أرشيف المقالات

أساليب الدعوة

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
2أساليب الدعوة   قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].   ولعلَّ من الأولى والأجدر ضبطَ مفهوم ومعنى الآية الكريمة من خلال أقوال المفسرين واستدلالاتهم واستنباطاتهم: • يقول القرطبي - رحمه الله تعالى -: (في الآية مسألة واحدة: هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعوَ إلى دين الله وشرعِه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يُوعَظ المسلمون إلى يوم القيامة؛ فهي مُحكَمة في جهة العصاة من الموحِّدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين، وقد قيل: إن مَن أمكنت معه هذه الأحوالُ من الكفار ورُجِي إيمانه دون قتال، فهي فيه مُحكَمة، والله أعلم)[1].   • يقول النَّيسابوري - رحمه الله تعالى - (بهامش الجزء الرابع عشر من تفسير ابن جرير) بعد الكلام عن تأويل قوله تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120 - 123]، وعن وجه المتابعة لإبراهيم عليه السلام قال: (وفيه أن طريقة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الدعوة كانت هكذا، وتقرير ذلك أن الداعيَ إلى مذهب ونِحلة لا بد أن يكون مستندًا على حجة، وهي إما أن تكون يقينيةً قطعية مبرأة من شائبة احتمال النقيض، وإما أن تكونَ مفيدة للظن القوي والإقناع التام، وإلا لم تكن ملتفَتًا إليها في العلوم، وقد يكون الجدال والخصام غالبًا على المدعو، فيحتاج حينئذٍ إلى إلزامِه وإفحامه بدليل مركب من مقدمات مشهورة مسلَّمة عند الجمهور، أو مقدمات مسلَّمة عند الخَصم؛ فقوله ﴿ بِالْحِكْمَةِ ﴾: إشارة إلى استعمال الحجج القطعية المفيدة لليقين، والمكالمة بهذه الطريقة إنما تكون مع الطالبين البالغين في الاستعداد إلى درجة الكمال، وقوله: ﴿ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾: إشارة إلى استعمال الدلائل الإقناعية الموقعة للتصديق بمقدمات مطلوبة، وأهل هذه المكالمة أقوامٌ انحطَّت درجتُهم عن الطائفة الأولى، إلا أنهم باقون على الفِطرة الأصلية، طاهرون عن دنس الشغب، وكُدورات الجدال، وهم عامة الخَلق، وليس الدعوة إلا هذين الطريقين، ولكن الداعي قد يُضطَر مع الخَصم الألدِّ إلى استعمال الحجج الملزمة المفحمة كما قلنا؛ فلهذا السبب عطف على الدعوة قوله: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]؛ أي: الطريقةِ التي هي أحسن، فكأن طريق الجدال لم يكن مقصودًا، وإنما اضطر الداعي إليه لأجل كون الخصم مشاغبًا، وإنما استحسن هذا الطريق؛ لكونِ الداعي محقًّا، وغرضه صحيحًا، فإن كان مبطِلاً وأراد تغليطَ السامع، لم يكن جدالُه حسَنًا، ويسمَّى دليله مغالطة، هكذا ينبغي أن يُتصوَّر تفسيرُ هذه الآية؛ فإن كلام المفسرين الظاهريين فيه غير مضبوط، ولما حث على الدعوة بالطرق المذكورة، بيَّن أن الهداية والرشدَ ليس إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإنما ذلك إلى الله تعالى فقال: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ﴾ [النحل: 125]...
الآية؛ أي: هو العالِم بضلال النفوس واهتدائها، وكدوراتها وصفائها، وبمن جعَل الدعوة سببًا في سعادتها، أو واسطةً لشقائها..، إن الدعوةَ تتضمن تكليف المدعوين بالرجوعِ عن الدِّين المألوف، والفطام منه شديد، وربما تنجرُّ إلى المقاتلة، فحينئذٍ أمَر الداعيَ وأتباعَه برعاية العدل والإنصاف في حال القتالِ قائلاً: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ﴾ [النحل: 126]؛ أي: إن رغبتم في استيفاءِ القِصاص إن وقَع قتلٌ، فاقنَعوا بالمِثل ولا تَزيدوا عليه، والآية عامة...)
[2]، وبالنظر والتدبُّر في الآية الكريمة وما ذكر فيها من أقوال، تتضح أمورٌ تجدرُ الإشارة إليها، وهي: أولاً: حرف الباء في قوله تعالى: ﴿ بِالْحِكْمَةِ ﴾ [النحل: 125]، جاء في المعجم: حرف جر، وهي لإلصاق الفعل بالمفعول به، تقول: مررت بزيد، وجائز أن يكونَ مع استعانة، تقول: كتبت بالقلم[3].   إذًا فالباء للاستعانة، ولإلصاق الفعلِ بالمفعول به، ويكون المعنى: ادعُ ملتزمًا بالحكمة، ولتكنِ الحكمةُ ملازمةً للدعوة.   وادعُ مستعينًا بالحِكمة، ولتكنِ الحكمة عونًا لدعوتك.   ثانيًا: في الآية فِعلان: "ادعُ" و"جادل"، يربطهما حرفُ العطف: "ادعُ" (بالحكمة) و(بالموعظة)، "وجادل" ﴿ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، وجادَلَه: خاصَمَه، والأصلُ - كما جاء في كلام الإمام النَّيسابوري - هو الدعوة، أما الجدال، فهو ظرفٌ قد يُضطَرُّ إليه الداعي، ويجرُّه إليه المدعو، كما جاء في قوله: (ولكن الداعي قد يُضطَرُّ مع الخَصم الألدِّ إلى استعمال الحُجَج الملزمة المفحمة؛ فلهذا السببِ عطف على الدعوة قوله تعالى: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾؛ أي: وجادِلْهم في حال المُخاصَمة بالحسنى..).   ثالثًا: إن الدعوةَ بالحكمة والموعظة الحسنة هي لصِنفين من الناس؛ أولهما أعلى درجةً من الثاني، وأقربُ إلى القَبول والاستجابة...، وفي الحالتينِ فإن الدعوةَ إنما تكونُ باستعمال الحُجَج القطعية، والدلائل الإقناعية، المفيدة لليقين، والموقعة للتصديق.   • أما الجدال، فهو مع الخَصِم الألدِّ أو المشاغب.   جاء في المعجم: جادله: خاصمه...، والاسم: الجدل، وهو شدَّة الخصومة[4].   ومع شدةِ الخصوم فلا بد من الالتزامِ بالهدف من الجدال، وهو الهداية؛ لذا وجَب أن يكون بالتي هي أحسن.   رابعًا: إن الداعي مُبلِّغ وسبب، ولا يملِك إلا هدايةَ القول والإرشاد والبيان والنُّصح، أما التوفيق للهداية، فلا يملِكُه إلا الله تعالى وحده؛ لذا جاء في آخر الآية: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125]، ومن هنا فإن الداعيَ المخلِص يحرصُ على هداية المدعو، بل وعليه أن يدعوَ الله تعالى للمدعو بعد فراغه من دعوته، ومن ناحية أخرى فعلى الداعي ألا يغترَّ إذا رأى دعوتَه ناجحة، بل يحمد اللهَ الذي بحمدِه تتمُّ الصالحات.   خامسًا: إن دعوةَ الأصناف الثلاثة ليست هي نهايةَ المطاف؛ فقد يحدُثُ أن تواجهَ الدعوةُ في إحدى مراحلها - خصوصًا المتقدمة - خصمًا عنيدًا أو معتديًا أو متطاولاً وغير شريف، فتتحتم المواجهة؛ يقول الشيخ النيسابوري: (ثم إن الدعوة تتضمَّنُ تكليف المدعوين بالرُّجوع عن الدين المألوف، والفطام منه شديد، وربما تنجرُّ إلى المقاتلة...)؛ ولهذا فإنه إذا كان القولُ اللين هو الأول، فليس هو الأخير؛ فإبراهيم عليه السلام دعا أباه - وكان صانعًا للأصنام - بالرِّفق واللِّين: ﴿ يَا أَبَتِ ﴾ [مريم: 42]، ثم دعا قومه بالحجة تلو الحجة؛ قال تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴾ [الشعراء: 69 - 73]، ثم بعد ذلك توعَّد هذه الأصنامَ: ﴿ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ﴾ [الأنبياء: 57]، ثم كسَرها وأنفَذ وعيده: ﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا ﴾ [الأنبياء: 58]، وفي سورة الأنعام ثناءٌ على إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾ [الأنعام: 83]، وهنا في سورة النحل: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ﴾ [النحل: 120]، ثم أوحى الله تعالى إلى خاتَم المرسَلين صلى الله عليه وسلم أن يتَّبِعَ نهج إبراهيم عليه السلام؛ لأنه دعا قومَه وتعامَل معهم بالحكمة، وهي كما قال الشيخ النيسابوري: (فقولُه: ﴿ بِالْحِكْمَةِ ﴾ [النحل: 125]: إشارة إلى استعمال الحُجَج القطعيَّة المُفِيدة لليقين...).   • وفي تفسير الفخر الرازي: (بالحكمة: أي بالبرهانِ والحجة...)[5].   سادسًا: إن فهمَ الآية الكريمة يتطلَّب النظرَ فيما قبلها لمعرفة وجهِ الصلة والتناسبِ بين الآيات؛ لأن فَهْمَ آيةٍ حسب موقعِها وقَطْع الصلة بما قبلها وما بعدها - لا يؤدِّي إلى فَهْمِ الآية فهمًا صحيحًا.   ونظرة في الآيات قبلها نجد حديثًا عن إبراهيمَ عليه السلام، وأنه كان أمَّةً - أي يُقتدَى به؛ قاله ابن كثير[6] - ثم أمْرًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم باتِّباع إبراهيم عليه السلام، ثم أمرًا بالدعوةِ بالحِكمة والموعظة الحَسَنة؛ أي: كما فعَل إبراهيمُ عليه السلام في دعوتِه لقومِه واقتداء به، وبيان أن الهداية بيد الله وحده؛ فوالد إبراهيم لم يؤمن، وكذلك قومه، بعد إلزامهم الحجة، ثم جاء الأمرُ بالمعاقبة بالمثل، وذلك في حال تحوَّل الأمرُ إلى العدوان على الدعوة وأشخاصها.   إن الدعوةَ في أول الأمر وآخره هي طلبُ الهداية، وترغيب الناس في الإيمان بالله وحبه وتعظيمه؛ لذا وجَب أن يكون الأسلوب رقيقًا مؤثِّرًا لينًا، فيه إخلاص وحرص وصدق، وبالحجة الدامغة البليغة، واستعمال البراهين القوية، فتلك هي الحكمة البالغة - أي البالغة غايتها - لقوله تعالى: ﴿ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ﴾ [القمر: 5]، والفعل (بلغ) له معانٍ كثيرة، ومنها:   بلغ : بلغ المكان : وصَل إليه   : بلغ الغلام : أدرك   : بلُغ الرجل : صار بليغًا   : والبلاغ : الكفاية   : والبلاغة : الفصاحة   : والتبليغ : الإيصال   : وبالغ : جيد[7]   وعلى هذا، فإن مفهومَ الحِكمة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمفاهيم الآتية: البلاغ، التبليغ، البلاغة، البلوغ، والوصول، والإدراك، الكفاية.   فإذا توافَرَتْ في الدعوة هذه المفاهيمُ، كانت دعوةً بالحكمة، فالدعوة بلاغ وتبليغ.   ولكي تصل غايتها فلا بدَّ أن يكون القولُ بليغًا؛ أي: فصيحًا يصل إلى القلب والعقل، وتكون الحجة قويةَ الدلالة، كافية للعقل، شافيةً للقلب، لا تترك مجالاً للشك ولا للتردد، فيتحقق بلوغ الغاية، وهي الهداية بإذن الله تعالى، أو إفحام الخصم، فيظهر موقفُه، إما قابلاً مستجيبًا، وإما رافضًا معاندًا.   سابعًا: إنها الدعوةُ إلى سبيل الله ﴿ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ﴾ [النحل: 125]؛ أي الدعوة إلى رب العالمين، والمتفضِّل بالنِّعَم، والمتفرد بالوحدانية، والمتصف بكل صفات الجلال والجمال والكمال، والمنزَّه عن كل صفات العجز والنقص سبحانه، ومن هنا كان علو شأن المهمة؛ مهمة الدعوة إلى العظيم الكبير المتعال، الغني عن الخلق أجمعين.   ثامنًا: استخلاص معنى (الدعوة بالحكمة) أو معنى الحكمة، ويتضمن ما يلي: أ- استعمال الحجج والبراهين القوية المفحِمة اليقينية.   ب- مراعاة حال المدعو؛ فدعوة الآباء والأقربين تحتاج إلى تودُّد ولِين، ودعوة العوامِّ - بالإضافة إلى حسن القول - تحتاج إلى ترغيبٍ وترهيب، واستدراجهم ومداراتهم ومجاراتهم، بهدفِ عدم التصادمِ مع المخالفين مع أول مواجهة حتى يتخلَّوا عن مألوفاتِهم.   جـ- مراعاة المرحلة التي تمر بها الدعوة؛ من حيث التكوين، أو الاستضعاف، أو الاستخلاف، أو بين هذه المراحل وبعضها.   من كتاب: "البصيرة في الدعوة إلى الله"


[1] راجع تفسير القرطبي، جزء 6، ص 3816. [2] هامش تفسير الطبري للنيسابوري، جزء 14، مجلد 7، دار الريان للتراث، ص 130، 1987. [3] مختار الصحاح، مكتبة لبنان ص 33. [4] المرجع السابق ص 85. [5] مفاتيح الغيب - جزء1، ص 477. [6] تفسير ابن كثير، جزء 2، طبعة الحلبي، ص 590. [7] مختار الصحاح ص 55 (بلغ).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣