أرشيف المقالات

قوة هذا الدين

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2قوة هذا الدين
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.   تتَّفِق الرسالات السماوية - ومن بينها الإسلام - في الحق الذي تحمله؛ لأنها جميعًا من مصدر حق واحد، هو الله - سبحانه.   إلا أن الإسلام يتميَّز من بين سائر هذه الرسالات بقوَّة عظيمة مذهلة لا مثيل لها، فقد تعرَّض الإسلام لمحن كثيرة مختلفة، إلا أنه تغلَّب عليها واحدة تلو أخرى، وكان يخرج دائمًا من كل محنة وهو أقوى صلابة وأرسخ ثباتًا، على حين أن الشرائع السماوية التي نزلت قبله لم تستطع أن تتصدَّى لأعدائها، فاضمحلت واندثر أصلها المنزَّل، ولم يبقَ فيه شيء يُذكَر، على الرغم من أن المحن التي تعرَّضت لها كانت أقل وأهون كثيرًا من المحن التي تعرَّض لها الإسلام، فما سر ذلك؟   لا شك أن في هذا الدين قوة، وأنها متأتية من أن الله - سبحانه - تعهَّد بحفظه ونشره بين الناس، ولم يتعهد بحفظ الشرائع السابقة، ولولا ذلك لاندثر الإسلام؛ لعظم المصائب التي ابتُلي بها، كما اندثر أصل كل رسالة قبله، فليس في الإسلام حق فحسب، بل بجنب ذلك قوة ربانية حَمَت هذا الحقَّ من العواصف التي هبَّت عليه، وسجلت له مآثر في كل جولة من جولات التحدي.   في هذا الدين قوة متأتية من قوة الله؛ لأنه دين الله؛ لذلك اصطفى الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - سيِّد أُولي العزم من الرسل أن يكون نبي هذا الدين، فقد جاء إليه سادات قريش وكُبَراؤها من المشركين ليساوِموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر ترك دعوته، وقدَّموا بين يديه أعظم المغريات؛ فإن شاء الغِنَى، جمعوا من أموال أغنيائهم حتى جعلوه أغناهم، وإن كان يسعى للسيادة، جعلوه سيدهم وملكهم، ولا يصدرون إلا عن رأيه، وتوسَّطوا عند عمه أبي طالب؛ ليرضى بهذه الصفقة، فكان جوابه - صلى الله عليه وسلم -: ((والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الدين، ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلِك دونه))، فقد استمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الدين قوةً جابَهَ بها أعتَى طواغيت الدنيا وأعتَى مغرياتها.   وحين تولَّى أبو بكر - رضي الله عنه - الخلافة ارتدَّت قبائل عربية عن الإسلام بقيادة مُسيلمة الكذاب، فاستفحلَّ أمرهم، وكثرت أنصارهم، وقويت شوكتهم، حتى إن عمر - رضي الله عنه - الذي تميَّز من بين الصحابة بشدته لان تُجاهَهم، وأشار مع نفر من الصحابة إلى عدم قتالهم؛ لئلا تتسع الفتنة، إلا أن أبا بكر - رضي الله عنه - شعر لتولِّيه الخلافة أنه قد أصبح المسؤولَ الأوَّل عن أمر هذا الدين، فاستعان الله ليكون بمستوى هذه المسؤولية، فأيَّده بالقوَّة والعزم، حتى صاح بوجه عمر - رضي الله عنه -: أمغوار في الجاهلية، خوار في الإسلام؟! والله، لو منعوني عَناقاً[1] كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه، فقاتلهم بقوة الله وبتأييده، فقتل مسيلمة وهزم جيشه، وأنقذ الأمة الإسلامية من خطر فتنة كادت تقوِّض أركان دولة التوحيد، حتى جاء عمر - رضي الله عنه - فقبَّل رأس أبي بكر - رضي الله عنه - وقال: إنا فداؤك؛ لولاك لهلَكنا.   وقد أحس بقوة الإسلامِ المشركون أنفسهم يوم كان الإسلام فتيًّا قليل الأنصار، فقد جاء الوليد بن المغيرة الذي كان كأبي جهل في محاربته للإسلام، جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرض عليه أن يتخلَّى عن معاداة أصنامهم، فلم يكلِّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل قرأ عليه سورة فُصِّلت حتى إذا بلغ قوله - تعالى -: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]، فإذا بالوليد بن المغيرة ترتعدُ فرائصه، ويضع يديه على رأسه خشية أن تنزل عليه صاعقة من السماء تصعقه، ويطلب من رسول الله أن يَكُفَّ ولا يستمر في قراءته، فقد شعر وهو يسمع صوت القرآن بصدق هذا الدين وقوته، واشتد خوفه منه، فجعلت ترتعش بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكتافه.   وقد شعر كذلك بهذه القوة الربانية عند هذا الدين أهلُ الكتاب، فقد قدِم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد نصارى نجران، وكانوا ستين راكبًا، منهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وأمر هؤلاء الأربعة عشر يؤول إلى ثلاثة منهم؛ وهم: العاقب، واسمه عبدالمسيح، وكان أمير القوم وصاحب مشورتهم، والسيد: وهو الأيهم، وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم، وأبو حارثة بن علقمة، وكان أُسقُفَّهم وصاحب مدارستهم، وكان رجلاً من العرب من بني بكر بن وائل، لكنه تنصَّر فعظَّمته الروم وملوكها، وشرفوه وبنوا له الكنائس؛ لما يعلمونه من صلابته في دينهم، وكان هذا الوفد من نصارى نجران جاؤوا ليحاجُّوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر المسيح عيسى ابن مريم، فهم يقولون هو الله، ويقولون هو ابن الله، ويقولون هو ثالث ثلاثة، وفي شأن هذه المحاججة في أمر عيسى - عليه السلام - أنزل الله قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 61]، والمباهلة هي الملاعنة، وهي أن يجتمع الفريقان بأبنائهم ونسائهم ورجالهم، ثم يدعو كل فريق منهم الله أن ينزل اللعنة والعذاب على الفريق الظالم والكاذب، وفي حديث ابن عباس: مَن شاء باهلتُه أن الحق معي، فلما عرَض عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المباهلة ليعرف بها من هو الظالم والكاذب، تردَّدوا؛ لذلك قالوا له: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه، ثم اختلوا بالعاقب فاجتمعوا به، وكان أمير رأيهم، فقالوا: يا عبدالمسيح، ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى، لقد عرفتم أن محمدًا لنبيٌّ مرسل، ولقد جاء بالفصل من خبر صاحبكم عيسى - عليه السلام - ولقد علمتم أنه ما لاعن قومٌ نبيًّا قط إلا هلك كبيرهم وصغيرهم، وأنه الاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم أبَيْتُم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم عيسى بأنه هو ابن الله، أو هو الله، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.   فأتَوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا أن لا نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا.   وفي تفسير ابن كثير: قال الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال أبو جهل - قبَّحه الله -: إن رأيتُ محمدًا يُصلِّي عند الكعبة لأتيته حتى أطأ على رقبته، فقال: لو فعل لأخذته الملائكة عيانًا، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً، وقد رواه البخاري، والترمذي، والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح.   وفي تفسير ابن كثير أيضًا أن أميرَي وفد نجران العاقبَ والسيدَ أبَيَا أن يباهِلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقرَّا له بالاستسلام وبدفع الجزية والخراج، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي بعثني بالحق لو قالوا: (لا)، لأمطر عليهم الوادي نارًا))، والمعنى أنهم لو باهلوه أو رفضوا الاستسلام ودفع الجزية والخراج، لأمطر الله عليهم نارًا وأبادهم عن آخرهم؛ بيوتهم وأموالهم وأهليهم وأولادهم.   فقد تراجعوا؛ لأنهم لم يدركوا فحسب أن الحق مع الإسلام، بل أدركوا أيضًا أن معه قوة الله وتأييده، فمَن خاصمه فقد خاصم الله، ويا ويله عندئذٍ من بطش الله.   والمعروف في علم الاجتماع والتاريخ أن دين الأمم الغالبة هو الذي يؤثر في عقيدة شعوب الأمم المغلوبة، فالمرء يشعر باليأس من دينه حين يشعر أنه ينتمي إلى دين أُمة قد هُزمت أمام خصمها، ولا سيما إذا كانت الهزيمة نكراء، ويعظِّم ويميل إلى دين الأمة المنتصرة.   فقد هُزِمَت الأمة الإسلامية في جولات عبر التاريخ أمام أعدائها من الأمم الأخرى، إلا أن دين هذه الأمة لم يُهزَم في قلوب أتباعه، وما ازداد إلا رسوخًا، بل حصل ما يُعَد معجزة للإسلام، فبدلاً من أن يتزعزع الإسلام في نفوس المسلمين المهزومين إذا به نجده يدخل في قلوب قادة أعدائه المنتصرين، فبعد سقوط الخلافة العباسية غزت جيوشُ المغول التتار البلاد الإسلامية، وكانت هذه الجيوش تدين بديانات وثنية، وكان من عقيدتهم أن كل فرد منهم يكون عدد خدمه في اليوم الآخر بعدد ما يقتل من المسلمين ويمثِّل فيهم؛ لذلك راحوا يقتلون المسلمين شيوخاً وأطفالاً ونساءً ظفروا بهم، بوازع دينهم الوثني، ودمروا المدن الإسلامية وحضارتها، وكانت من بينها بغداد عاصمة الخلافة العباسية، ورموا بما تحتوي عليه مساجدُها من مخطوطات في علوم دينية وإنسانية وعلمية مختلفة، رموا بها في نهر دجلة، حتى روي أنه لكثرتها اتخذ منها عليه جسر، وتغير ماء لونه، هؤلاء الذين غزونا باسم الوثنية وقتلوا الأنفس، وسفكوا الدماء، وهتكوا الأعراض، وخربوا المدن، هؤلاء أنفسهم بعد فترة من حكمهم، فإنهم بدلاً من أن ينشروا بيننا وثنيَّتهم تُسلِم قادتهم وملوكهم، وكان من بينهم محمود غازان، وبعد أن اعتنقوا الإسلام وجعلوه دين الدولة الرسمي، ندِموا على ما اقترفه أسلافهم بحقه وحق حضارته وأبنائه، فأرادوا أن يكفِّروا عن ذنوبهم وذنوب أجدادهم، فأكثروا من بناء المساجد والمدارس الدينية، وإكرام علمائها، وبناء المؤسسات الخيرية، بل لم يكتفوا باعتناق هذا الدين، بل راحوا يدعون إليه الأمم الأخرى، فكانوا هم الذين نشروا الإسلام في بلاد الهند وأنشؤوا إمارات إسلامية في بلاد القوقاز - المحصورة بين البحر الأسود وبحر قزوين التي من آثارها اليوم الشيشان وداغستان - وقد كان لإنشاء هذه الإمارات أثر في حمايتنا من غزوات أخرى، فقد حالت مثلاً دون توغُّل القياصرة في البلاد الإسلامية.   وبعد أربعة عشر قرنًا من نزول الإسلام لم يزل أعداؤنا يشعرون بقوة دينِنا، فقد صرح مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952م، بأنه ليس هناك نظام في هذه الدنيا يهدِّد كيان أوروبا ونظامها إلا الإسلام، وما قاله: "ليست الشيوعية خطرًا على أوروبا فيما يبدو لي، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديدًا مباشرًا وعنيفًا هو الخطر الإسلامي"، ثم ذكر بعد ذلك أن الإسلام عملاق عظيم إلا أن أهله نائمون، فلنسعَ جميعًا إلى بقائهم نائمين؛ لأنهم إذا نهضوا وحملوا معهم لواء الإسلام، كان ذلك إنذارًا يهدِّد أوروبا بأسرها.   فبعد الأخذ بالأسباب المادية ليس للعرب ولا للأمة الإسلامية من قوة تستند إليها إلا الإسلام.
بعد نكسة حزيران في حرب 1967 مع إسرائيل ذهَب وفد عسكري مصري للتباحث مع زعماء السوفييت حول تزويد مصر بما افتقدته من أسلحة ومعدَّات حربية في أثناء الحرب، والتقى الوفد بعددٍ من العسكريين السوفييت ومن بينهم وزير الدفاع السوفييتي مالينوفسكي، قال الوفد المصري بالحرف الواحد: إننا لم نستطع أن نستعمل الأسلحة التي اشتريناها منكم؛ لأنها كانت جديدة علينا؛ ولهذا خسرنا المعركة، فما كان جواب مالينوفسكي إلا أن رد عليهم بقوله: لقد انتصر أجدادكم على الفرس والروم بسيوف صادئة قديمة رديئة، وقد علمتني التجارب والوقائع - وأنا في هذا المنصب - بأنه لا شيء يساوي القوة المعنوية في الأمة، ويعد الإسلام أعظم قوة معنوية ملكتها أو تملكها أية أمة كانت.   اللهم امنح هذه الأمة قوة من عندك بردِّها إلى دينك ردًّا جميلاً، اللهم آمين!


[1] العَناق - بفتح العين -: هو الأنثى من الماعز، وروي: عِقال بعير - بكسر العين -: وهو الفَتِي من الإبل.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢