أرشيف المقالات

من أهداف الدعوة في الوقت الحالي : الدعوة إلى التوحيد (2)

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2أهداف الدعوة في الوقت الحالي الدعوة إلى التوحيد (2)
3- العبادة (العبودية): معنى العبادة: يقول القرطبيُّ - رحمه الله تعالى -: وأصل العبودية: الخضوعُ والذُّل، والتعبيد: التذليل، يقال: طريق مُعبَّد، والعبادة: الطاعة، والتعبُّد: التنسُّك[1].   ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: العبادة: تجمعُ أصلين: غاية الحب بغاية الذُّل والخضوع؛ فمن أحبَبْتَه ولم تكن خاضعًا له، لم تكن عابدًا له، ومن خضعتَ له بلا محبة، لم تكن عابدًا له، حتى تكون محبًّا خاضعًا..[2].   وفي كتاب "فتح المجيد": العبادةُ هي طاعة الله؛ بامتثال ما أمر الله به على ألسنة رسله، وهي أيضًا: اسمٌ جامع لكل ما يحبُّه الله ويرضاه؛ من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، وعبادتُه هي طاعته، بفعلِ المأمور، وتَرْك المحظور، وذلك هو حقيقة دِين الإسلام[3].   وقوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، بيانٌ للحكمة الشرعية الدِّينية، فمعنى الآية: أن اللهَ أخبر أنه ما خلَق الجنَّ والإنس إلا لعبادته؛ فمن أطاعه جازاه أتمَّ الجزاء، ومن عصاه عذَّبه أشد العذاب، ويُشبِه هذه الآيةَ قولُه تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 64]، ثم قد يُطاع وقد يُعصى، وكذلك ما خلَقهم إلا لعبادتِه، ثم قد يَعبدون وقد لا يَعبدون، وهو سبحانه لم يقُل: إنه فعَل الأول: وهو خَلْقُهم، ليفعل بهم كلهم الثاني: وهو عبادته، ولكن ذكر أنه فعَل الأولَ؛ ليفعلوا هم الثاني، فيكونوا هم الفاعلين له، فيحصل لهم - بفعله - سعادتُهم، ويحصل ما يحبه ويرضاه منه ولهم، ويشهد لهذا المعنى ما تواترت به الأحاديثُ؛ فمنها ما أخرجه مسلمٌ في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول اللهُ تعالى لأهونِ أهل النار عذابًا: لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلُها معها، أكنتَ مفتديًا بها؟ فيقول: نَعم، فيقول: قد أردتُ منك أهونَ من هذا وأنت في صُلب آدم: ألا تشركَ، ولا أُدخلك النار، فأبيتَ إلا الشركَ))، فهذا المشركُ قد خالف ما أراده الله تعالى منه، وهذه هي الإرادة الشرعية الدِّينية، ثم يقول كلامًا مهمًّا: فبين الإرادةِ الشرعية الدِّينية والإرادة الكونية القدرية عمومٌ وخصوصٌ مطلَق، يجتمعان في حق المخلِص المطيع، وتنفردُ الإرادة الكونية القدرية في حقِّ العاصي، فافهَمْ ذلك تَنْجُ من جهالات أربابِ الكلام وتابعيهم[4].   ويتضحُ مما سبق أن العبادةَ هي طاعةُ الله فيما شرَع وقضى وحكَم، وأحَلَّ وحرَّم، وأنه - سبحانه وتعالى - خلَق الخلْق لينقادوا لشرعِه وحُكمه وحده، ويجتنبوا ويرفضوا عبادةَ غيره من الأمراء، أو الأحبار والرهبان فيما يشرعون أو يحكمون؛ فقد جاء في تفسير قولِه تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31]: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآيةَ على عديِّ بن حاتم الطائيِّ فقال: يا رسول الله، لسنا نعبُدُهم، قال: ((أليس يُحِلُّون لكم ما حرَّم الله فتُحلونه، ويُحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه؟))، قال: بلى، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((فتلك عبادتُكم إياهم، أو فتلك عبادتهم))[5]، يقول ابن كثير: ولهذا قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا ﴾ [التوبة: 31]؛ أي: الذي إذا حرَّم الشيء، فهو الحرام، وما أحله فهو الحلال، وما شرَعه اتُّبِع، وما حكَم به نفَذ[6].   ومن هنا يتبين أن طاعةَ الأحبار والرهبان فيما يحلُّون أو يحرمون شِركٌ بالله تعالى؛ ولهذا كانت طاعةُ "أولي الأمر" - من العلماء والأمراء - في المعروف، ولا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق سبحانه؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59]، يقول الشيخ السعدي: أمَر بطاعته، وطاعة رسوله، وذلك بامتثال أمرِهما؛ الواجب والمستحب، واجتناب نهيِهما، وأمَر بطاعة أولي الأمر، وهم: الولاةُ على الناس؛ من الأمراء والحكَّام والمُفْتين؛ فإنه لا يستقيم للناس أمرُ دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم؛ طاعةً لله، ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله، فإن أمَروا بذلك، فلا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق، ولعل هذا هو السرُّ في حذف الفعل عند الأمرِ بطاعتهم، وذكره مع طاعة الرسول؛ فإن الرسولَ لا يأمُرُ إلا بطاعة الله، ومن يُطِعْه فقد أطاع الله، وأما أولو الأمر، فشرط الأمر بطاعتهم ألا يكون معصية[7].   وفي تفسير هذه الآية يقول القرطبيُّ - رحمه الله تعالى -: لَمَّا تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58]، وبدأ بهم فأمَرهم بأداء الأمانات، وأن يَحكُموا بين الناس بالعدل، تقدم في هذه الآيةِ إلى الرعية، فأمر بطاعته أولاً، ثم بطاعة رسوله ثانيًا، ثم بطاعة الأمراء ثالثًا، وقال ابن خويز منداد: وأما طاعةُ السلطان، فتجب فيما كان لله فيه طاعةٌ، ولا تجب فيما لله فيه معصية؛ ولذا قلنا: إن ولاةَ زماننا لا تجوز طاعتُهم، ولا معاونتُهم ولا تعظيمهم - رحم الله الشيخَ، فما بال أهل زماننا؟! - والآية نزلت في عبدالله بن حُذافة؛ إذ بعثه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في سَرية، وكانت فيه دعابة معروفة، ومِن دعابته أمَرهم أن يجمعوا حطبًا ويوقدوا نارًا، فلما أوقدوها أمَرهم بالتقحُّم فيها، وقال لهم: ألم يأمُرْكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟ وقال: ((من أطاع أميري، فقد أطاعني))؟ فقالوا: ما آمنا باللهِ واتَّبعنا رسولَه إلا لننجوَ من النار، فصوَّب الرسولُ صلى الله عليه وسلم فِعلهم، وقال: ((لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق))[8].   ومجمل القول في العبادة أن الذي خلَق ورزق وبرأ وأحيا وأمات، هو وحده صاحبُ الأمر والنهي، هو الأحقُّ وحده أن يطاعَ، ويحكُمَ ويقضيَ، ويأمر وينهى، ويشرع، هو المعبود بحقٍّ، فلا معبودَ بحق سواه؛ قال تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، يقول الشيخ السعدي: فالخلق يتضمَّنُ أحكامه الكونية القدرية، والأمر يتضمن أحكامه الدِّينية الشَّرعية، ومن ثَم أحكام الجزاء؛ وذلك يكونُ في دار البقاء.   4- معنى الإيمان: لغة: التصديقُ الباطن. شرعًا: إما أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذِكْر الإسلام، والحالة الثانية أن يكونَ مقترنًا بذِكْر الإسلام. الحالة الأولى: أن يطلقَ على الإفراد غير مقترن بذِكْر الإسلام، فيُراد به الدِّين كله؛ كما في قوله تعالى في سورة الأنفال: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 2 - 4].   وقد فسَّر الله تعالى "الإيمان" في قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]، وقد ذكَر ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: أن أبا ذرٍّ سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ فتلا عليه قولَ الله: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 177] الآيةَ، ثم سأله أيضًا فتلاها"[9]، وفي الصحيحِ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((الإيمان بضعٌ وستُّون شُعبة، والحياء شعبة من الإيمان))[10]، والإيمان: اعتقادٌ وقول وعمل، والأعمال كلها داخلةٌ في مسمى الإيمان، وكتَب عمر بن عبدالعزيز إلى الأمصار: أما بعد، فإن الإيمانَ فرائضُ وشرائع؛ فمَن استكمَلها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، وهذا المعنى هو الذي أراد البخاريُّ إثباتَه في كتاب الإيمان، وعليه بوَّب أبوابه كلها، فقال: "باب أمورِ الإيمان"، وباب: "الصلاة من الإيمان"، وباب: "الجهاد من الإيمان"، وأراد بذلك - رحمه الله - الردَّ على أهل البدع ممن قال بأن الإيمانَ مجردُ التصديق فقط[11].   الحالة الثانية: أن يطلق الإيمان مقرونًا بالإسلام، وحينئذٍ يفسَّرُ بالاعتقادات الباطنة؛ كما جاء في حديث أنسٍ - عند أحمدَ - عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((الإسلامُ علانية، الإيمان في القلب))، والحاصل - كما يقول الشيخ ابن الحَكَمي -: إذا أُفرِد كلٌّ من الإسلام والإيمان بالذِّكر، فلا فرق بينهما حينئذٍ، بل كلٌّ منهما على انفرادِه يشمل الدِّين كله، وإن فُرِّق بين الاسمين كان الفرقُ بينهما بما في هذا الحديث الجليل، والمجموع مع الإحسان هو الدِّين؛ كما سمى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك كله دينًا، وبهذا يحصل الجمعُ بين هذا الحديث وبين الأحاديث التي فيها تفسير الإيمان بالإسلام، والإسلام بالإيمان، وبذلك جمَع بينه وبينها أهلُ العلم[12].   من كتاب: "البصيرة في الدعوة إلى الله"


[1] تفسير القرطبي، دار الشعب، جزء 9، ص 6226. [2] مدارج السالكين، المكتب الثقافي، جزء 1، ص 77. [3] فتح المجيد، دار الفكر، ط6، 1977م، ص 18. [4] المرجع السابق ص 19. [5] المرجع السابق ص 104. [6] تفسير ابن كثير - طبعة الحلبي، جزء 2، ص 349. [7] تيسير الكريم الرحمن ص 183. [8] تفسير القرطبي جزء 3، ص 1829. [9] تفسير ابن كثير، الحلبي: ص 207. [10] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، رقم 9. [11] معارج القبول، جزء 2، 20 - 21. [12] السابق ص 22 - 23.



شارك الخبر

المرئيات-١