أرشيف المقالات

التاريخ في سير أبطاله

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 ابراهام لنكولن هدية الأحراج إلى عالم المدنية للأستاذ محمود الخفيف يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من سيرة هذا العصامي العظيم.

.

.
- 16 - وما كان إبراهام كما أسلفنا يطمع من وراء هذا النزال أن ينال لنفسه شيئاً؛ وهل عُرفتْ في خلقه غميزة منذ كان يقطع الأخشاب ليشتري بالمئات منه سروالاً؟ أو ليست كراهته لنظام العبيد ترجع إلى صدر شبابه؟ أو لم يتنز بالألم قلبه يوم سافر إلى نيو أورليانز في تجارة لأحد الناس ورأى هنالك أسواق الرقيق ووقعت عيناه فيما وقعتا على تلك الفتاة التي عرضت نصف عارية على الأنظار كأنها مهرة كريمة؟ منذ ذلك اليوم وهو يسير إلى غاية، شعر بذلك أو لم يشعر به؛ فلقد استقر في نفسه مالا تقعد معه عن العمل أو تنصرف عن الغاية، فكانت ثمة عزيمة تهون أمامها جسيمات الأمور، وكانت ثمة رسالة يحلو في سبيلها الجهاد ويطيب الاستشهاد؛ ومرد ذلك كله إلى قلب إنساني كبير ونفس مطمئنة صابرة، وبصيرة، كأنما تشرف من حاضرها على المستقبل فلا تقف من دونها حجب الغيب.
إنه اليوم كما أراد حزبه ينافس دوجلاس على مقعد في مجلس الشيوخ فهل كان ذلك قصارى همه؟ كلا.
وما كان بعض همه أن يرقى إلى كرسي الرياسة ذاته؛ وإنما كان همه أن تتحقق مبادئه ولو بدل في سبيلها نفسه؛ ولن يكون مقعد الشيوخ أو كرسي الرياسة عنده أمراً ذا بال إلا أن يكون وسيلة إلى السير بمبادئه إلى حيث يعتنقها الناس؛ وإلا فما الجاه والثراء والحكم عنده إلا من صغيرات الأمور؛ وهو إنما ينفر من كل أولئك بطبعه الذي يعزف عن الزهو، ويتخوف دواعي البطر.
وإن أمثال ابن الأحراج هذا في تاريخ البشرية لقليلون، ولكنهم هم الذين رسموا لها طريقها، وولوها قبلتها التي ارتضوها لها وأشاروا بأيديهم إليها، وما كان أتعس البشرية لو أنها افتقدت هؤلاء الذين يتمثل بهم ضميرهم أناساً يمشون على الأرض قال إبراهام ذات يوم من أيام ذلك النزال (لست أدعي أنها السادة أني غير أناني، ولن أتظاهر بأني لا أحب أن أذهب إلى مجلس الشيوخ، كلا لن آتي هذا الادعاء المنافق، ولكني أقول لكم إنه في هذا الجدال الصارم، ليس يعنيكم ولا يعني عامة الناس من هذه الأمة ما إذا كان القاضي دوجلاس أو ما إذا كنت أنا بحيث تستمعون عنا بعد هذه الليلة أو لا تستمعون.
وبما كان هذا أمراً تافهاً بالنسبة لكلينا، ولكنه إذا اعتبر من حيث علاقته بتلك المسألة العظيمة التي ربما كان يتوقف عليها مصير هذا الشعب فانه يكون في حكم العدم)
هذا هو ابراهام رجل المبدأ لا يعنيه أن يظفر أو أن ينهزم، وإنما تعنيه تلك المسألة العظيمة؛ ولن يهدأ له بال حتى تحل أو تسير في سبيلها إلى الحل وأنى لدوجلاس أن يقف في وجه تلك القوة العاتية؟ أنى له أن ينال من ذلك الذي يتكلم فيخيل إلى سامعيه كان الأخلاق نفسها تقول كلمتها.
حاول دوجلاس أن يعبر مرة عن عدم المبالاة من جانبه في مسألة العبيد فانبرى له ابراهام قائلاً: (إنني أبغض مثل هذا المظهر، مظهر عدم المبالاة.

إن من شأنه أن يضعف حاسة العدالة في دولتنا، وإنه ليعطي أعداء النظام الدستوري السلمي شبه حق أن ينظروا إلينا كأننا منافقون، كما أنه في نفس الوقت يمد أنصار الحرية الحقيقيين بسبب وجيه لتشككهم في إخلاصنا)
.

وقال في معرض آخر: (إنكم باعتيادكم أن تطئوا حقوق غيركم إنما تفقدون بذلك حقيقة استقلالكم أنتم، وتصبحون طعمة لكل طاغية يخرج من بينكم.
دعوني أخبركم أن مثل هذا إنما يعده لكم منطق التاريخ، إذا جاءت أدوار الانتخاب الآتية بحيث تجعل الحكم في قضية دردسكت التالية وغيره من الأحكام أمراً يقبله الناس.
إنكم تستطيعون أن تخدعوا كافة الناس ردحاً من الوقت وبعض الناس طول الوقت، ولكنكم لن تستطيعوا أن تخدعوا جميع الناس طيلة الأبد)
بمثل هذا المنطق السائغ، وبمثل هذه العبارات السهلة الأخاذة كان ابراهام يأخذ الطريق على دوجلاس في غير مشقة؛ وكان الناس كأنهم يلمسون الصدق في هذه العبارات وأمثالها؛ وهم واثقون من نزاهة غرضه وشرف مقصده.
ويريد ابراهام أن يصور موقف كل من الولايات القديمة والولايات الجديدة من نظام العبيد، فيصل إلى غايته في وضوح ويسر بعبارته الآتية التي أعجب بها السامعون، قال: (إذا أنا أبصرت ثعبانا قاتلا يزحف في طريق فأن أي رجل يقول بأن لي أن اعمد إلى أقرب عصا فأقتله؛ ولكني إذا وجدت هذا الثعبان في السرير بين أطفالي فان المسألة تتخذ وضعاً آخر فأني ربما آذيت أطفالي أكثر مما أوذي الثعبان وربما عضني ذلك الثعبان.
وتختلف المسألة أكثر من ذلك إذا أنا وجدت ذلك الثعبان في سرير أطفال جاري وكنت على اتفاق وثيق مع ذلك الجار ألا أتدخل في شؤون أطفاله مهما يكن من الأمر.

ولكن إذا كان هناك سرير قد صنع حديثاً وأُزْمِعَ حمل الأطفال إليه واقترح أن يحمل إليه عدد من الثعابين توضع مع الأطفال، فليس في الناس من يرى أن هناك اختلافا في أي الطرق أسلك)
ولقد عرفنا فيما سلف من خلال ابراهام قدرته على التهكم، ورأينا كيف يرشق خصومه في ساحة القضاء بتهكماته حتى يزلزل أقدامهم، كل ذلك في عذوبة روح وترفع عن الإساءة وحذر شديد أن يخرج إحساس أحد؛ وها هو ذا اليوم في مناظرته دوجلاس يعمد إلى ذلك السلاح في مهارة يضيق عنها ذكاء خصمه وتتخلف دونها بديهيته، ويذهل عندها مكره.
استمع إليه كيف يسفه وسائله ويزيف آراءه، وقد رأى منه أنه غيَّر رأيه وأنكر رأياً سالفاً له (أقول إنك خلعت قبعتك، وإنك تثبت أني كاذب بوضعها على رأسك من جديد؛ وهذا هو كل مالك من قوة في هذا الجدال) ثم انظر إليه كيف يحمل الناس على الضحك بأن يستخرج من إحدى عبارات دوجلاس ما يشبه القانون الرياضي، قال دوجلاس: (إذا كان النضال بين رجل من البيض وبين زنجي فأني أقف إلى جانب الأبيض، أما إذا كان بين زنجي وتمساح فإني مع الزنجي) فأجاب ابراهام بقوله (يستنتج من ذلك أن الرجل الأبيض من الزنجي كالزنجي من التمساح، وعلى ذلك فبقدر ما يكون من الحق في معاملة الزنجي للتمساح يكون منه في معاملة الرجل الأبيض للزنجي) ولم يدع إبراهام قولاً مما ساقه دوجلاس مساق المبادئ إلا حمل عليه وكشف عما فيه من بهرج، ومن ذلك ما أعلنه دوجلاس في مسألة نبراسكا وأبى إلا أن يسميه مبدأ سيادة الشعب؛ قال إبراهام: (مبدأ سيادة الشعب معناه حق الشعب أن يتولى حكم نفسه، فهل اخترع ذلك القاضي دوجلاس؟ كلا؛ فلقد اتخذت فكرة سيادة الشعب طريقها قبل أن يولد صاحب مشروع نبراسكا بعصور، بل قبل أن يطأ كولمبس بقدميه أرض هذه القارة.

فإذا لم يكن القاضي دوجلاس هو مخترع ذلك المبدأ فدعنا نتتبع الأمر لنتبين ماذا اخترع.
أهو حق المهاجرين إلى كنساس ونبراسكا في أن يحكموا أنفسهم وعدداً من الزنوج معهم إذا أرادوا ذلك؟ يظهر في وضوح أن ذلك لم يكن من اختراعه، لأن الجنرال كاس قد أعلن ذلك قبل أن يفكر دوجلاس في مثله بست سنوات.

وإذاً فماذا اخترع المارد الصغير؟ لم يخطر على بال الجنرال كاس أن يسمى اكتشافه بذلك الاسم القديم ألا وهو سيادة الشعب.
أجل لقد استحى أن يقول إن حق الناس أن يحكموا الزنوج هو حق الناس أن يحكموا أنفسهم.
وهنا أضع تحت أنظاركم اكتشاف القاضي دوجلاس بكل ما فيه؛ لقد اكتشف أن تربية العبيد والإكثار منهم في نبراسكا هو سيادة الشعب)
رأى دوجلاس يعمد إلى المداجاة، ويجهد أن يلبس الحق بالباطل فشبهه بنوع خاص من السمك من خصائصه أن يفرز مادة سوداء كالمداد يضل بها الصيادين، فهو لا يفتأ يرسل من العبارات الجوفاء ما يرمي به إلى التعمية وطمس الحقائق.

والناس يضحكون مما يقول ابراهام معجبين به مستزيدين منه.
ولقد رأى أبراهام في ذلك الصراع فرصة قلما تتاح له مثلها فعول ألا يدع في مسالة العبيد شيئاً غامضاً، وأخذ يقلبها على وجوهها في سهولة تستهوي الألباب، تلمس ذلك في مثل قوله عن المتمسكين بمبدأ العبيد، قال: (إن مبدأ الاستعباد عندهم يظهر لي كما يأتي: ليست العبودية صواباً من جميع الوجوه، وليست كذلك خطأ من جميع الوجوه، وإن من الخير لبعض الناس أن يكونوا عبيداً، وأنهم في هذه الحال يكونون خاضعين لإرادة الله.

حّقاً ما كان لنا أن نعارض مشيئة الله، ولكن لا تزال هناك صعوبة في تطبيقها على بعض الحالات الخاصة، فمثلاً لنفرض أن هناك شخصاً اسمه الدكتور روس الموقر يملك عبداً اسمه سامبو فأنا نتساءل هل مشيئة الله أن يظل سامبو عبداً أم هي أن يطلق صراحه؟ وإنا لن نظفر من الله بإجابة مسرعة عن هذا السؤال، ولن نجد في كتابه الإنجيل جواباً لذلك، أو لا نجد في الغالب إلا ما هو من شأنه أن يثير الجدل حول معناه.

ولا يفكر أحد أن يسأل ما رأي سامبو في ذلك.
وعلى ذلك يترك الأمر في النهاية للدكتور روس ليفصل فيه؛ وبينما هو يفكر في الأمر تراه يجلس في الظل وعلى يده قفازه يقتات بالخبز الذي يكسبه سامبو تحت الشمس المحرقة، فإذا هو قرر أن مشيئة الله هي أن يظل سامبو عبداً فانه بذلك يحتفظ بموضعه المريح؛ أما إذا قرر أن مشيئة الله هي أن يصير سامبو حراً فان عليه أن يخرج من الظل وينزع قفازه ويكدح من أجل خبزه؛ فهل يفصل الدكتور روس في الأمر بما تقضي به النزاهة التامة التي لابد منها في كل فصل حق؟)
وانتهى ذلك الصراع الذي اشتهر أمره، فكان نصيب الجمهوريين من المؤيدين مائة وخمسة وعشرين ألفاً؛ ونصيب الديمقراطيين دون ذلك بأربعة آلاف؛ ولكن مجلس الولاية التشريعي هو الذي كان يختار عضو مجلس الشيوخ، وكان بهذا المجلس أربعة وخمسون عضواً من الديمقراطيين وستة وأربعون من الجمهوريين؛ ولذلك فاز دوجلاس فصار عضو مجلس الشيوخ! ولقد عد انتصاره في نظر بعض المؤرخين بعد هذا الصراع أعظم انتصار شخصي في تاريخ أمريكا السياسي.
وهكذا يفشل ابراهام مرة أخرى في الحصول على مقعد في مجلس الشيوخ، ويخطئ دوجلاس دونه بذلك المقعد؛ ولكن ابراهام على عادته لا يعبأ بهذا الفشل، بل إنه ليستشعر الراحة بينه وبين نفسه أن استطاع أن يسمع تلك الآلاف صوته؛ وإنه ليحس أن مبادئه قد أخذت سبيلها إلى قلوب الكثيرين منهم على صورة طالما مني نفسه بها، وأي شيء هو أحب إليه من ذلك؟ لقد أصبح اسمه على كل لسان، وصار يعتبر من رجال أمريكا المعدودين، وأضاف الناس في الشمال إلى ألقابه لقباً جديداً فقالوا لنكولن (قاتل المارد)، وطنطنت باسمه الصحف؛ ومن ذلك ما قالته نيويورك ايفننج بوست، (لم يصل رجل في هذا الجيل إلى الشهرة في قومه بمثل تلك السرعة التي وصل بها لنكولن في هذا الانتخاب)؛ وكتب إليه رجل غريب عنه يقول: (إن مثلك اليوم كمثل بيرون الذي أفاق ذات يوم من نومه ليجد نفسه ذائع الصيت؛ إن الناس يستنبئون عنك بعضهم بعضاً، لقد قفزت دفعة واحدة من محام له الصدارة في الينواس إلى الشهرة القومية) أما هو فقد وصف شعوره يؤمئذ بقوله: (مثلي مثل الصبي الذي اصطدم إصبع قدمه بشيء آلمه، فكان الألم أشد من أن يصحبه ضحك وكان الصبي أكبر من أن يبكي).
ولاقى إبراهام عنتاً من بعض خصومه في تبرسبرج، فلقد أرادوا إيذاءه فتصايحوا ضده، وأسمعوه من البذاء ما أعرض عنه إعراض المؤمنين الصابرين.

ولكنه في أتاوا استقبل استقبال الفاتحين فحمله شباب المدينة على أعناقهم والألوف تهتف به؛ وهو ضائق بهذا يقبله على رغمه ولو أنه استطاع أن يفلت منه لفعل ذلك مسرعاً ولكنه لا حيلة له فيه؛ وما كان أشبهه ساعتئذ بالخليفة الثاني عمر حين صاح بقومه أن كاد يقتله الزهو! أجل؛ لقد تبرم لنكولن بهذا الزهو، فما كان من شيمته أن يزهى، ولا كان من خلقه أن يترفع أو أن يطغى؛ بل كان لا يتزايد حظه من الصيت إلا تواضع، ولا يعظم نصيبه من النفوذ إلا خفض جناحه وألان جانبه للناس جميعاً، أولياؤه وخصومه في الرأي في ذلك سواء.
وعاد إبراهام إلى سبرنجفيلد بعد أن قضى في ذلك النزال أكثر من شهرين؛ عاد إلى زوجه وأولاده فلقيته ماري راضية عنه على الرغم من إخفاقه في الحصول على مقعد في مجلس الشيوخ.
أو ليست ترى الصحف كلها تذكر زوجها وترى أكثر صحف الشمال تطنب في مدحه وتعده بطلاً من أبطال قومه؟ أو ليست هذه هي النغمة التي يحلو لها سماعها؟ وأي شيء أحلى في قلبها وقعاً من أن ترى نفسها زوج رجل عظيم يعترف الناس بعظمته.
وأقبل على المحاماة من جديد فلقد أنفق في هذا الصراع من المال ما أرهقه من أمره عسراً؛ هذا إلى أنه بانقطاعه طيلة تلك الأيام عن مهنته لم يكسب من المال شيئاً؛ وهكذا يعود ابن الغابة إلى كدحه ليقيم أوده وأود أسرته بينما يذهب دوجلاس الثري يرفل في النعمة إلى وشنجطون ويجرر ذيل الخيلاء السابغ الضافي (يتبع) الخفيف

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١