أرشيف المقالات

أثر نظام الحسبة في تحقيق الاحتشام وصيانة السلوك العام

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2أثر نظام الحسبة في تحقيق الاحتشام وصيانة السلوك العام[1]
اللهم لكَ الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.صلِّ وسلم على مَنْ أرسلته رحمة للعالمين، وهداية للحائرين، وأماناً للخائفين.
وعلى آله الأطهار، وصحبه الأخيار.
ووفقنا - اللهم- لما تحبُّ من القول والعمل.
وبعدُ: ففي البدء لا بُدَّ لي من الثناء والدعاء لمن كان السببَ في هذا الاجتماع الخيِّر، والسببُ الأولُ مَنْ رسم بلزوم الاحتشام ومراعاة السلوك العام، ثم الذين سرَّهم هذا المرسومُ، ولمسَ حاجات صدورهم، فتنادوا إلى تأييده، ودراسته، وتعميقه، وتجذيره، وأولُ الغيث - بإذن الله - قطرٌ ثمَّ ينهمر.
أريد الكلام - على عجلٍ- في ثلاث نقاط: النقطة الأولى: أنَّ ممّا يلزمُ الإمامَ من الأمور العامة - كما قرَّره العلماء - عَشَرَةُ أشياء: « أحدها: حفظُ الدِّينِ على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلفُ الأمة، فإنْ نَجَمَ مبتدعٌ أو زاغ ذو شبهةٍ عنه أوضح له الحجة وبيَّن له الصواب، وأخذه بما يلزمُهُ من الحقوق والحدود، ليكون الدينُ محروساً من خلل، والأمةُ ممنوعةً من زلل.
ومنها: إقامةُ الحدود لتُصانَ محارمُ الله تعالى عن الانتهاك، وتُحفظَ حقوقُ عباده من إتلافٍ واستهلاك »
[2].
و« غيرُ خافٍ أنَّ ممّا جَرَتْ عليه أمورُ العالم، واستمرت عليه عاداتُ الأمم أنه لم تكن مملكةٌ إلا كان أسها ديانة من الديانات، وأصلها ملة من الملل، عليها بُنيتْ شرائطها وفروعها، وجرتْ أحكامها وحدودها »[3].
وهذا المرسوم الذي نجتمع لتدراسه نابعٌ إنْ شاء الله من هذا المعين.
والرجل الرجل مَنْ قام بأمر الدِّين والدنيا، ونظر إلى آخرته، و«السعيد مَنْ وقى الدين بملكه، ولم يوق الملكَ بدينه، وأحيى السُّنةَ بعدله، ولم يمتها بجوره، وحرس الرعية بتدبيره، ولم يضعها بتدميره، ليكون لقواعد ملكه موطِّداً، ولأساس دولته مشيِّداً، ولأمر الله في بلاده ممتثلاً »[4].
النقطة الثانية: عن ورقتي المقدَّمة المعنونة بـ: «أثر نظام الحسبة في تحقيق الاحتشام وصيانة السلوك العام».
والواقع أنني بعد صدور هذا المرسوم شعرتُ أنَّ الكرة - كما يُقال- أصبحتْ في ملعبنا، فكيف سيُطبَّق هذا المرسوم في وسطٍ وفي وقتٍ فيهما الكثيرُ من المتغيرات والمعطيات، وخَطَرَ لي أن أعود إلى نظام الحسبة لأرى تجربتَه في هذه الناحية.
ففكرة هذه الورقة استقراءُ ما تناولتْه كتبُ الحسبة، والفصولُ المخصصة لها في هذا الجانب وإبرازه، وبيانُ ما قدَّمه هذا النظام من تعليمات وقواعد وتدابير نظريةٍ للحفاظ على الاحتشام وصيانة السلوك العام، وكنتُ أودُّ - لولا ضيق الوقت- استخراجَ الجانب التطبيقي ممّا نجده مبثوثاً في ثنايا كتب التاريخ، لنرى أثرَ هذا النظام في الواقع المعيش.
وهذا الجانب التطبيقي جديرٌ بالعناية والاهتمام جدارةَ الاهتمام بالمحتسبين أنفسِهم الذين لا نجدُ معجماً أو ديواناً يضمُّهم، وهم الرجال المجاهدون الأوفياء لدينهم وأمتهم، الذين حافظوا على نقاء مدائن الإسلام ومواطنه، وأبقوا على صورتها الإسلامية المتميزة جمالَ مظهرٍ وطهارةَ مخبَر.
ولعلَّ مركزَ بحثٍ أو جهة علمية تقومُ بهذا الواجب، وتستدركُ هذا النقص في المكتبة.
مصادر الورقة الأساسية تبدأ من الماوردي البصري، مروراً بالغزالي الطوسي، وابن بسّام، والشيزري، وابن الإخوة القرشي المصري، وابن الديبع الشيباني اليمني.
وتناولت الورقة ستَّ فقراتٍ دارتْ على الحسبة في مسائل اللباس، والاحتشام في الأماكن العامة، وأماكن العبادة والإرشاد، وحرمة البيوت، والاحتشام في تسوُّق النساء، ومسائل أخرى كالتعليم، والبيع والشراء، ووسائل النقل.
النقطة الثالثة: في بعض الصور الطريفة من معالجة كتب الحسبة لهذا الموضوع المهم: • فمن ذلك مراقبة مَنْ يتزيا مِنَ الرجال بزي النساء، أو يمشي عاريَ الصدر أو الظَهْر في الطرقات والأسواق.
• ومنها إلزامُ السَّقائين والبنّائين والفعلة بلباس التبابين، لاضطرار السَّقائين إلى وضع ملابسهم أو رفعها عند موارد المياه، ولما قد يعرو البنائين والفعلةَ من التعرِّي في الطلوع والنزول، والانكشافِ أمامَ بعضهم، أو مَنْ يكون تحتَهم.
• ومنها اشتراطُهم أن يكون لصاحب الحمام مآزرُ يؤجِّرها أو يعيرُها للناس لوجود غرباء وفقراء يحتاجون إليها، وليس هذا فحسب، بل أنْ تكون عريضةً أيضاً حتى تستر ما بين السُّرة إلى الركبة.
• ومنها منعُهم صنّاع الأحذية النسائية مِن استخدام ما يسبِّب الصوتَ عند المشي، وهذه لفتة مهمة، وأعرف طالباً في كليةٍ مختلطةٍ، كان صوتُ نعلِ طالبةٍ معهم يعنِّيهِ ويؤذيهِ حتى كان هذا سبباً مِنْ جملة أسبابٍ اضطرته إلى ترك الدراسة!
• ومنها أمرُ المؤذِّنين ومعاهدتُهم على غضِّ البصر عن حريم الناس ودُورهم، وألا يصعد إلى المنارة غيرُهم، ومن اللطائف ما ذُكِرَ أنَّ محتسباً في الكوفة لم يترك مؤذِّناً يؤذِّن في منارةٍ إلا معصوب العينين! وكان هناك مَنْ يقول: ليتني في المؤذنين نهاري إنّهم ينظرون مَنْ في السطوحِ فيشيرون أو تشيرُ إليهم في الهوى كلُّ ذاتِ دَلٍّ مليحِ![5]   • ومنها منعُهم طبّاخي الولائم من الدخول على النساء وتقديم الموائد لهن.
• ومنها كلامُهم على مُستَخْدَمي الطحّانين والفرّانين والقضاة ألا يَستخدم الطحانون إلا ثقة أميناً عفيفاً على المفاسد، فإنّه يدخل بيوت الناس ويخاطِب أولادَهم وجواريهم.
• وأن يكون غلمانُ الفرّانين الذين يحملون أخبازَ الناس إلى البيوت دون البلوغ.
• وأن لا يبعث القاضي لإحضار امرأةٍ شاباً حسنَ الصورة.
• ومنها تحليفُهم صانعي المفاتيح بما لا كفارةَ لهم منه أنْ لا يعملوا لرجلٍ ولا لامرأةٍ مفتاحاً على مفتاح إلا أن يكونا شريكين مشهورين.
• ومنها توصية المُحتسب بتفقُّد المواضع التي يجتمع فيها النساءُ، مثل سوق الغزل والكتّان، وشطوط الأنهار، وأبواب حمامات النساء، فإنْ رأى شاباً متعرِّضاً لامرأة ويكلِّمها في غير معاملة في البيع والشراء، وينظر إليها عزَّرهُ ومنعهُ من الوقوف هناك.
• ومنها عدمُ تمكين مزاولة بيع الكتّان والمرادن إلا مَن كان معروفاً بالأمانة والصيانة والعفة والصلاح، لأنَّ أكثر معاملتهم مع النساء.
• واشتراطُهم عليهم ألا يمكِّنوا النساء من الجلوس على أبواب الحوانيت من غير حاجة، بل يذهب بعضُهم إلى إلزامهم بوضع حجبٍ وأقفاص ليكونوا غير متلامسين.
• ومنها ضرورة الفصل بين الرجال والنساء في السُّفن، وهذه هي-أي السفن- الوسيلة التي يتم فيها الاختلاط سابقاً، فينسحبُ هذا الآن على سائر وسائل النقل.
وبعد مرة أخرى: فإنَّ الاحتشام يمنع المجتمعَ من الحوادث والكوارث، وصيانةُ المرء لنفسه ولغيره من الواجبات، وقد قيل: والمرءُ ما دامَ ذا عينٍ يقلِّبها في أعينِ العِين موقوفٌ على الخطر[6]   وقيل: ولما رآني العاذلون متيَّماً كئيباً بمَنْ أهوى وعقلي ذاهبُ رثوا لي وقالوا: كنتَ بالأمسِ عاقلاً أصابتكَ عينٌ؟ قلتُ: عينٌ وحاجبُ[7]   نعوذ بالله من ذهاب العقول، وإصابات العيون.
وطريقُ السلامة من هذا الأخذُ بأسباب الاحتشام، والتمكين لأحكام الله بين الناس.
وعلى الدوائر والأفراد - كلٌّ في موقعه - العملُ على هذا من أجل الواقع والمستقبل، في الدنيا والآخرة.
وأُوصي - في الختام - بضرورة الإفادة مِنْ تجربة نظام الحسبة في هذا المجال، فإنَّ هذا النظام استجابَ لتحدياتِ عصرهِ ومعطياتهِ، وحاولَ أنْ يقدِّمَ الحلول، واجتهد في ذلك.
ولعل من الممكن إحياءَه، والإفادةَ من تجربته، مع المراعاة الأكيدة لفوارق الزمان والمكان، ولا شك أنَّ هذا النظام لم يواجِهْ الصعوباتِ المتوقعةَ في هذا العصر.
والله المستعان، وله الحمد أولاً وآخراً.


[1] ألقيت هذه الكلمة في ندوة «الاحتشام والسلوك العام» التي عقدتها كلية الشريعة بجامعة الشارقة بالتعاون مع مجلة الشقائق في 6-7 شعبان 1422 هـ الموافق 23-24 أكتوبر 2001م بعد صدور مرسوم أميري في الشارقة يقنّن الاحتشام والسلوك العام.
وهي ملخصُ البحث المقدَّم إليها بالعنوان المذكور. [2] الأحكام السلطانية ص 51. [3] نصيحة الملوك ص 85. [4] تسهيل النظر وتعجيل الظفر ص 151. [5] ربيع الأبرار (1/271). [6] البيت من أبيات نسبها ابن الجوزي في «ذم الهوى» ص 101 إلى عبد المحسن الصوري. [7] رأيتهما على ظهر نسخة خطية من «ديوان ابن الفارض» في دار المخطوطات ببغداد، ثم رأيتُهما في «النجوم الزاهرة» في تراجم وفيات 572 هـ، ولم يعين قائلهما.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير