أرشيف المقالات

غزل العقاد

مدة قراءة المادة : 22 دقائق .
8 للأستاذ سيد قطب - 17 - من أهم ما تدعوا إليه المدرسة الحديثة - وتقدم العقادَ نموذجاً له - تفتحُ النفس لألوان الأحاسيس، وانفساحها لصنوف المؤثرات، وتهيؤها لشتى الانفعالات؛ وكثرة الأوتار المرنَّة بها في العاطفة الواحدة، والعواطف المتعددة، ومطاوعتها لما تتأثر به، لا لما تحفظه وتحتذيه من القوالب المصبوبة وكل هذا من خصائص الحياة الموفوزة، الغنية بالمذخور من المشاعر المتهيئة للتجدد والنماء، المستعدة للتفرد والامتياز وقد كان النقد العربي - إلى أمد قصير - قد وضع للعواطف الشعرية مراسيم وقيودا، وجعل لها قوالب مصبوبة، ومن هذه العواطف (الحب) ترى هذا في كتاب (الصناعتين) مثلا وتراه في الكتب المدرسية والمذكرات، وتلمح أثره في كتابات من يتصدون للنقد بعد اطلاعهم على الكتب القديمة وحدها وتلمح أثر هذا التحديد في ذوق المتأدبين الذين لا يصبرون على صورة جديدة يرونها في غزل جديد أو قديم، لا تكون وفق قوالب خاصة، وعلى طراز محدد من طراز التعبير ولقد كان هذا يدعوني إلى اتهام الطبيعة العربية والطبيعة المصرية على السواء؛ فما يصبر الطبع الموهوب على هذا الجمود في ألوان الحس والتعبير؛ وما تقف النفس عند صور محدودة معلومة إلا وقد ضاقت عما عداها، واستغلقت دون سواها.
ولولا أن هناك فروضاً وأعذاراً تلتمس لقد كان سوء الظن أولى، والاتهام أوجب.
ولكنا في انتظار ما يطلع به المستقبل من الأدباء والمتأدبين والعقاد أفسح شاعر عربي نفساً في غزله، وأكثرهم أوتاراً مرنَّة.
فلا عجب تزيد الأنغام في شعره على ما تستطيع الأذن المصرية - إلا نادراً - أن تسمعه وتطرب له؛ ولا عجب يجد الكثيرون صعوبة في تقبل هذه النغمات لأنها تجهد آذانهم وأذواقهم، وتحملهم استعارة طاقات نفسية لا قبل لهم بها، كما تجهد العين الضعيفة تحت المنظار القوي الذي يجمع لها من الضوء فوق احتمالها! ولكن من الحق كذلك ألا يبيح هؤلاء لأنفسهم مهمة الحكم، وأن يسمعوا قول من يطيقون السماع ويطربون لشتى النغمات، ويصدقوا ذوي العيون التي تحتمل المناظير القوية، فيما تبصر من رؤى وأطياف لا تراها عيونهم الكليلة! وحين يتابع الناقد غزل العقاد في دواوينه السبعة، يعجب كيف يكون قائل هذه الأنماط كلها رجلاً واحداً لولا أن يثوب إلى خصائص العقاد العامة في هذه الأنماط على اختلافها.
وتروعه هذه النفس الفسيحة التي تتلقى نماذج الحبيبات كل بما تستحقه، ثم تنفسح بعد هذا لتلقى الحالات النفسية المتتابعة مع كل حبيبة؛ وتتسع لنماذج الحب المختلفة بين الصوفية والحسية، وبين الغرارة والتجريب، وبين البساطة والتركيب، وبين الصعود والهبوط.

وتقول في كل حب، وفي كل حالة شعراً أصيلاً كأنه - وحده - هو اتجاهها الوحيد! ولعل من الخير قبل أن نستعرض هذه الأنماط، كما لحظناها في شعره الغزلي، أن نأتي باستعراض العقاد نفسه لصنوف الحب التي تيقظ لإحساسه بها على ضوء حب أخير حين يقول: عرفت من الحب أشكاله ...
وصاحبت بعد الجمال الجمال فحب المصور تمثاله ...
عرفت وحب الشباب الخيال وحب القداسة لم أعده ...
وحب التصوف لم يعدني وفي كل حب ورى زنده ...
سماتٌ من المؤمن الدين وحب المزخرف والمنتقى ...
وحب المجرد والعاطل وحب الجماح وحب التقى ...
وحب المجدد والناقل وحب الثقات وحب الصحاب ...
وحب الطبيعة في حسنها وحب الرجاء وحب العذاب ...
على يأس نفسي من حزنها وحب التي علمتني الهوى ...
وحب التي أنا علمتها ومن أستمد لديها القوى ...
ومن بالقوى أنا أمددتها وحب الجياع صحاف الطعام ...
وحب الظماء كؤوس الشراب وحب الكفاح وحب السلام ...
وحب الضلال وحب الصواب! صنوف من الحب لا تلتقي ...
وفيك التقى لبها المحتوى فلولا هدى نورها الأسبق ...
لما كنت كفؤاً لهذا الهوى وفي (سارة) يفصل بعض صنوف الحب التي يحسها القلب الإنساني فيقول: (وقد يميز الرجل امرأتين في وقت واحد.
لكن لابد من اختلاف بين الحبين في النوع، أو في الدرجة، أو في الرجاء. (فيكون أحد الحبين خالصاً للروح والوجدان، ويكون الحب الآخر مستغرقاً شاملاً للروحية والجسدية. (أو يكون أحد الحبين مقبلا صاعداً، والحب الآخر آخذاً في الأدبار والهبوط (أو يكون أحد الحبين مغرياً بالرجاء، والحب الآخر مشوباً باليأس والريبة) ثم يذكر نموذجين في الحب، لنموذجين من المرأة، اجتمعا على (همام) بطل القصة، قد يفيد ذكرهما هنا لبيان رفاهة حس هذا الشاعر ودقته في الإحساس بالحب والنساء: (لقد كانت سارة وهند على مثالين من الأنوثة متناقضين: كلتاهما أنثى حقاً لا تخرج عن نطاق جنسها، غير أنهما من التباين والتنافر بحيث لا تتمنى إحداهما أن تحل محل الثانية، وتوشك أن تزدريها) (ماذا أقول؟ بل لعلهما من التباين والتنافر بحيث تتمنى كلتاهما قبساً من طبيعة الأخرى، لولا أنها تنكر الاعتراف بذلك بينها وبين نفسها، فتسمح للتمني أن يستحيل إلى نفور فإذا كانت سارة قد خلقت وثنية في ساحة الطبيعة، فهند قد خلقت راهبة في دير، من غير حاجة إلى الدير! تلك مشغولة بأن تحطم من القيود أكثر ما استطاعت، وهذه مشغولة بأن تصوغ حولها أكثر ما استطاعت من قيود، ثم توشيها بطلاء الذهب، وترصعها بفرائد الجوهر الحزن الرفيع والألم العزيز شفاعة عند هند مقبولة إذا لم تكن هي وحدها الشفاعة المقبولة.
أما عند سارة فالشفاعة الأولى بل الشفاعة العليا هي النعيم والسرور تلك يومها جمعة الآلام.
وهذه يومها شم النسيم تلك تشكو ويخيل إليك أنها ذات أرب في بقاء الشرور تستديم بها معاذير الشكوى، وهذه تشكو كما يبكي الطفل لينال نصيبا فوق نصيبه من الحلوى تلك مولعة بمداراة نقائصها لتبدو كما تتمنى أن تكون.
وهذه مولعة بكشف نقائصها لتمسح عنها وضر الخجل والمسبة، وتعرضها في معرض الزينة والمباهاة (تلك لها عدة المتانة والمجاملة، وهذه لها عدة الرخاصة والبساطة) ثم يمضي يعدد خصائص كل منهما على هذا المنوال البارع فتفهم أنه متيقظ أشد اليقظة، بكل وسائل التنبه والإدراك في طبيعته، لكل ذرة، في كل حبيبة. والآن نتابع العقاد في غزله، ونتصفح الوجوه التي هام بها، وقال فيها، فنجد منها ستة وجوه بارزة، ونجد غيرها منزوياً متناثراً فأما الأول فيستغرق الجزأين الأول والثاني تقريباً، وفيه تلمح العقاد شابا حدثا، في نفسه روعة وحذر وإشفاق من وهلة الجمال والحب، يكتفي أول الأمر باللمحة والنظرة، ويحوم على الجمال في ورع وتنطس، ويحسب للمجهول والغيب كل حساب، ثم يأخذ بعد حين في الاستمتاع على حذر كذلك وتلطف واستئذان. وتجد إلى جواره حبيباً ساذجاً، عاطلاً من كل حلية نفسية أو فكرية إلا الجمال المجرد الغرير، فلا عمق ولا سيطرة ولا أطوار وهكذا - في الغالب - حب الشباب، وإن فهم الكثيرون أنه أقرب إلى الفتك والبوهيمية والجراءة.
فالشاب غالباً تمنعه القداسة، فأن لم تكن أذهلته الروعة قيده حذر المجهول الذي لم تكشفه التجارب، والعزيز الذي لم يرخصه الاستعمال إنما يستهتر - حق الاستهتار - الكهل الذي تجعله التجارب يسخر من المقدسات والغيبيات، وتدفعه بقية القوة التي لم تنضب إلى الاستمتاع بالباقي قبل الفوات! واسمع العقاد في ورع وإشفاق ينادي حبيبه: وقف عليك تحيتي وعظاتي ...
وعلى صباك نصائحي وعظاتي أُوتيت من حسن الشمائل نعمة ...
والحسن في الدنيا من الآفات هو جوهر يجني عليك وميضه ...
عدوان سراق وحقد عفاة فأحذر فان مع الجمال لغرة ...
وأراك تأمن جانب الغفلات واحرس جمالك فالجمال وديعة ...
(لله) ترعاها إلى ميقات واحمل شبابك للمشيب مبرءاً ...
مما يكدر ناصع الصفحات وهكذا إلى نهاية هذه التسبيحة أو التعويذة القانتة! ثم تسمعه بعد هذا كالطيف الهامس في حذر وتقاة: إنا لمن معشر حب الجمال لهم ...
حب لمن كان في الدنيا ومن كانوا ليأمن الطير.
إنا لا نكيد له ...
ولا يخف مكرنا وحش وعقبان الخ ثم تنظره وقد انجلت هذه الروعة قليلا عن بدء الحسية والاستمتاع ليلة الوداع: ويا ليلتي لما أنست بقربه ...
وقد ملأ البدر المنير الأعاليا تطلّع لا يثني عن البدر طرفه ...
فقلت: حياء ما أرى أم تغاضيا فقبلت كفيه وقبلت ثغره ...
وقبلت خديه وما زلت صاديا كأنا نذود البين بالقرب بيننا ...
فنشتد من خوف الفراق تدانيا كأن فؤادي طائر عاد إلفه ...
إليه فأمسى أخر الليل شاديا إذا ما تضاممنا ليسكن خفقه ...
تنزى فيزداد الخفوق تواليا أوشج في كلتا يديه رواجبى ...
وشيجاً يظل الدهر أخضر ناميا وتلمس كفي شعره فكأنني ...
أعارض سلسالا من الماء صافيا وأشكوه ما يجني فينفر غاضبا ...
وأعطفه نحوي فيعطف راضيا ثم تتدرج من هذا إلى متاع صريح، ولكنه خفيف سريع: أتعلم أم أنت لا تعلم ...
بأني عاشقك المغرم أتقسم أنك لا تكتم ...
بلى أنت تكتم أمراً ظهر ولا تنس في عين شمس لنا ...
ليالي موقرة بالجنى ترف عليها طيور المنى ...
مغردة في ضياء السحر فكم بت أُسهر تلك الجفون ...
وأُذبلها بالطلى والمجون فباتت كما يعشق العاشقون ...
مضاعفة السحر تسبي الفكر أجل فليكن! ولكن شاعرنا لا يزال شاباً يستكثر الليالي المختلسة فيشيد بذكرها، ويفصلها تفصيلا، ويكاد في (واقعيته) يحدثنا عن صور الخيال! وينتهي الحب الأول أو يزحمه الثاني ويعفى على آثاره.
والناقد يطالع في هذا حبيباً قريباً في خصائصه من الحبيب الأول، يمتاز عنه بأنه شره للمعجبين بجماله، يريدهم حشداً لا فرداً.
ولكنه يرى شاعرنا وقد نفض عن كاهله كثيراً من صوفية الشباب وحذره وتوجسه، غير أنه لا يزال يستمتع في دائرة محدودة، وبذخائر معدودة عند حبيبه: يا أشره الناس حسنا ...
إلى عبيد وصحب وأنعم الناس بالا ...
بناظر مشرئب يا ليت لي ألف قلب ...
تغنيك عن كل قلب وليت لي ألف عين ...
تراك من كل صوب وليت لي ألف وسم ...
وليت لي ألف عيب لعل حسنك يغَني ...
عن ناظر أو محب ولا تبيت معنىَّ ...
بمن تروع وتسبي ثم ينجلي الأمر عن حبيب مواف ومحب متفتح، قد أخذ بعد المتعة والاكتفاء في ترف الطلاقة والفلسفة: إيهاً أبا الأنهار فوقك شادن ...
يشفي الغليل وأنت لست بشاف فرعون لم يحمل عليك نظيره ...
والبحر لم يحرزه في الأصداف أوفى علينا من سماء جماله ...
فاحلم بطلعته وماؤك غاف واحفظ لديك وديعة من صفونا ...
مأنوسة الذكرات والأطياف سيطول أيام الصدود سؤالنا ...
لك عن مواقع هذه الألطاف ونود لو تغنى الودادة آسفا ...
رجعى الزمان ولا رجوع لعاف إلى أن يقول في يقظة طريفة وتأمل واع: إني سعدت بقدر ما استرجعت لي ...
يا نيل من حقب ومن أسلاف دهر قد انبسطت عليه ساعة ...
فاستأنفته أحسن استئناف وصلت حديث زماننا بقديمه ...
وصل الصحيفة نائي الأطراف وبدت لنا صور العصور كأنها ...
رسم على صفحات مائك غاف ومناظر القمراء أشبه بالذي ...
أحييت من ذِكرٍ مضين ضعاف فالذكر والنظر العيان كلاهما ...
حلم بها متشابه الأفواف وتتبين في نهاية هذا الحب نضوج الشاعر، وانتباهه إلى خطرات الأيام والصروف والأقدار على ضوء حبه، وتأمله في الكون والطبيعة وإجراء ذلك كله في غزله: أيها المعطى غدا عن سعة ...
أعط إذا أنت مليء بالعطاء إنما اليوم لدينا كغد ...
وغد يا صاحبي اليوم هباء آه لو يبقى على الدهر الصبا ...
آه لو يرأف بالحب الفناء فرصة فيها جمال وصبا ...
ثم تمضي فإذا الكل سواء وإذا المعشوق في العين كمن ...
تتخطاه عيون الرقباء كاختلاف اللون في الصبح لنا ...
وتساوي بعدُ قبح ورواء نحن في صبح وقد لا نلتقي ...
ليت الليل ابتداء وانتهاء ثم قطعة بعنوان: (ودع جمالك) اقتطفت بعضها عند الحديث على خاصة اليقظة والوعي الفني، واقتطف في هذا المجال بعضاً آخر، وإن كان يخيل لي أن المقصود بها هو الحبيب الأول ولكنها أقرب شبهاً بما قيل في فترة الحب الثاني، لما فيها من تأمل وعمق في الإحساس: أمودعاً حسن الأحبة إنني ...
ودعت قلب الهائم المغرور ميتان في جدث نزورهما معاً ...
وا وحشتا من زائر ومزور يهنيك أنك لا تزال مقيدي ...
بك حين لا شوق إليك مثيري لم أبك وجهك إذ بكيت وإنما ...
أرثي خرائب عالم مدثور فاعجب لمن يبكى فجيعة سرمد ...
بدموع مبتور الحياة حسير وهي إحدى القصائد الطريفة التي تتجلى فيها (خصوصية) العقاد ومتى بلغنا الجزء الرابع من الديوان التقينا هناك بشخصيتين أقرب ما تكونان إلى شخصيتي (سارة وهند) اللتين أسلفنا عنهما الحديث، وعلة ذلك مفهومة، وقد أوضحتها عند الحديث على (سارة) والتقينا بالشاعر في قمة النضوج النفسي والفني، وقد وضحت أمامه المعالم، وانتهت به التجارب إلى فلسفة كاملة في المرأة والحب والحياة، واكتملت به جميع القوى اللازمة للإحساس والتعبير، وعرف غاية الطبيعة من الحب، وغاية كلا الجنسين، فلم يبق أمامه إلا أن يعتصر من كل حب رحيقه، ويرتشف من كل كأس ثمالتها في طلاقة وبراعة وصراحة فأما إحدى الشخصيتين فيطلع عليك وجهها من خلال قوله: أريد التي ألقى سلاحي وجنتي ...
إليها وألقاها من البأس أعزلا وأطرح أعباء الجهاد وهمه ...
لدى قدميها مغمض العين مرسلا وأنت إذا أقبلت أقلبت جحفلا ...
وجرت أسيافاً وشيدت معقلا فان تهزميني فاهزمي عن بصيرة ...
مريدا لأسباب الهزيمة مقبلا ويطلع عليك وجهه معها من خلال قوله: أيها الداعي إلى الله لنا ...
ما ترى في دعوة منك إليك؟ - أنت لو تعلم دائي - في غنى ...
عن نداء الغيب والطب لديك تسأل الله شفائي ولقد ...
جعل الله شفائي في يديك وترجىَّ نظرة لي من علٍ ...
ورجائي كله في ناظريك فادع لي نفسك أو لا فادع لي ...
رحمة الرحمن من وجدي عليك إن قضاها الله أو لم يقضها ...
حسبنا خطرتها في شفتيك يفضل الصحة عندي أنني ...
بعض ما تطوي عليه جانبيك وهي كما ترى متحفظة متصونة، وهو محترس يقظ يلمح ولا يصرح أو هما كما قال العقاد: (كانا أشبه بالشجرتين منهما بالإنسانين، يتلاقيان وكلاهما على جذوره، ويتلامسان بأهداب الأغصان، أو بنفحات النسيم العابر من هذه الأوراق إلى تلك الأوراق) وأما الشخصية الأخرى فتطل عليك من قوله: ماذا من الدنيا لعمري أريد ...
أنت هي الدنيا فهل من مزيد؟ فيك لنا نور ونار معاً ...
وأنجم زهر وأفق بعيد وفيك روض مسفر عاطر ...
وجوهر حر ودر نضيد ونشوة الخمر إذا قوبلت ...
بنشوة منك متاع زهيد والفن إن لم تك نجواه من ...
نجواك لغوٌ باطلٌ لا يفيد وكل ما في الكون من روعة ...
لها نظير فيك حي جديد بل أنت دنيا غير هذى الدنى ...
وكل حب فيك كون وليد للمرء دنياوان: مطروقة ...
فوضى وأخرى هو فيها فريد وهذه، لا تلك، ما يشتهي ...
وهي له الموئل وهي الوجود وتتبين وجهه معها في قوله: قبلات كل يوم وعناق ...
ووداع كل يوم ولقاء واشتياق كلما حان الفراق ...
وعهود كلما جن المساء وعتاب كل يوم وخصام ...
جائر الحكم كثير العلل نرتمي فيه بأهوال جسام ...
بين سخريِّ المنى والقبل وعلى توقيع أنغام الرجاء ...
نبعث القلبين حباً وخصاما عبث الطفلين في مهد الصفاء ...
كلما راعتهما الضجة ناما وحياة بين روض وغدير ...
وحياة بين ألفاف كتاب هذه أو تلك يحويها العبير ...
ويروى سرحها ماء الشباب لا ظلام الليل يثنيك ولا ...
لفحة القيظ ولا اليوم المطير في دلال منك موفور الحلي ...
وكلال منك كالظبي البهير وهي كما ترى أنثى ناضجة بوهيمية، وهو رجل فنان متفتح قد بلغ من المتعة إلى النزف فانتشى؛ فانطلق يتفلسف فقال: وابل من قبل تمطرها ...
من سماء الحب أخلاف غزار جزلة المسِّ شهي لمسها ...
حلوة المزجين من ماء ونار سقيها محض ولاء خالص ...
لم يكدره من الدنيا اعتكار وكذا الإخلاص حر مطلق ...
كصفات الله ما فيها اضطرار روَّ من الدهر واضحك ساخرا ...
إن طغى الدهر بأيديه القصار هاهنا لا العيش محسوس الحظا ...
لا ولا الوقت بمحدود المطار الخ.
فإذا اجتاز الناقد الأجزاء الأربعة الأولى من الديوان إلى (وحي الأربعين) و (هدية الكروان) و (عابر سبيل) لم تبعد به النقلة كثيراً عن جو الجزء الرابع، ولكنه يجد انطلاقاً إلى مدى أوسع في التوحيد بين الأرض والسماء، أو بين المادة والروح في غزل العقاد، كما يجد الهدوء الرتيب، لا تخالجه اللهفة إلا قليلا، وهي بعد شوق إلى المتاع الطليق، أكثر منها حرقة إلى إرواء الضرورة المقيدة، أو هي طلاقة فيها سخرية المجرب الذي سلك الطريق مرة ومرة، فانجلت في نفسه الروعة وانكشف المجهول، ولم يعد أمامه إلا تأمل المشاهد وتسجيل الشواهد، والموازنة بين ما مضى وما هو آت في رحلته الحاضرة.
والذي علم قيمة العرف والتقاليد ومبلغ إخلاص الناس لها أو تفلتهم منها، فلم يعد يحسب لمن في (الخارج) حسابا، وإنما همه أن يعيش في عالم من صنعه هو، يضع تقاليده وحدوده ولهذا يلوح الشاعر في الأجزاء الأخيرة منطلقا من القيود في الإحساس والتعبير انطلاقا لا تجده في شعر شبابه، وهذا أثر التجربة وحكم السن والممارسة. ومع العقاد وجهان أصيلان في هذه الدواوين الثلاثة، وعدة وجوه عارضة: فأحد الوجهين هو الذي يقول فيه قصيدة (غزل فلسفي) والذي فيه (من كل شيء) في الأرض والسماء، وفي الماضي والمستقبل و (من كل موجود وموعود توأم).

الخ ولعل هذه القصيدة أدل القصائد على هذا الوجه الذي يشُع في نفس الشاعر كل معاني الوجود، لأن الشاعر - حينئذ - مستعد لتلقي كل أطياف الوجود، متفتح لكل معنى من معانيه والوجه الثاني هو الذي يقول فيه: بعد سبع من السنين وعشر ...
عرف الناس فضل ذا الميلاد عرفوا أي نعمة زارت الأر ...
ض بأضعاف حسنها المرتاد عرفوه لما رأوا بينهم شم ...
ساً مع الشمس أشرقت في البلاد عجبوا كيف فاتهم يوم وافى ...
فرعوا عهده بذكر معاد ذاك ميلادك السعيد هنيئاً ...
للذي فاز فيه بالإسعاد ويقول فيه معظم غزليات (هدية الكروان) والخطوط التي تفرق بين هذين الوجهين صعبة التمييز لولا أن الثاني أكثر بشاشة وطراءة، والأول أشد حيوية وتأثيراً وعلى العموم فالشاعر يبدو في هذه الفترة واثقاً من نفسه وزمنه، يترشف كأس الحب في نشوة ولذة وتأمل وتمهل، وفي بشاشة ودعابة واطمئنان ولولا أن المقال قد تضخم وطال لأكثرت من الأمثال، فهذه هي فسحة النفس التي عنينا، والتي امتاز بها العقاد كل الامتياز (حلوان) سيد قطب

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣