أرشيف المقالات

إلى الأمة الإسلامية في عامها الجديد

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 للأستاذ محمد عرفة أستاذ بكلية اللغة العربية للشعوب أخطاء كما للأفراد أخطاء، وشر هذه الأخطاء ما يقع في القواعد الاجتماعية، إذ الخطأ تكون له نتائج سيئة الأثر تتجرع الأمم غصصها ما دامت فيها هذه الأخطاء وخير ما يسديه إلى أممهم رجال الاجتماع والعلماء بروح الجماعات وطبائع الشعوب أن يصلحوا لهم هذه الأخطاء ليجنبوهم شرورها، ويصلحوهم بإصلاحها.
إن لكل خطأ مهما كان أضراره، فالرجل إذا أخطأت الجادة تردى صاحبها في الحفرة أو تعثر بحجر، والمرء إذا أخطأ في تجارته منيت بالبوار، وصاحبها بالخسارة؛ وإذا أخطأ في طعامه وشرابه ولباسه فقد الصحة وعاودته الأوجاع والأسقام. هذه أضرار تنشأ عن الأخطاء، وهي وإن كانت شديدة ولكنها لا تبلغ ضرر خطأ الجماعة في قاعدة اجتماعية، لأن الضرر يكون عاماً بقدر ما في هذه الجماعة من عموم دائم بقدر ما في الخطأ من مكث، بالغ في الشدة بقدر ما في الخطأ من انحراف عن الصواب.
وإن الأمة الإسلامية لها أخطاء في القواعد الاجتماعية تجني منها الألم والحسرة.
وقد رأيت أن أصلح لها خطأ من هذه الأخطاء وأجعل ذلك هدية مني إليها في مستهل هذا العام الجديد.
وسأذكر هذا الأخطاء وإصلاحه بعد أن اذكر بين يديه مقدمة. إن كل شيء في الكون يتنازع الوجود، والبقاء في هذا التنازع للأقوى، وقد كان الفرد قبل تكون الجماعات ينازع الفرد، ثم ألتمس أسباب القوة بالاجتماع، وقد أخذ الاجتماع أشكالاً عدة من الأسرة والعشيرة والبطن والقبيلة، وقد كان النزاع بين الأسرة والأسرة القبيلة والقبيلة نتيجة غلبة الأقوى تبعاً لقانون إنما العزة للكاثر؛ ثم أخذ الاجتماع شكلاً أوسع بالمدينة والمملكة فكان أهل كل مملكة يكونون وحدة مستقلة تجلب لنفسها الخير وتدفع عنها الضير، ثم جاء الدين الإسلامي فكون وحدة إسلامية لم تبلغ وحدة من العظم والتجانس ما بلغته هذه الوحدة. عمل الإسلام على غرس المحبة والتضامن بين أجزاء هذه الوحدة فقال: لن يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وقال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. وقال: ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. أحب المسلم أخاه المسلم وساد على المملكة الإسلامية المحبة والسلام فتعاونوا على جلب المنافع ودفع المضار. لقد آتت هذه الوحدة بالمعجزة الاجتماعية العظمى فقد كان العرب قبل الإسلام ينتقصون من أطرافهم، وكان من بجوار الشام عمالاً للروم، ومن بجوار الفرس عمالاً للفرس.
فلما جاء الإسلام أعز الله به العرب والمسلمين، فلم تمض عشرون سنة من عمره حتى هدد هؤلاء الأقلون المملكتين المتاخمتين الفرس والروم وانتقصوهما من أطرافهما، ثم عقب ذلك أن ورث ملك الأكاسرة ومعظم ملك القياصرة. هذه المعجزة الاجتماعية إذا بحث المرء عن سببها وجدها الوحدة الإسلامية، فقد يدل الإسلام تفرقهم اجتماعاً، وبغضهم حباً، وحربهم سلماً، وبعد أن كان بأسهم بينهم شديداً حول هذا البأس إلى الآخرين، لذلك منَّ الله على المسلمين بهذه الألفة (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبَينَّ الله لكم آياته لعلكم تهتدون). (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) للغرب طمع في الشرق من قديم، وقد غالبه مرات وهو يخفق.
قامت الحروب الصليبية، ونزح الغرب على الشرق وهاجمه في عدة من ثغوره وبلدانه ولكنه لم تجده هذه المحاولة وهذه المهاجمة، فعاد إلى الحيلة ورأى أنه يستطيع أن يدرك بالحيلة ما عجزت عنه القوة. الغرب عالم واسع العلم لا يسير إلا ومصباح العلم أمامه يهديه السبيل، ويبصره مواقع أقدامه، نظر إلى الجسم الإسلامي فرأى أنه ليس يضيره أن يبتر منه عضو من أعضائه.
إنما الذي يضير ويقدره عليه هو إضعاف روحه؛ وقد رأى روحه الوحدة الإسلامية فعمد إليها وسماها تعصباً دينياً ممقوتاً، وسمى التعاون الديني تعصباً إسلامياً همجياً، وأسبغ عليه ما شاء من نعوت الذم والوحشية، فدخل ذلك على الشرق - وهنا وصلنا إلى ما نريده من الخطأ الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية - فآمنت بنظرية الغرب، وسمتها تعصباً دينياً، وخجلت من أن توصم بالتعصب الديني، فتركت هذه الوحدة المقدسة، ونفرت من هذا التعاون الإسلامي، فلما ضعفت الروح سهل التغلب على الجسم. كان على المسلمين أن يعلموا أنه لا مقاومة في الوجود إلا بوحدة.
وقد ظهرت هذه الوحدة بمظاهر مختلفة منها الوحدة الجنسية ومنها الوحدة الوطنية، ومنها الوحدة الدينية، وإذا استمسك الغرب بالوحدة الجنسية أو الوطنية لما فيها من الإقدار على الكفاح في هذه الحياة، فعلى المسلمين أن يستمسكوا بما صبوا فيه من وحدة إسلامية ليقدروا أيضاً على الكفاح في هذه الحياة. كان على المسلمين أن يعلموا أن التعصب الديني موجود في أمم الغرب التي تعيب المسلمين بالتعصب الديني، يظهر ذلك في أعمالهم وكثير من نواحي حياتهم، وأقرب ذلك تطوع بعض الأوربيين والأمريكيين في جيوش الأسبانيين، والفرنسيين ضد الريفيين المسلمين الذين كانوا يدافعون عن وجودهم، فلو أن التعاون الديني كان نقيصة كما يزعمون لما نهوا عنه غيرهم وأتوه هم. كان على المسلمين أن يعلموا أن الوحدة الجنسية والوطنية في أوربا قد أتت من الفظائع ما لم تأت بمثله ولا بأقل منه الوحدة الإسلامية في الإسلام، وآية ذلك معاملة الألمان لليهود، وتلك الحروب الطاحنة تؤجج نارها العصبيات القومية أو الجنسية.
ليس في الوحدة الدينية ما يمكن أن تؤخذ به إلا أنه قد يكون في الوطن الواحد أديان مختلفة؛ والوحدة الدينية ربما عادت بين هذه الوحدات، ولكن الإسلام قد احتاط لذلك، وأوصى المسلمين بهم وأوجب أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. حافظ الإسلام على أهل الذمة وذوي العهود والمواثيق من ذوي الأديان المخالفة (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون). على الأمم الإسلامية أن تقلع بعد اليوم عن هذا الخطأ وأن تعلم أنها وقعت فيه بعض تلك الموجات التي تغمر الأمم فتلهيها عن مصالحها، ولا يخافن أهل الذمة في بلاد المسلمين وذوو العهود مع المسلمين من إحياء الوحدة الإسلامية فأنها تقوي جيرانهم وأهل عهدهم ولا تصيبهم بأذى لأن الإسلام كما قدمت يوصي بأهل الذمة وبالوفاء بالعهود. محمد عرفة

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢