أرشيف المقالات

عدلي. . .

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
8 يجب أن يكون الناس قد انتهوا من الحرج والضيق، ومن العسر وسوء الحال إلى حيث أصبحوا ينكرون أنفسهم ويمرون سراعاً ببعض الأحداث الجسام التي كانوا يقفون عندها فيطيلون الوقوف، ويفكرون فيها فيطيلون التفكير.
ويتذوقون آلامها متمهلين متعمقين كأنهم يجدون في تذوقها على مهل وفي أناة شيئاً من اللذة يدعوهم إلى استبقائها ومد أسبابها.
فهم كانوا إذا ألم بهم الحدث من هذه الأحداث وجموا له وجوماً طويلاً ثقيلاً، ثم يذهب عنهم الوجوم شيئاً فشيئاً فيحسون لذع هذه اليقظة المؤلمة، ثم يفيقون فيقدرون خطر الحدث الذي أصابهم، ويذكرون من أصابهم فيه ويطيلون ذكره، ويتمثلون مواقفه المختلفة، ثم ينظرون إلى حاضرهم ومستقبلهم ويتصورون فقيدهم مواجها لظروف الحاضر والمستقبل، ويسألون أنفسهم عن مواقفه التي كان يمكن أن يقف من هذه الظروف لو امتدت له أسباب الحياة.
ويتخذون من هذا التفكير المتنوع الطويل سبلاً إلى الألم متنوعة، ووسائل إلى الحزن متباينة، تأبى نفوسهم أن تقطع الصلة بينها وبين من فقدت، حتى إذا عملت الأيام عملها، وتكاثرت خطوب الحياة على ما يملأ النفوس من ذكرى، فالت أن تسدل عليه من النسيان ستاراً، جاهدت هذه النفوس ما وسعها الجهاد، لتقاوم الظروف، وتمانع النسيان وتستبقي شخص الفقيد ماثلا أمامها تنظر إليه وتحزن عليه وتبكيه أو تبكي أنفسها فيه. كذلك كان الناس حين كانت حياتهم حياة تستحق هذا الأسم، وحين كانت أيامهم أياما، أما الآن فقد تغير الناس لأن حياتهم تغيرت، وقد تبدل الناس لأن أيامهم تبدلت، فقدت الحياة في نفوسهم قيمتها، فاصبحوا لا يذوقون لذتها وآلامها الا مسرعين.
وفقدت الأيام في نفوسهم قيمتها، فاصبحوا لا يقفون عند أحداثها وخطوبها الإلماما.
كثرت عليهم الأحداث والخطوب، وثقلت عليهم الأرزاء والمحن، وعجزت أعصابهم عن المقاومة، فعجزت نفوسهم عن الحزن كما عجزت نفوسهم عن الفرح.
أصبح كل واحد منهم وكأنه الكرة الخفيفة الوثابة تتدافعها الحوادث، وتتقاذفها الكوارث، فلا تكاد تقع على حادثة أو كارثة، أو لا تكاد تقع عليها حادثة أو كارثة، حتى تثب وتقفز مسرعة، خفيفة، عنيفة، تبتغي حادثة أخرى وكارثة أخرى، أو تبتغيها حادثة أخرى وكارثة أخرى. وهذا وحده هو الذي يفسر موقف الناس من هذا الخطب العظيم الذي ألم بهم حين نعت إليهم الأنباء عدلي يكن رحمه الله، فقد وقعت هذه الأنباء عليهم وقع الصواعق، فوجموا لها، ولكنهم أفاقوا مسرعين من هذا الوجوم، لأنهم تعودوا وقع الصواعق في هذه الأيام.
أفاقوا وجزعوا، واشتد عليهم الجزع، حتى كاد يشبه اليأس، ولكن جزعهم كان قصيراً محدود الأمد، فلم يمض يوم وبعض يوم حتى شغلوا عن هذا الخطب ولم ينسوه، وإنما صرفوا عنه صرفاً، صرفتهم عنه هذه الضرورات القاسية والآلام الملحة التي لا يعرفون كيف يخلصون منها أو يثبتون لها.
وما رأيك في قوم لا يستقبلون النهار إذا أشرقت شمسه إلا بالخوف من بياضه، ولا يستقبلون الليل إذا نشر ظلمته على الأرض إلا بالإشفاق من سواده، يصبحون وهم يجهلون إلى أين يدفعهم النهار المضيء، ويمسون وهم يجهلون إلى أين يذهب بهم الليل المظلم. كيف تريد من هؤلاء الناس أن يبتلوا مرارة الحزن ولذع الألم، أو يستعذبوا حلاوة الفرح وموقع السرور من نفوسهم؟ لقد فقدوا أو كادوا يفقدون هذه الملكات القوية الرقيقة الحساسة التي كانت تنقل إلى نفوسهم صور الحياة كما هي.
فهي تمكنهم من أن يتعظوا بما يبعث العظة منها، ويبتهجوا بما يثير الابتهاج، هاهم أولاء يفكرون في أزماتهم على اختلافها، ويجدون في التخلص من هذه الأزمات أو الإذعان لها، ليس منهم إلا طالب أو مطلوب، ليس منهم إلا غالب أو مغلوب، ليس منهم إلا بائس أو منتظر للبؤس، وليس منهم إلا محرج أو مدفوع إلى الحرج، فهم معذورون إذا صرفتهم الحوادث صرفا عن ذكر هذا الفقيد العظيم، وعن إطالة ذكره والتحدث فيه، وهو مع ذلك مازال في دار الغربة حيث قبضه الله إليه، لم يعبر جثمانه البحر بعد إلى وطنه ليوارى في ترابه، ويدفن في ثراه المقدس. هم معذورون.
وعدلي رحمه الله أشد الناس قبولا لعذرهم هذا، لأنه كان أحسن الناس تقديراً لحالهم هذه.
ولأنه أشد الناس عطفا عليهم وبراً بهم، ولأنه كان على امتيازه وأرستقراطيته الظاهرة يشاركهم فيما يجدون، ويقاسمهم ما يشعرون به من الحزن والألم وسوء الحال.
والمصريون أكرم على أنفسهم من أن يكون سكوتهم عن عدلي بعد موته بقليل نسياناً له، أو تقصيراً في ذاته، فليس عدلي من الأشخاص الذين يقدر عليهم النسيان، وليس المصريون من الشعوب التي يهون عليها الجميل.
ومهما يكن الأمر في ذلك فان ذاكرة التاريخ أقوى وأثبت وأعمق من ذاكرة الناس؛ وسيذكر التاريخ دائماً أن أربعة من المصريين كانوا أئمة النهضة الوطنية الاستقلالية، أو قل كانوا أئمة الثورة المصرية التي شبت نارها بعد أن خمدت جذوة الحرب، والتي هبت فيها الأمة المصرية تطالب بأن يعرف الناس لها أنها أمة حرة كريمة تريد أن تعيش في بلد حر كريم.
كان هؤلاء الأئمة الأربعة عنوان الحياة السياسية الجديدة في مصر ثم في الشرق كله، وسيظلون عنواناً لهذه الحياة على اختلاف طبائعهم وأمزجتهم، وعلى تباين ميولهم وأهوائهم، وعلى ما بين شخصياتهم العظيمة الفذة من الاختلاف، ولن يستطيع مؤرخ أن يصور حرية مصر وحرية الشرق في هذه القطعة من الزمن التي تبتدئ بعد الحرب دون أن يعتمد في تصويره على هؤلاء الأئمة الأربعة في السياسة: سعد ورشديوثروت وعدلي رحمهم الله! كان سعد من هذه الثورة المصرية الشرقية بمكان الجذوة القوية المضطرمة التي لا يعرف الخمود إليها سبيلا، والتي لا يمسها شيء إلا اضطرم، ولا يدنو منها شيء إلا التهب.
والتي تبعث أشعتها القوية المحرقة إلى أبعد الأماكن منها فتذكي فيها ناراً، وتثير في جوها أواراً، وتخرج أهلها عن أطوارهم، وتدفعهم إلى حب الحياة بعد الموت، والعزة بعد الذل، والاستقلال بعد الخضوع والإذعان. وكان رشدي من هذه الثورة بمكان الفقيه الذي يعرف كيف يستخرج الحق من الشبه، ويرد إليه حظه من الوضوح الذي لا يدع للشك فيه سبيلا، ثم يدافع عنه بالحجة الساطعة والرهان المستقيم والعاطفة الصادقة الحارة. وكان ثروت من هذه الثورة بمكان المدبر الماهر ذي الحيلة الواسعة والمدخل الخفي والمخرج اللطيف كلما تحرجت المواقف وتعقدت الأمور. وكان عدلي من هذه الثورة بمكان العقل الهادئ الرزين الحكيم، الذي لا يقوم إلا على بصيرة، ولا يقبل إلا على ثقة، وبعد تفكير طويل، وروية متصلة، ولا يأتي من الأمر شيئا إلا في أناة ووقار وهدوء، قلما تظفر بمثلها عند الزعماء.

ولو أن الثورة المصرية الشرقية فقدت واحداً من هؤلاء الأربعة لما كان لها شكلها الذي نعرفها به، ولا طبعت بهذا الطابع الذي يميزها من غيرها من الثورات. كانت أمزجة هؤلاء الأئمة الأربعة عناصر تكونت منها هذه الثورة المصرية الشرقية.
وقد اختلفوا واختصموا، وجاهد بعضهم بعضا جهادا عنيفا.
ولكن مزاج الثورة المصرية كان في حاجة قوية إلى هذا الخصام والجهاد ليحيا ويقوى ويثبت للأحداث، ويبقى على رغم الخطوب.
ثم أذن الله لهؤلاء المختلفين أن يعودوا إلى ما كانوا عليه من ائتلاف، ويثوبوا إلى ما كان بينهم من مودة وحب، ومن تعاون واتفاق، فصفا بعضهم لبعض، وسعى بعضهم إلى بعض، ورضى بعضهم عن بعض، ورضيت الأمة عنهم جميعا، ورضى الله عنهم فأثرهم برحمته واختارهم إلى جواره، يسعى بعضهم إلى أثر بعض إلى دار الخلود وقد أدى واجبه، ونهض بما كان ينبغي أن ينهض به من الحق.
وكان سعد أسبقهم إلى الخلود، وكان عدلي آخرهم انتقالا إلى دار الخلود.
ولقد تحدث الناس عن سعد ورشدي وثروت فأطالوا الحديث، وسيتحدثون، وستكون أحاديثهم أجل وأوضح، وأدل على عظمة هؤلاء النفر كلما بعد بيننا وبينهم العهد، ومضت على وفاتهم الأيام، ولكن الناس لم يتحدثوا بعد عن عدلي لأنه عاش إلى هذا العهد، فكانت حياته مانعة من الحديث فيه، ولأنه مات في هذا العهد فكانت المحن المقيمة صارفة عن إطالة الحديث فيه. وليس الحديث عن عدلي سهلا ولا يسيرا، فأنت لا تكاد تعرض لخصاله حتى تعجبك كلها، وحتى تدعوك كلها إلى أن تحمده وتثني عليه.
وإذا أنت حائر لا تدري ماذا تأخذ منها وماذا تدع، ولكن نواحي ثلاثا من حياة هذا الرجل تفرض نفسها على الكتاب والمفكرين فرضا.
فإما أولاها فهي امتيازه الشخصي في حياته الخلقية، وفي ما كان بينه وبين الناس من صلة.
فعدلي أقل الناس تعرضا للنقد من هذه الناحية: كان رضي الخلق، وكانت هذه الخصلة أظهر خصاله وأوضحها، ولكنها على ذلك لم تكن تسبق إلى الناس ولا تظهر نفسها لهم، ولا تطمعهم في صاحبها، وإنما كانت تحيط نفسها بسياج من الآنفة والترفع، يحسبه الناس ضرباً من الغطرسة، ولونا من الكبرياء، فيهابونه وينأون عنه، فإذا أتيح لهم أن يدنوا من رجل ويخلصوا إلى نفسه، لم يجدوا غطرسة ولا كبرياء، وإنما وجدوا أنفة وعزة وترفعا عن الابتذال.
ووجدوا من وراء هذا كله نفسا صافية نقية، وقلبا طاهرا وفيا، وضميرا كريما حيا.
وظهر هذا كله في معاشرة حلوة، وحديث عذب ولسان عفيف، وصلات ترفع الذين يدنون من عدلي إلى حيث هو، ولا تهبط بعدلي إلى حيث يكون المتصلون به والساعون إليه. والناحية الثانية مذهبه السياسي.
فقد كان عدلي كغيره من أصحابه مؤمنا بحق مصر في الاستقلال، حريصا على أن تظفر مصر بهذا الحق، لم يكن يتهم في ذلك أحد.
وكان عدلي كأصحابه يرى أن المفاوضة مع الإنجليز قد تؤدي إلى الظفر بهذا الحق، وتنتهي بمصر إلى ما تريد.
ولكن طريقه في تنفيذ مذهبه هذا وإخراجه إلى الحياة العملية هي التي تميزه من غيره، وهي التي تظهر طبيعته ومزاجه، كأوضح ما تكون الطبيعة والمزاج.
فلم يكن عدلي صاحب قوة وعنف، ولم يكن عدلي قادرا على أن يوجد بينه وبين الشعب على اختلاف طبقاته هذه الصلة القوية التي تجعله مرآة للشعب من جهة، وملهماً للشعب من جهة أخرى.
إنما كان عدلي رجلا يحب الشعب ويؤمن به، ويحرص على حقه دون أن يلهمه أو يستلهمه.
كان يصدر عن عقله وتفكيره الهادئ الرزين، اكثر مما يصدر عن عواطفه الحارة وشعوره العنيف.
وكان لا يحسن الحديث إلى الشعب، لأنه لم يكن يجد هذه الكلمات والجمل الساحرة التي تنفذ إلى قلوب الشعب.
وكان كل ما يستطيع أن يرى ويسمع ويفكر، ثم يعمل تاركاً لغيره مالا يقدر عليه من إلهام الشعب واستلهامه.
فلما ألف وزارته الأولى وأعلن برنامج هذه الوزارة متفقاً عليه مع الوفد، كان هذا البرنامج مظهرا واضحا قويا، لطبيعة هذا الرجل المستقيمة ومذهبه الصحيح في فهم حقوق الشعب وتقديرها.
فأنظر إليه يحرص في هذا البرنامج حرصا شديدا على أمرين: الأول أن يستخلص لمصر حقوقها من الإنجليز بالمفاوضة، والثاني أن يعرض على الشعب المصري نتيجة المفاوضة لينظر فيها ويقرها، وأن يكون هذا الشعب ممثلا في جمعية وطنية لا تقف مهمتها عند إقرار المعاهدة وتنظيم العلاقة بين مصر والإنجليز، بل تتجاوز هذا إلى شيء عظيم الخطر حقاً وهو وضع الدستور، وتنظيم سلطة الشعب، وتنظيم العلاقة بين السلطة التشريعية وغيرها من السلطات التي يتكون منها سلطان الدولة؛ ومعنى ذلك أن عدلي كان يؤمن بأن الأمة وحدها مصدر السلطات، وبأنها ما دامت كذلك فهي التي يجب أن تضع الدستور وأن تعلنه لا أن تتلقاه.
ومن يدري؟ لو أن الظروف واتت عدلي ومكنته من تنفيذ برنامجه لعل مصر أن تكون قادرة على أن تجتنب كثيرا من الأزمات الداخلية التي ألمت بها فجرت عليها شرا كثيرا. ولست أدري لعل موضع الخطأ في برنامج عدلي رحمه الله أنه جعل دعوة الجمعية الوطنية نتيجة للمفاوضات لا مقدمة لها.
فلما لم تنجح مفاوضته لم تدع الجمعية الوطنية، وتلقت مصر الدستور ولم تصدره.
ولكن أكان عدلي قادرا حقا على أن يدعو الجمعية الوطنية قبل المفاوضة، وقبل أن يستخلص لمصر حريتها من الإنجليز؟ وماذا عسى أن تكون قيمة هذه الجمعية الوطنية التي تدعي وتعقد وتشرع الدستور وغير الدستور في ظل الحماية الأجنبية؟ وماذا يكون موقف هذه الجمعية الوطنية من الإنجليز؟ وماذا يكون موقف الإنجليز منها إن شجر بينها وبينهم خلاف: مهما يكن من شيء، فقد كان فهم عدلي لحقوق الشعب وتصويره لهذه الحقوق ملائمين أشد الملاءمة لأرقى المثل الدستورية العليا. الناحية الثالثة: وفاء هذا الرجل العظيم لمذهبه في السياسة، ورأيه في حق الشعب، وثباته على هذا المذهب، وامتناعه أن يتحول عنه مع الظروف، فقد أخفق في مفاوضة الإنجليز واستقال وعجز عن أن يدعو الجمعية الوطنية، ولكنه قضى بقية حياته مؤمنا بأن المفاوضة هي أوضح السبل إلى الاستقلال، مؤمنا بأن سلطة الشعب هي القوام الشرعي الوحيد لكل حكومة، وهي العماد الشرعي الوحيد الذي يجب أن تعتمد عليه الحكومات فيما تأتى من الأمر في السياسة الداخلية أو الخارجية؛ ولم يكد يصدر الدستور حتى عرف عدلي كيف يرضي نفسه وضميره في السياسة، فتقدم إلى أمته في الانتخابات؛ فلما قضت عليه أذعن لقضائها ورضي به، لا يحمل لأمته غلا، ولا يضمر لها حقدا، ولا ينكر عليها أنها انصرفت عنه إلى غيره، ولم تمنحه ثقتها وهو على ذلك كله مؤمن أصدق الإيمان بأن هذا الدستور الذي صدر لا يفيد الذين اقسموا على الإخلاص له وحدهم، وإنما يقيد المصريين جميعا وهو من بينهم.
ومن هنا تستطيع أن تفهم أن عدلي قد أبى كل الآباء بعد صدور الدستور أن يؤلف وزارة، أو يؤيد وزارة أو يشترك في وزارة لا تعتمد في صراحة وإخلاص على الدستور؛ ومن هنا نستطيع أن نفهم إسراعه إلى الائتلاف مع سعد حين دعي إليه، وإخلاصه في تأييد هذا الائتلاف، وقبوله رياسة الوزارة في هذا الائتلاف، لأن هذا الائتلاف كان قوامه إرجاع الحياة الدستورية، وكان اعتماده على الدستور، وكان بقاؤه رهيناً ببقاء الدستور؛ ومن هنا تستطيع أن تفهم كيف اعتزل السياسة وانصرف عنها حين وقف الدستور، وكيف أسرع إلى قبول الوزارة حين عرضت عليه ليرد الدستور.
ثم من هنا تفهم أيضاً كيف أنكر ما كان من تغيير الدستور القديم، وكيف أسرع إلى الاحتجاج على هذا التغيير، وكيف أسرع إلى التعاون مع المؤتمر الوطني الذي أنكر ما حدث من تغيير، وألح في أن ترد الأمور إلى نصابها، كيف أنفق بقية حياته عزيزا كريما أبيا يرقب الحوادث وينتهز الفرص وينتظر أن يدعوه الواجب الوطني فيستجيب له.
ولكن دعوة الموت سبقت دعوة الواجب الوطني، فأسرع عدلي إلى حيث أراد له من هذه الحياة الخالدة.
حياة الكرامة والنعيم.
وتريد الأقدار أن يموت عدلي حيث مات صديقه الحميم ثروت في باريس بعيدا عن الوطن، وتريد الأقدار أن يموت عدلي كما مات صديقه الحميم ثروت ومصر في أزمة سياسية عنيفة تعتمد عليه وتعقد به أوسع الآمال.
فإذا هي تمتحن فيه وتحرم معونته، ثم تريد الأقدار أن ينتقل عدلي إلى وطنه في نفس السفينة التي نقل فيها ثروت، وهي (البروفيدنس)! أفترى الأقدار قد رعت حرمة هذه المودة الصادقة الخالصة التي كانت بين هذين الرجلين العظيمين، فأرادت أن تلائم بينهما في الموت كما لاءمت بينهما في الحياة؟ طه حسين

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١