أرشيف المقالات

التدرج في تحريم الخمر

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2التدرج في تحريم المحرمات التدرج في تحريم الخمر
من حِكَم التدرُّج في التشريع التيسيرُ على البشر، وقد راعى الإسلام سنةَ التدرج فيما شرعه للناس إيجابًا أو تحريمًا، فحينما فرض العبادات فرضها بتدريجٍ، وعند تحريمِ المحرَّمات كان كذلك بتدريج.   ولماذا التدرج في تحريم الخمر؟ ولماذا لم يُحرِّمها الشارع دفعةً واحدةً؟ إن الشارع الحكيم أعلمُ بطبائع الأشياء وخصائصها، ومن خصائص الخمر أنها تُؤثِّر على العقل، وقد سُمِّيت خمرًا لمخامرتِها العقل[1]، ولها سلطان عليه، ومن الصعب العسير أن يتخلَّى عنها شاربُها أو مدمنُها دفعة واحدة، فكان لا بد من التدريج لتهيئة النفوس لقَبول الحكم؛ ولهذا مر تحريم الخمر بعدة مراحل ذكرها المفسرون، لكني أختار ما ذكره القرطبي - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90].   قال القرطبي - رحمه الله -: (وإنما نزل تحريم الخمر في سنة ثلاث بعد وقعة أُحُدٍ...
وقال ما نصه: وتحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة، فإنهم كانوا مُولَعين بشربِها، وأول ما نزل في شأنها: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [البقرة: 219]؛ أي: في تجارتِهم، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس، وقالوا: نأخذ منفعتَها ونترك إثمها، فنزلت هذه الآية: ﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ [النساء: 43]، فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشرِبَها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 90، 91]، فصارت حرامًا عليهم حتى صار يقول بعضهم: ما حرَّم الله شيئًا أشد من الخمرِ)
[2].   وبهذا يتبين أن فرض التكاليف لم يأتِ إلا بعد أن عمَرت القلوب بالإيمان، وأصبح سلطانُ الإيمان أقوى من سلطان الهوى والنفس، وقد مر ذلك بمراحل طويلة، كان أولها غرس الإيمان بالله في القلوب، وهذا أول الطريق، ثم الترقي بعد ذلك شيئًا فشيئًا في مدارج السالكين إلى أعلى مراتب السائرين ودرجات المتقين.   لقد جاء الإسلام في وقتٍ كان الناس يشربون الخمر ولها سلطان على عقولهم، وقد تعوَّدوا عليها وأدمَنوها، فلم يدخل معهم في صدام مباشر، ولكنه - مراعاةً لأحوالهم وما هم عليه من حب للخمر - أخذهم بالتدرج، وهيَّأ نفوسهم شيئًا فشيئًا لتركِها.   وفي هذا يقول الإمام الجصاص في تفسير الآية السابقة: ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ...
﴾: (ولم يختلف أهل النقل في أن الخمر قد كانت مباحةً في أول الإسلام، وأن المسلمين قد كانوا يشربونَها بالمدينة، ويتبايعون بها، مع علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وإقرارِهم عليها، إلى أن حرَّمها الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ...
﴾، وقد كانت محرَّمةً قبل ذلك في بعض الأحوال، وهي أوقات الصلاة، بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا ﴾، وأن بعض منافعِها قد كان مباحًا، وبعضها محظورًا بقوله تعالى: ﴿ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾ إلى أن تم تحريمها بقوله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾)
[3].   ولنتأمل قول الإمام الجصاص حين يُقرِّر أن الخمر كانت مباحةً في أول الإسلام، وجاء الإسلام والناس يُدمِنون الخمر، فتتجلَّى حكمة هذا الدين في اختيار الأولويات، وتحديد نقطة البَدْء، ورسم خطة العلاج.   إن العلاج يبدأ من داخل النفس، فلم يتكلم في بداية الأمر عن تحريم الخمر، ولم يجعلها قضية تستحق البحث في هذه المرحلة من بداية الدعوة، فكانت العناية متَّجِهة نحو تصحيح العقيدة، والدعوة إلى توحيد الله تعالى وتعظيمه، فلما صار حبُّ الله تعالى أعظمَ الأمور، صغُر أمرُ الخمر وتضاءل، فلما أمرهم بالتحريم شيئًا فشيئًا كانت الاستجابة للأمر، وانتهى الناس عن تعاطيها، بل صاروا يكرهونها، ويكرهون شربها وشاربها وبائعها، وصنعها وصانعها وربحها، وكل ما يتصل بها.   يقول الشيخ القرضاوي، متحدثًا عن مراعاة سنة التدرج: (وهذه السنة الإلهية في رعاية التدرج، ينبغي أن تتبع في سياسة الناس، وعندما يراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة، واستئناف حياة إسلامية متكاملة، فإذا أردنا أن نقيم "مجتمعًا إسلاميًّا حقيقيًّا"، فلا نتوهم أن ذلك يتحقق بجرَّة قلم، أو بقرار يصدر من ملك أو رئيس، أو مجلس قيادة أو برلمان؛ إنما يتحقق ذلك بطريقة التدرج؛ أي بالإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية، والأخلاقية والاجتماعية، وهو نفس المنهج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية...)[4].   وهكذا يتأكد أن خصيصة التدرج هي من أهم الخصائص في الدعوة والتشريع، فإذا أردنا أن نأخذ بأيدي الناس إلى معرفة الله - عز وجل - وتوحيده، فلا بد أن نبدأ معهم بالأدلة العقلية على إثبات التوحيد، وذلك بالنظر في آيات الله الكونية والإنسانية، ثم بالنظر في الآيات القرآنية، والتدبر في إعجاز القرآن وعظمته وحكمته، فإذا استقر الإيمان بالله - عز وجل - في القلوب، تبدأ مرحلة تالية، وهي إعداد النفوس لتقبُّل الأحكام، ثم نتبع ذلك ببيان الأحكام وإعلام الناس بها، وتبليغهم إياها خطوة خطوة، ونقبلُ منهم اليسير أولاً، ثم نتدرَّج بهم شيئًا فشيئًا إلى درجات الكمال، والأخذ بتعاليم الإسلام كلها، لا نأخذ ما يعجبنا ويوافق هوانا ونترك غير ذلك، فالإسلام كلٌّ لا يتجزأ، ولكن هي مراحل وخطوات وأولويات!   • والداعي الحصيف لا بد أن يراعي سنةَ التدرُّج في دعوته، ويحسن تطبيقها حسب فهمه لحقائق الأمور، وطبائع الأشياء، وجوهر الدين.   من كتاب: "خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله (فقه التدرج)"


[1] مختار الصحاح ص 166 مكتبة لبنان 1989م. [2] تفسير القرطبي ص 2283 جزء 4. [3] أحكام القرآن للجصاص، دار الكتب العلمية طبعة 1/1994م جزء 1 ص 392. [4] الخصائص العامة للإسلام؛ د.
يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، الطبعة الخامسة 1999م، ص 167.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن