أرشيف المقالات

الموازنة عند شيخ الإسلام ابن تيمية

مدة قراءة المادة : 28 دقائق .
2الموازنة عند شيخ الإسلام ابن تيمية   قد يُتوهم أنَّ كلَّ من انتُقِد، وظهر عيبُ قولِه أو وَهَنُ أدلته - قد نقص من مقامه، أو سقط من مَراتبه، غير أن الحقَّ أن يوزن كلامُ العلماء، ويُوضَع الرجال في مقامهم؛ لذا يُنَبَّه حالَ الردِّ أو نقد أحد الأفاضل أو الأئمة أو العلماء - لمقامهم في العلم وخِدْمة الإسلام، ولا تغمض العين عن حسناتهم، فلهؤلاء الأعلام - على أخطائهم - جُهودٌ ومَساعٍ لا تنكر في الجهاد في سبيل الله، ونُصْرَة العقيدة الإسلامية والرَّد على الدَّهْرية والفلاسفة والرافضة وغيرهم، ومن الغبن الاستفاء في كيل الذم، والبخس في ميزان المدح.   والموازنة في بيان حالِ الناس شملت الملوك والأمراء، فكيف لا تُعمل في كلام من هُم أجل منهم مقامًا؟   فذا يزيد بن معاوية، لما كثُر حوله الخلاف، وامتحن الناس بالولاء له أو لعنه، من أتباعه وأعدائه، وهي بدعة افتراها الشيعةُ الرافضة، والنواصب، غير أنَّ ذاك لم يَمنع أئمة السنة من نقده والإنكار عليه، وذم بعض أفعاله، والعدل فيه؛ فيما كان من مناقبه؛ ولهذا قيل لأحمد بن حنبل: أيُؤخذ الحديثُ عن يزيد؟ فقال: لا، ولا كرامة، أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل؟   وقيل له: إنَّ قومًا يقولون: إنا نحب يزيد، فقال: وهل يحب يزيدَ مَن يُؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقيل له: أَوَلا تلعنُه؟ فقال: متى رأيتَ أباكَ يلعنُ أحدًا؟   ومع هذا فيزيدُ أحد ملوك المسلمين، له حسناتٌ وسيئات، كما لغيره من الملوك، وقد روى البخاري في صحيحه، "عن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أول جيش يغزو القُسطَنطينية مغفورٌ له))[1]، وأول جيش غزاها كان أميره يزيد، غزاها في خلافة أبيه معاوية"[2].   فالحقُّ الدَّامغ لا يردُّه إلا الجهول، والناقدُ الواعي يراعي الفرقَ بين جرحه لمن يرد عليه، والاستفادة مما معه من علم، فيلتقط شذرات الذهب من بين الرغام، ويفرك عن الزخرف بين الركام.   كما يتنبهُ أهلُ الفضل لفضائل الرِّجال، ولو رأوا منهم زلات، والمنصف يسدد ويقارب، ويوازن بين الأقرب والقريب، ويراعي الأهم قبل المهم، "وليس مما أمر الله به رسولَه، ولا مما يرتضيه عاقل - أن نقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد، بل قول الصدق والتزام العقل لازمٌ عند جميع العقلاء، وأهلُ الإسلام أحقُّ بذلك من غيرهم؛ إذ هم ولله الحمد أكملُ الناس عقولاً، وأتَمُّهم إدراكًا، وأصحُّهم دينًا، وأشرفهم كتابًا، وأفضلهم نبيًّا، وأحسنهم شريعة"[3].   فمَنهجُ ابن تيمية في نقد النَّاس وتقييمهم قائم على الموازنة بين السلبيات والإيجابيات، بين المصالح والمفاسد، ومراعاة قَدْر من يتكلم فيه في العلم، ومقامه في الدين، ومكانته بين الناس، والتنبُّه للزمان والمكان الذي يعرض فيه النقد، ولمن يعرض، فأهميةُ التوازن في نقد الرجال من ضرورات العدل والإنصاف مع كل أحد، فعرض المخالف بصورة الشر المطلق، أو الموافق بالخير المطلق - ينافي منطق العقل وحال الواقع، ومنهجُ أخذ الكل أو رد الجل يمنع خيرًا جمًّا، ويغلق سُبُلاً عدة.   فالنِّسبية عامَّة في الأحكام والتصنيف، وأهل الضلال ليسوا سواء، فكيف بمن خالف وثَبَت له مسمى الإسلام، بل السنة؟ وقول أئمة السنة والجماعة: "إنَّ جنس المتكلمين أقربُ من جنس الفلاسفة، وإنْ كان الفلاسفةُ قد يصيبون أحيانًا، كما أنَّ جنسَ المسلمين خيرٌ من جنس أهل الكتاب، وإن كان يوجد من أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة، ولا يوجد في كثير من المنتسبين إلى الإسلام، كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾ [آل عمران: 75]"[4].   فكوكبةُ المخالفين أجمعين في سَلَّة الضالين تَمَّ رميُهم عن قوس واحدة بدعاوى بيت الضلال زمرة واحدة؛ ذا منهج الرد بالمثل لا الأمثل، والتشبه بأهل البدَع في تكفيرهم وتبديعهم لكل مَن خالفهم.   فينساق البعض لدكِّ بعض الأفاضل في صنف الأراذل، فتحشر الصفوة معهم لهفوة، ولو أنزلت أحكام بذي الصورة على المسلمين لما سَلِمَ أحدٌ بعد النبي، فالمسلمُ مهما كمُل دينُه، ورسخ مقامه في الإسلام - عُرضةٌ للزلات والعثرات، فلا يستساغ طرح فضائله لدعاوى سيئاته، بل يُنظر من كلامه وأقواله الموافقة للحقِّ وتُقْبَل، ويعرض عن أخطائه.   و"لو أننا كلما أخطأ إمامٌ مجتهد في مسألة خطأً مغفورًا له، هَجَرْناه وبدعناه، لَمَا سلم أحد من الأئمة، والله الهادي للحق، والراحم للخلق"[5].   والأخطاء درجات، فلا تُساوى الكبائر بالصَّغائر، ولا مسائل الخلاف والاجتهاد بأصول الدين، ولا يتبع عالم ذو فضل لتأويل، فقد يخطأ ويُرَد قوله؛ غير أنه يسلم عرضه ودينه، وليس كلُّ مَن درى خطأً لأحد مؤهلاً للطعن في صاحبه أو تصنيفه، فضلاً عن الحكم عليه، فبَيْن تبصُّر الخطأ وإنفاذ حكم في المخطئ مقامات وشروط وموانع، والخلطُ في المسألة بملازمة الإثم للمخطئ بدعةٌ افتراها الخوارجُ، وتبعهم فيها قوم آخرون.   فتقييم الناس بمجرد تتبُّع الأخطاء، وتصيد العَثرات، والغفلة عن حسنات الناس - دليلُ فساد نيةٍ، وسوء قصد، والكتاب والسنة يدلان على المنهج القويم في نقد الناس وجَرْحهم، بالموازنة بين الفضائل والسيئات؛ ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾ [آل عمران: 75].   وأهلُ الكتاب مع كفرهم ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 113 - 114].   ومنهم أمة قائمةٌ بأمر الله مطيعة لشرعه، يقيمون الليل، ويكثرون السجود، ويتلون كتاب الله ويتدارسونه؛ ﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً ﴾ [آل عمران: 199].   والآيات تنصُّ على أن "الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب، والسيئات المقتضية للعقاب، حتى يمكن أن يثاب ويعاقب، وهو قول جميع أصحاب رسول الله، وأئمة الإسلام، وأهل السنة والجماعة، الذين يقولون: إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.   وأما القائلون بالتخليد كالخوارج والمعتزلة، القائلين: إنَّه لا يخرج من النار مَن دَخَلها من أهل القبلة، وأنه لا شفاعةَ للرسول ولا لغيره في أهل الكبائر، لا قبل دخول النار، ولا بعده، فعندهم لا يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب، وحسنات وسيئات، بل من أُثيب لا يعاقب، ومن عُوقب لَمْ يُثَبْ"[6].   وكثير ممن يخوض في نقد العلماء والدُّعاة وأهل الفضل بغير علم ولا روية - صنيعُه يشوبه اعتزال، ومقاله به لوث الخوارج، وإن كان يتبرأ منهم، غير أنَّ تشديدَه على طلب كمال الفعال والأقوال من الغير يقرنه بهم، فما إنْ يلحظ زلة - قد تكون محلَّ خلاف - تَرَه مستنفرًا كأنَّما هو قسورة، لا يألو فيمَن يتكلم إلاًّ ولا ذِمَّة، ولا يراعي مقامًا ولا هِمَّة، فيهدم ما له وما عليه، فكُلٌّ عنده سواء.   "والصواب: للمُسلم أن يعلم أنَّ خير الكلام كلامُ الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وخير القرون القرن الذي بُعث فيهم، وأنَّ أفضلَ الطرق والسُّبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه.   ويُعلم من ذلك أن على المؤمنين أنْ يتقوا الله بحسب اجتهادهم ووُسعهم...   وإنَّ كثيرًا من المؤمنين - المتقين أولياء الله - قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ما حصل للصَّحابة، فيتقي الله ما استطاع، ويطيعه بحسب اجتهاده، فلا بد أن يصدر منه خطأ، إما في علومه وأقواله، وإما في أعماله وأحواله، ويثابون على طاعتهم، ويُغْفَر لهم خطاياهم.   فمن جعل طريقَ أحد من العلماء والفقهاء، أو طريق أحد من العباد والنساك - أفضلَ من طريق الصحابة، فهو مخطئ ضالٌّ مبتدع.   ومن جعل كلَّ مُجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذمومًا معيبًا مَمقوتًا؛ فهو مخطئ ضالٌّ مبتدع.
  ثم الناس في الحب والبغض والموالاة والمعاداة هم أيضًا مجتهدون، يصيبون تارة، ويُخطئون تارة، وكثير من الناس إذا عَلِمَ مِنَ الرجُل ما يُحبه، أحَبَّ الرجل مطلقًا، وأعرض عن سيئاته.   وإذا علم منه ما يُبغضه، أبغضه مُطلقًا، وأعرض عن حسناته. وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة.   وأهلُ السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وهو أنَّ المؤمنَ يستحقُّ وَعْدَ الله وفضله، والثواب على حسناته، ويستحق العقاب على سيئاته.   وإنَّ الشخصَ الواحد يَجتمع فيه ما يثاب عليه، وما يعاقب عليه، وما يُحمد عليه، وما يُذَمُّ عليه، وما يحب منه، وما يبغض منه، فهذا وهذا"[7].   والعدل أن يعرف للمحسن إحسانه، وللمسيء إساءته، ثم يزن بين الأمور، ولا يَجوز أن يُغَلّبَ جانب النظر إلى السيئات على النظر إلى المحاسن والحسنات، وذا هو الفيصل القاسم بين أهل السنة وكل خارجي هو في ذا مخاصم، فلا يُغلب النظر لجهة المعاصي على التنبُّه لكثرة الحسنات، ومن المروءة جبر نقص ذوي الهيئات وعثراتهم، إلا الحدود.   وهذه سير السلف وأئمة السنة والحديث تنطق بمصداق هذا، وكثير منهم وقع منهم ما خالف الكتاب والسنة في مسائل اجتهدوا فيها، فما عاب عليهم العلماء ولا الأقران من أهل الإنصاف إنَّما عُلم الحط منهم ومن قدرهم في العلم من أهل الغُلُوِّ والجفاء، والأمثُل على هذا كثيرة جدًّا.   قال الذهبي في ترجمة أحد أئمة السنة والحديث: "محمد بن نصر المروزي؛ الإمام أبو عبدالله أحد الأعلام في العلوم والأعمال...   قال الحاكم فيه: إمام الحديث في عصره بلا مدافعة. ...
وقال ابن حزم في بعض تواليفه: أعلم الناس مَن كان أجمعهم للسنن، وأضبطهم لَهَا، وأذكرهم لمعانيها ولأحوال الصحابة.   ولا نعلم هذه الصفة أتم منها في محمد بن نصر المروزي، فلو قال قائل: ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث، ولا لأصحابه، إلا وهو عند محمد بن نصر، لَمَا بَعُد عن الصدق.   ...
قال أبو عبدالله بن مندة في مسألة الإيمان: صرح محمد بن نصر في كتاب الإيمان بأنَّ الإيمان مخلوق، فإن الإقرارَ والشهادة وقراءة القرآن بلفظه مَخلوق، وهجره على ذلك علماء وقته، وخالفه أئمة أهل خراسان والعراق.   قال الذهبي: لو أننا كلما أخطأ إمام مجتهد في مسألة خطأً مغفورًا له، هجرناه وبدعناه، لَمَا سلم أحد من الأئمة[8].   قال ابن المسيب[9]: ليس من شريف، ولا عالم، ولا ذي فضل، إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكر عيوبه، فمن كان فضلُه أكثر من نقصه، وُهب نقصه لفضله.   وقال: ظلمٌ لأخيك أن تذكرَ منه أسوأ ما تعلم، وتكتم خيره، هذا من الظُّلم[10].   ومن الحيف تتبع زلات من عُلم خيره وفضله، وصوابه أكثر من خطئه، والتشهير بها، وتضخيمها للحط من قدره، "ومما يتعلق بهذا الباب أن يُعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم إلى يوم القيامة، من أهل البيت وغيرهم - قد يحصل منه نوعٌ من الاجتهاد مقرونًا بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين.   ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه، فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمُّه، فتجعل ذلك قادحًا في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه؛ حتى تخرجه عن الإيمان.   وكلا هذين الطرفين فاسد، والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء - دخل عليهم الداخل من هذا.   ومن سلك طريق الاعتدال عَظَّم من يستحق التعظيم، وأحبه، ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمد ويُذم، ويُثاب ويُعاقب، ويُحب من وجه، ويُبغض من وجه"[11].   قال الذهبي: "ثم إنَّ الكبير من أئمة العلم إذا كثُر صوابه، وعلم تحرِّيه للحق، واتَّسَع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحُه ووَرَعُه واتِّباعه، يغفر له، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه.   نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك"[12].   ومثله في الدعاة والفضلاء، فالحكم بغالب الحال، ومن العلماء من عرف عنه كلام مردود عليه، وباطل في المعتقد، إلا أنَّ له فضلاً في الإسلام، وقدمَ صدق في الدعوة والدفاع عن ملة المسلمين، وله جهود في العلوم، ولطائف وفرائد ونكت، فصَنيعُ أهلِ العلم والأدب أَخْذُ ما صَلَحَ من قوله، وإنكارُ ما جانب الصواب، وذم باطل فعله أو قوله، والعدل بذكر حسن فعاله ومقاله، ومن سكت عن هذا الميزان، فهو يستفز أتباع من يقدح فيه، بعدم العدل في إمامهم أو عالمهم، فيجرهم للحمية له والتعصُّب لجميع أقواله، كما أنه يغري الأصاغر للتحرُّش بالأكابر، فلا يَعُون مقام الكبير إذا أخطأ، ولو توهموا ذاك، فتراهم يحذفونه بما يتلقفون من سفاسف الهنات، بل يتصيَّدون ما يحسبونه هم خطأً؛ لاعتقادهم أن ما جهلوه هم فهو باطل، وهم في ذاك بين متفكه قتله الفراغ والبطالة، ومتعالم يبغي التسلُّق على أكتاف الكبار؛ أن صار يقتنص زلاتهم، وجاهل عنده شبهة وهوًى، شبهته في وجوب إنكار المنكر، وهواه أنه لم يعِ قدره، ولا قدر من يتكلم فيهم، ولا قدر العلم الذي يخوض فيه، ويكأنَّ خرافًا تناطح جبالاً.   قال ابن القيِّم: "ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة، هو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تُهدَر مكانته وإمامته، ومنزلته من قلوب المسلمين"[13]، فلا يتبع العالم فيما خالف من السنة والراجح، ولا يتابع على زلته، بل ينكر القول ويستغفر للقائل.   قال ابن القيم عن الهروي: "فصل: قال صاحب المنازل: الرجاء أضعف منازل المريدين؛ لأنه معارضةٌ من وجه، واعتراض من وجه.   وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة، وفائدة واحدة نَطَقَ بها التنزيل والسنة، وتلك الفائدة هي كونه يبرد حرارة الخوف، حتى لا يُفضي بصاحبه إلى اليأس.   شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحبُّ إلينا منه، وكل من عَدا المعصوم مأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله، ثم نبين ما فيه.   فيقال: هذا ونحوه من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات، ويستغرقها كمال الصدق، وصحة المعاملة، وقوة الإخلاص، وتجريد التوحيد، ولم تُضمَن العصمة لبشر بعد رسول الله.
وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس: إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة[14]، ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم، فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساؤوا الظنَّ بهم مطلقًا.   وهذا عدوان وإسراف، فلو كان كل من أخطأ أو غلط، تُرِكَ جملة، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات والحكم، وتعطَّلت معالمها"[15].   قال الذهبي في ترجمة القفال الشاشي: "قال أبو الحسن الصفار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وسئل عن تفسير القفال، فقال: قدسه من وجه، ودنسه من وجه.   أي: دنسه من جهة نصره للاعتزال. قلت: قد مر موته والكمال عزيز، وإنما يمدح العالم بكثرة ما له من الفضائل، فلا تدفن المحاسن لورطة، ولعله قد رجع عنها، وقد يغفر له في استفراغه الوُسع في طلب الحقِّ، ولا حول ولا قوةَ إلا بالله"[16].   وابن تيمية بنى نقده للمُعَيَّن بالموازنة على أصل ثابت عنده، وهو تفاوت الطوائف في القرب والبُعد من الحق، فيسلك مع كل طائفة أو عالم مبدأ مقارنته بغيره، فأهلُ الكلام مقامات، "مع أنه يمكن بيان أن قول الأشعري أقرب إلى صريح المعقول من قول المعتزلة، كما يُمكن أن يبين أن قولَ المعتزلة أقربُ إلى صريح المعقول من قول الفلاسفة، لكن هذا يفيد أن هذا القول أقربُ إلى المعقول وإلى الحق، ولا يفيد أنه هو الحق في نفس الأمر.   فهذا ينتفع به من ناظر الطاعن على الأشعرية من المعتزلة، والطاعن على المعتزلة من الفلاسفة، فتبيَّن له أن قول هؤلاء خيرٌ من قول أصحابك، فإنه كما أن كل من كان أقرب إلى السنة، فقوله أقرب إلى الأدلة الشرعية، فكذلك قوله أقرب إلى الأدلة العقليَّة، ولا ريبَ أن هذا مما ينبغي سلوكه، فكل قول - أو قائل - كان إلى الحق أقرب، فإنه يبين رجحانه على ما كان عن الحق أبعد، ألا ترى أن الله - تعالى - لَمَّا نصر الرومَ على الفرس - وكان هؤلاء أهل الكتاب، وهؤلاء أهل أوثان - فرح المؤمنون بنصر الله لمن كان إلى الحق أقرب على من كان عنه أبعد.   وأيضًا فيمكن القريب إلى الحق أن ينازع البعيدَ عنه في الأصل الذي احتج به عليه البعيد، وأن يوافق القريب إلى الحق للسَّلف الأول الذين كانوا على الحق مطلقًا"[17].   والتنويه بالإيجابيات حال النقد أو التقييم لم يأتِ مُستقلاًّ، بل على أثر ومناقشة، فتراه حال رَدِّه على بعض المسائل ومناقشة حُجَجِها يقرن ذلك بذكر ما عند المخالف من حق.   كما أن ذكره لإيجابياتِهم أو مدحه لهم يُقرَن بالتنبيه لما هم عليه من ملاحظات عامة، مع كثير من التحفُّظ، فليس ابن تيمية ممن يكيل المدحَ أو الذَّمَّ جُزافًا، ولو في معاصريه المخالفين له، فمدح بعضهم، ولم تأخذه ثورة الغضب والمحن التي مر بها بسببهم؛ إلى أن يقول فيهم غير الحق، أو أن يغمط ما هم عليه من اتباع للسنة، فأنصف أعلام الأشاعرة، رغم مناقشاته وردوده الشديدة عليهم، فذكر ما معهم من محاسن وفضائل، وما لهم من جهود عظيمة في خدمة الإسلام والدِّفاع عن عقيدة أهل السنة.   هذه خلاصة منهجه في ذلك، يوضح فساد الأقوال، وأحيانًا بعض مواقف أصحابها، ويبيِّن تناقُضَهم، وحين يصل الأمر إلى الحكم على شخوصهم يلتفت إلى أمور أُخَر، ينبغي أخذها بعين الاعتبار.   فمنهجُ ابن تيمية في الحكم على المبتدعة باختلاف مللهم ونِحَلهم ما اقتضاه الشرع والواقع، ما أيده الفقه الصحيح والواقع الماثل الصريح، لا الأهواء الشخصية، والخلفِيَّات الحزينة الضيقة، فيعطي كلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه.   فالمعتزلة أعقل فهمًا وأعلم وأدين، والكذب والفجور فيهم أقل منه من الرافضة، والزيدية من الشيعة خير منهم وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم، وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أدين من الخوارج في هذا، والفلاسفة بهم عقلاء، ولهم ملكة في الطبيعيات والرياضيَّات، وليس فيهم عناد في بحث الحقيقة، والأشاعرة أفاضل المتكلمين، وأقرب الناس للحنابلة، والأكثر تعظيم للسنن والآثار في أهل الكلام، وهم من أهل السنة والجماعة.   والنصارى خير من اليهود، وفيهم رأفة وأوبة للحق، وأهل الكتاب خير من الفلاسفة الخارجين عن الملل، وأصحُّ عقلاً ودينًا، ولهذا كان خيار الصابئة من انتسب إلى مِلَّة من الملل، وقد اتفق أئمة الدين على إقرار اليهود والنصارى بالجزية، وعلى حل ذبائحهم ونسائهم، وإن خالف في ذلك أهل البدع.   فأهلُ السنة يسمعون فيهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء بعضُهم خيرٌ من بعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض.   بيان الحال: من منطلق الموازنة في حال الحكم على المعَيَّن لدى ابن تيمية التركيز على بيان حال من يرميه بفسق أو بدعة أو كفر، فكما يراعي شروطًا وموانعَ تَجعله يتحَفَّظ على الحكم على بعض أهل الفضل والعلم والتقوى، فتصنيف الناس يوجب سرد دواعي هذا الحكم، وهذا المنهج دعوي لاستيعاب النقد من طرف أتباع من يرد عليه، أو من يقبل قوله؛ كيما يتبصر الكلامُ، فينطلق في بداية الرَّدِّ إلى وجوب بيان حال أهل البدع، ولا يعتبره من الغيبة، بل هو توثيق لتقييم الشخصيَّات، وعرض لتفاصيل تستدعي الحكم على المعين، غير أنَّ بابَ بيانِ حال المعين لا يقرعه من هَبَّ ودَبَّ، فضلاً عن أن يدخل، فما يُباح لاستثناءٍ يحرم بالأصل؛ "وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي، وتعمد الكذب عليه، أو على من ينقل عنه العلم، وكذلك بيان من غلط في رأيٍ رآه في أمر من أمور الدين، من المسائل العلمية والعملية.   فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة؛ فالله - تعالى - يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيًا إلى بدعة، فهذا يجب بيان أمره للناس، فإنَّ دَفْعَ شرِّه عنهم أعظمُ من دفع شر قاطع الطريق"[18].   فشرط تحول الغيبة إلى شهادة العلم والعدل، فمن قَفَا ما ليس له به علم فهو كاذب مُفترٍ، ومن تجاوز الحد وترك الإنصاف، فهو معتدٍ قاسط، فهذان برهانان على صدق المتابعة لهدي النبوة، ولا مكرمة لمتابعة لا تُخالطها نية، وهي قول القلب بالإخلاص، فيكون المراد النصيحة لله ورسوله وللمؤمنين، فمعرفةُ الحقِّ شرطُ كمالِها رحمةُ الخلق.   وبعد ذاك يكون الدِّفاعُ عن عقيدة المسلمين مُوجبًا لفضح أهلِ الضَّلال والزندقة؛ ليحذر شرَّهم المسلمون، فمن حاد عن الطريق، وجاهر بالمنكر، ودعا إليه، وجب الأخذُ بيده، وكفُّ شره عن عوام المسلمين، ألاَّ يلبسَ عليهم دينَه، ورَد ضلالِه واجبٌ على العلماء؛ نصرةً لدين الله - تعالى - وإعلاءً لسنة نبيه، وإلا اندرست معالِمُ السنن والآثار، وصارت على سنة أهل الكتاب، بأن تَختفي معالم هدي النبوة؛ "ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيانَ حالِهم وتحذيرَ الأمة منهم واجبٌ باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكفُ أحبُّ إليك، أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف، فإنَّما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع، فإنَّما هو للمسلمين، هذا أفضل.   فبَيَّن أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم، ومن جنس الجهاد في سبيل الله؛ إذ تطهيرُ سبيله، ودينه، ومنهاجه، وشرعته، ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك - واجبٌ على الكفاية باتفاق المسلمين.   ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء، لَفَسَدَ الدين، وكان فسادُه أعظمَ من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا، لم يفسدوا القلوبَ وما فيها من الدين إلا تبعًا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداءً"[19].


[1] لم أجد هذا اللفظ في صحيح البخاري، وإنَّما فيه حديث أم حرام: أنَّها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا))، قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: ((أنت فيهم))، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفورٌ لهم))، فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: ((لا))؛ صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في قتال الروم، رقم: ‏2787‏. ومدينة قيصر هي القسطنطينية. [2] جامع المسائل، تقي الدين أبو العَباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية؛ تح: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد: بيروت، ط (1)، 1422، ج6، ص261. [3] درء تعارُض العقل مع النقل، ابن تيمية، ج5، ص358. [4] المصدر نفسه، ج5، ص361. [5] تاريخ الإسلام، الذهبي، ج34، ص108. [6] التحفة العراقية في الأعمال القلبية، تقي الدين أحمد بن عبدالحليم بن تيمية، تح: حماد سلامة، شركة الشهاب، باتنة، دت، ص2. [7] مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج11، ص14. [8] تاريخ الإسلام، الذهبي، ج34، ص(104 - 108)، بتصرف. [9] هو: سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي، ابن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة، الإمام، العَلَم، أبو محمد القرشي، المخزومي، عالم أهل المدينة، وسيد التابعين في زمانه، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر - رضي الله عنه - وقيل: لأربع مضين منها، بالمدينة. رأى عمر، وسمع: عثمان، وعليًّا، وزيد بن ثابت، وأبا موسى، وسعدًا، وعائشة، وأبا هريرة، وابن عباس، ومحمد بن مسلمة، وأم سلمة، وخلقًا سواهم، وقيل: إنه سمع من عمر، وروى عن: أبي بن كعب مرسلاً، وبلال كذلك، وسعد بن عبادة كذلك، وأبي ذر، وأبي الدرداء كذلك؛ سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج28، ص259. [10] البداية والنهاية، ابن كثير، ج9، ص295. [11] منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، ج4، ص271. [12] سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج5، ص325. [13] إعلام الموقعين، ابن القيم، ج3، ص223. [14] المراد بها الصوفية. [15] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبدالله، تح: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط(2)،1973، ج2، ص(36 - 39). [16] سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج16، ص285. [17] درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، ج4، ص221. [18] منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، ج5، ص73. [19] جامع الرسائل، ابن تيمية، ج1، ص348.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١