب واحترام، لذلك جعلت الشريعة من أعظم أعمال البر: برَّ الوالدين؛ حتى تَحمِل الأبناءَ على الوفاء لآبائهم، والاعتراف بجميلهم عليهم في تربيتهم والعناية بهم، وخاصة وقت الضَّعف عندما يكون الابن رضيعًا أو طفلًا صغيرًا، لا يستطيع أن يوفِّر لنفسه ما يحفظ حياته، أو يستبقي قوته؛ قال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24].   ثانيًا: الاعتراف بالجميل بين الزوجين: لكل من الزوجين الفضل على الآخر، فالزوج يسعى في الحياة ليوفر لقمة العيش لزوجته، ويظل يكدح لكي يحصِّل لها ما تحتاجه من ضروريات الحياة من طعام وشراب وكساء، بل يوفر لها في أحيان كثيرة بعضًا مِن مُتع الحياة وكماليتها، وهذا جميل يستوجب شكره والاعتراف به، وكذلك الزوجة لها فضل كبير على زوجها، فهي التي تربي له أولاده في غيبته، وتحفظ ماله، وتطبخ طعامه، وتغسل ثيابه، وتوفر له الهدوء والاستقرار في المنزل؛ حتى يجد فيه الزوج راحته وأُنسه بعد عناء العمل والتعب في القيام به، لذلك يجب على كل من الزوجين الاعتراف بجميل كل منهما على الآخر، وخاصة وقت المشاكل التي قد يدب دبيبُها داخل البيت، فالحياة يستحيل أن تكون كاملة السعادة، دائمة الهناء، وإنما يعتريها من المنغصات ما يذهب بهدوئها، ويزعزع استقرارها، وهنا يأتي دور العقل لكل من الزوجين، فيجب أن يتذكر كل منها جميلَ الآخر وحُسْنَ صنيعه معه على امتداد حياة طويلة بينهما، وعندئذ يسهل حل هذه المشاكل، وتخطِّي أضرارها، بل إن الله عز وجل قد أرشدنا إلى الاعتراف بالجميل بين الزوجين عند الطلاق؛ حيث قال: ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 237].   فمع أن الطلاق أحيانًا قد يجلب العداوة بين الزوجين وبين عائلتيهما - فإن الشريعة مع ذلك أمرتنا أن نحفظ الجميل ونرعى الود، وهذا يدل على محاسن الشريعة ومكارم الأخلاق التي تأمر بها، إنها تريد أن تقطع دابر العداوة والبغضاء عن طريق الاعتراف بالجميل، وعدم نسيان الفضل بين الزوجين، لذلك كان مقياس الحياة الزوجية الفاضلة - سواء كانت قائمة، أو قد انقطع حبلها - هو قوله: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 237].   ويتمثل هذا الخلق في أكمل صُورِه في اعتراف النبي صلى الله عليه وسلم بالجميل للسيدة خديجة رضي الله عنها؛ حيث واسته بمالها، ووقفت بجواره تسانده وتؤيده في دعوته، وخاصة في أوائلها عندما هدَّأت مِن روعه، وطمْأَنت قلبه عندما فاجأه الوحي أول مرة في غار حراء، وقالت كلمتها الخالدة: (والله لن يخزيك الله أبدًا، إنك لتصِل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق)، لذلك كانت من أوائل مَن آمن به وصدَّقه في دعوته، لذلك ظل النبي صلى الله عليه وسلم معترفًا بجميلها وفيًّا لها، ويكثر من ذكرها والثناء عليها، لدرجة جعلت السيدة عائشة تغار منها، فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا عَلَى خَدِيجَةَ وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ، فَيَقُولُ: «أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ»، قَالَتْ: فَأَغْضَبْتُهُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: خَدِيجَةَ فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا»[1].   وعنها أيضًا: (قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاحَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: «اللهُمَّ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ»، فَغِرْتُ فَقُلْتُ: وَمَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ فَأَبْدَلَكَ اللهُ خَيْرًا مِنْهَا)[2].   ثالثًا: الاعتراف بالجميل لعامة الناس: الإنسان لا يعيش منعزلًا عن الناس مختلٍ بنفسه، وإنما يعيش في مجتمع يتفاعل مع أفراده، ويتعامل معهم، لذلك لا بد أن يكون أحد أفراد هذا المجتمع قد صنع معه معروفًا، أو أسدى له نصحًا، أو قضى له حاجة، أو فعل معه أي فعل يستوجب به الحمد والشكر، ومن هنا يأتي الاعتراف بالجميل دليلًا على حسن أخلاقه، وكمال إيمانه، وتمام إنسانيته.   والنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاعتراف بالجميل، والإقرار بالفضل لصاحبه، وهذا الاعتراف يكون بشكره على جميله، والثناء عليه بحسن صنيعه، فإذا شكرته فإنك عندئذ تكون شاكرًا لله، أما من لم يشكر الناس، فإنه لا يشكر الله، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ لاَ يَشْكُرُ اللَّهَ)[3].   كما يكون الاعتراف بالجميل بمكافأة صاحبه عليه، وإعطائه هدية تطيب قلبه، وتشعره بإعظامك لما أسداه إليك من جميل، فإن لم تستطع مكافأته، فادعُ له دعاءً يشعره بتقديرك لما صنعه معك، وأسداه إليك، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ)[4].   وعندما ننظُر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، نجد أن كان أكثر الناس اعترافًا بالجميل وإقرارًا بالفضل، وحفظًا للود، ووفاءً بالعهد حتى مع غير المسلم، ولِمَ لا؟ وقد كان أحسن الناس خلقًا، وأكمل الناس أدبًا، وها كم بعضًا من مواقفه في حفظ الجميل؛ لتكون دافعًا لنا إلى التخلق بهذا الخلق الجميل: 1- المطْعِم بن عدي: والمُطْعِم بن عدى هذا هو الذي أجار النبي صلى الله عليه وسلم عندما أتى من الطائف مهمومًا حزينًا لما رفضوا دعوته، وسلطوا عليه سفهاءهم يقذفونه بالحجارة، فخشي أن يمنعه أهل مكة من دخول مكة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم؛ حتى يحميه من أذى المشركين، ويمكنه من دخول مكة بلا عنت أو أذى، مع أن المطعم هذا كان مشركًا، وقد حفظ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجميل للمطعم، فقال يوم غزوة بدر عندما أسر سبعين من المشركين: (لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ)[5].   4– حفظه لجميل أبي بكر الصديق: لقد كان أبو بكر هو أول من أسلم من الرجال، وسارع في تصديق النبي صلى الله عليه وسلم بلا تلكؤ أو تردد، كما كان أكثر الناس مساعدة للنبي في دعوته، سواء ببدنه أو ماله؛ لذلك حفظ له النبي جميله، فقال مثنيًا عليه ومظهرًا فضله: (إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ، إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ)[6].   وقال أيضًا مظهرًا فضلَه: «مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ»[7].   5- حفظه لجميل الأنصار: فالأنصار هم الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصروه وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل دعوته، وتوطيد أركانها في الأرض، وفتحوا ديارهم وأراضيهم للرسول وصحابته من المهاجرين، وواسوهم بأموالهم، ووقفوا معهم في شدتهم، وآثروهم على أنفسهم، لذلك حفظ لهم النبي صلى الله عليه وسلم جميلهم، فجعل حبَّهم من الإيمان، وبُغضهم من النفاق، فقال: «آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ»[8]، كما بيَّن فضلهم، ومحبته الشديدة لهم، فقال: (لوْلاَ الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ)[9]، كما أوصى بهم خيرًا، فقال: «أُوصِيكُمْ بِالأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، وَقَدْ قَضَوُا الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ»[10]، ومعنى كرشي وعيبتي: يعني موضع سري وأمانتي.   6- جميل الصحابة: ذلك لجهادهم الطويل معه في سبيل دعوته، وكفاحهم المتواصل في سبيل نصرة دينه، هذا الدين الذي ما قام إلا على أكتافهم، وما توطدت أركانه إلا بسبب تضحياتهم وتحمُّلهم العناء الكبير والتعب المتواصل في سبيل رفع رايته، ونشْر لوائه، لذلك نهانا عن سبهم حفظًا لجميلهم، وإقرارًا بفضلهم، فقال: (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ)[11].   7- حاطب بن أبي بلتعة: وهو صحابي جليل، ولكنه وقع في زلة يوم فتح مكة؛ حيث بعث رسالةً يخبر فيها أهل مكة بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم لفتحها، وما فعل ذلك نفاقًا، وإنما فعله حتى يحمل أهل مكة على حماية قرابته، وعدم الاعتداء على أهله، ولَما كشف النبي صلى الله عليه وسلم أمره أراد بعض أصحابه أن يقتلوه، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال: (إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)[12]، فقد حفظ النبي صلى الله عليه وسلم جميله وحُسن بلائه يوم بدر، فعفا عنه بسبب ذلك.   8- ضِماد الأزدي: قصته رواها الإمام مسلم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، وَإِنَّ اللهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ، فَهَلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ»، قَالَ: فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ، قَالَ: فَقَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَبَايَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَلَى قَوْمِكَ»، قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي، قَالَ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً، فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ، فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ: هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً، فَقَالَ: رُدُّوهَا، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ[13]، والمطهرة إناء يُتطهر به.   فصاحب السرية حفِظ الجميل لضماد الأزدي، وأظن أن هذا كان بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن بأمره، فهو أثرٌ من آثار تعليمه لصحابته هذا الخلق الكريم، وذاك الأدب الرائع.   فهذه المواقف غيضٌ من فيض من مواقفه في الاعتراف بالجميل، والإقرار بالفضل لأهله، ومن هنا يجب علينا أن نتخلق بهذا الخلق الكريم، وأن نتطبع به؛ لأنه دليل الإيمان الكامل، والخلق القويم، وهذا هو المأمول من كلِّ مسلم، والحمد لله رب العالمين.


[1] صحيح مسلم؛ برقم: [2435]. [2] صحيح مسلم؛ برقم: [2437]. [3] الترمذي؛ برقم: [1954] وصححه الألباني. [4] أبو داود؛ برقم: [1672] وصححه الألباني. [5] البخاري؛ برقم: [3139]. [6] البخاري ( 466 ). [7] الترمذي ( 3661 ) وصححه الألباني. [8] البخاري ( 17 ). [9] البخاري ( 4330 ). [10] البخاري ( 3799 ). [11] البخاري ( 3673 ). [12] البخاري ( 3007 ). [13] مسلم ( 868 ).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١