أرشيف المقالات

إغلاق باب التوبة ببلوغ الروح الحلقوم

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2إغلاق باب التوبة ببلوغ الروح الحلقوم
إذا نزل بالإنسان الموت، وبلغت الروح الحلقوم، أُغْلِق بابُ التَّوبة: قال - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 17، 18].   ومعنى قوله - تعالى -: ﴿ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾؛ أي: ما كان دون الموت فهو قريب، وقال الحسن البصري - رحمه الله -: ما لم يُغَرْغِر؛ (جامع البيان لابن جرير الطبري (8/9) بتصرف).   وأخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن اللهَ يقبل توبةَ العبد ما لم يُغَرْغِر))؛ (صحيح الجامع: 1903)؛ أي: ما لم تبلغِ الروحُ الحلقومَ.   وأخرج الإمام أحمد أيضًا، وابن ماجه من حديث بُسْر بن جحَّاش - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بَصَقَ يومًا في كَفِّهِ، فوضع عليها إصْبَعَهُ، ثم قال: ((قال الله - عز وجل -: ابن آدم، أنَّى تُعْجِزُنِي، وقد خَلَقْتُكَ من مِثْل هذِهِ؟ حتى إذا سوَّيتُك وعدلتُك، مَشَيت بين بُرْدينِ وللأرضِ منك وئيدٌ، فجمعتَ ومنعتَ، حتى إذا بلغتِ التراقيَ، قلتَ: أتصدَّق، وأنَّى أوانُ الصدقة؟))؛ (الصحيحة: 1143).   فعلى الإنسان المُفرِّط المُقصِّر أن يبادر بالتوبة والعمل الصالح قبل مجيء هذه اللحظة؛ فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بادروا بالأعمال ستًّا: طلوع الشمس من مغربها، أو الدُّخَان، أو الدَّجَّال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم[1]، أو أمر العامة[2])).   وقت الموت من الغيب الذي استأثر الله به: وقت الموت من الغيب الذي استأثر الله بعلمه؛ قال - تعالى -: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ﴾ [الأنعام: 59]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34].   وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الخمس هي مفاتيح الغيب التي أخفاها عن عباده؛ فقد روى البخاري في "صحيحه" عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مفاتح الغيب خمسٌ لا يعلمهن إلا الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34]))؛ فالإنسان لا يعلم متى ينقضي أجلُه، وفي أي بقعة يكون مضجعه، أفي بَرٍّ أم في بحر؟ وفي سهل أم حزن، وقريب ذلك أم بعيد؛ كما قال - سبحانه -: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 185].   ولذلك دعا رب العالمين إلى المسارعة إلى المبادرة لفعل الطاعات، وعمل الخيرات قبل الممات؛ فقال - تعالى -: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21]، ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148]، [المائدة: 48].   وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحثُّ على المبادرة بالطاعة، وبذل الصحة قبل حلول العلل، ومجاهدة النفس قبل حلول الأجل، ففي "صحيح البخاري" عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي، فقال: ((كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل))، وفي الحديث: ((خُذْ من صحتِك لمرضِك، ومن حياتِك لموتِك))، وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء"، وفي رواية عند الترمذي: "وعُدَّ نفسَك من أهل القبور"؛ والمعنى كما جاء في "تحفة الأحوذي"(6/515): "استمرَّ سائرًا ولا تفتُرْ، فإنك إن قصرت، انقطعتَ وهلكت".   وقفة مع قوله - تعالى -: ﴿ ...
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34]: فقد جاء في الحديث الذي أخرجه الطبراني في "الكبير" وأحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أراد الله قبض عبدٍ بأرضٍ جعل له فيها حاجة))، (ولعل هذا خير شاهد لهذا الأثر الذي ذكره الغزالي في الإحياء: ج 5/149)، عن الأعمش بن خيثمة قال: "دخل ملك الموت على سليمان بن داود - عليهما السلام - فجعل ينظر إلى رجلٍ من جلسائه يُدِيم النظر إليه، فلما خرج، قال الرجل لسليمان: مَن هذا؟ قال سليمان: هذا ملَك الموت، قال: لقد رأيته ينظر إليَّ كأنه يريدني، قال سليمان: فماذا تريد؟ قال: أريد أن تأمر الريح حتى تحملني إلى أقصى الهند، ففعلت الريح ذلك، ثم قال سليمان لملك الموت بعد أن أتاه ثانية: رأيتُك تُدِيم النظر إلى واحدٍ من جلسائي، قال ملك الموت: نعم، كنت أتعجب منه؛ لأني كنت أُمِرتُ أن أقبضه بأقصى الهند في ساعة قريبة، وكان عندك فعجبت من ذلك".   قال أحدهم: مَشَيناها خُطًى كُتِبتْ علينا ومَنْ كُتِبتْ عليه خُطًى مَشَاها وأرزاقٌ لنا متفرِّقات فمَن لم تأْتِهِ منه أَتَاها ومَنْ كُتِبتْ منيَّته بأرضٍ فليس يموتُ في أرضٍ سوَاها   لذلك ينبغي على العبد أن يجتهد دائمًا؛ امتثالاً لقوله - تعالى -: ﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]؛ أي: مستسلمون لطاعته، فلا يأتيك الموت إلا على طاعة؛ لأن الإنسان لا يعلم متى يموت، وبأي أرض سيموت.


[1] خاصة أحدكم؛ أي: ما يخصه دون غيره، وأراد به الموت الذي يخصه. [2] أمر العامة: المقصود به الساعة؛ أي: يوم القيامة؛ لأنها تعم الناس جميعًا.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١