أرشيف المقالات

إخراج نصف صاع من البر في زكاة الفطر

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
2إخراج نصف صاع من البر في زكاة الفطر   يُجزئ نِصف صاع من البُرِّ في زكاة الفطر، وهو قول جمهور الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين، ومذهب الإمام أبي حنيفة، واختاره أبو عُبَيد القاسم بن سلام، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والألباني، وظاهر كلام ابن القيم اختيار هذا القول، وقوَّاه ابن عبدالهادي[1].   الدليل الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كنا نُخرج - إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفِطر عن كل صغير وكبير، حرٍّ أو مَملوك - صاعًا من طعام، أو صاعًا من أَقِطٍ، أو صاعًا مِن شَعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، فلم نزل نُخرجه حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجًّا أو مُعتمِرًا، فكلَّم الناس على المنبر، فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى أن مُدَّين من سمراء الشام تَعدِل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيد رضي الله عنه: فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنتُ أُخرجه أبدًا ما عشتُ"[2].   الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أمَر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفِطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير"، قال عبدالله رضي الله عنه: "فجعل الناس عِدلَه مُدَّين من حِنطة"[3].   "الناس" في حديث أبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهما هم الصحابة رضي الله عنهم وكبار التابعين، فالذي عليه عمل الصحابة رضي الله عنهم بعد الفتوحات وكثرة الحِنطة: إخراجُ نصف صاع من الحنطة، وكانت الحِنطة قليلة في المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فخفيَ الحكْم على بعض الصحابة رضي الله عنهم.   الدليل الثالث: عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: "كُنا نُؤدي زكاة الفِطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مُدَّين مِن قمْح بالمدِّ الذي تُقتاتون به"[4].   وبعض الصحابة رضي الله عنهم كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يُخرِجون مدَّين - أي: نصف صاع - من الحِنطة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لكنَّهم قِلَّة؛ لندرة الحِنطة عندهم.   الدليل الرابع: صحَّ إخراج نِصف صاع من البُر في زكاة الفطر عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبدالله بن الزبير وأمه أسماء وجابر بن عبدالله وأبي هريرة رضي الله عنهم، ورُوي عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم[5]، ولم أقف على مُخالف في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم إلا أبا سعيد رضي الله عنه.   الدليل الخامس: قياس زكاة الفطر على بقية الكفارات؛ قال الطحاوي: نظرْنا في حكم الحِنطة في الأشياء التي تؤدَّى عنها التمر والشعير كيف هو؟ فوجدنا كفارات الأيمان قد أُجْمِعَ أنَّ الإطعام فيها من هذه الأصناف أيضًا ثم اختلف في مقدارها منها، فقال قوم: مقدار ذلك من التمر والشعير نصف صاع، ومن الحنطة مُدٌّ مثل نصف ذلك، وقال آخرون: بل هو من الحِنطة نصف صاع، ومما سوى ذلك صاع، وكلهم قد عدل الحنطة بمثليها من التمر والشعير، فكان النظر على ذلك إذ كانت صدقة الفطر صاعًا من التمر والشعير أن يكون من الحنطة مثل نصف ذلك وهو نصف صاع[6].   ووزن الصاع من البر (2040) كيلوين وأربعين جرامًا على ما أفادنا شيخنا الشيخ محمد العثيمين، فنِصف الصاع من البُرِّ كيلو وعشرين جرامًا، وكذلك حكم الرز، فالرز أطيب من البُرِّ وأغلى، فمن أخرج نصف صاع من الرز أجزأه، ووزن الرز كوزْن البُرِّ على ما أفادني أخي أحمد الوطبان؛ حيث قام بوزن عدة أنواع من الرز، فمَن أخرج نصف صاع من الرز أجزأ ذلك عنه وبرئت ذمته، والله أعلم.


[1] انظر: مصنَّف عبدالرزاق (4/ 311 - 317)، ومصنف ابن أبي شيبة (3/ 170 - 172)، وسنن الترمذي مع تحفة الأحوذي (3/ 346)، والتمهيد (4/ 137)، والمحلى (6/ 130 - 131)، والأموال؛ لأبي عبيد (ص: 521)، وشرح معاني الآثار (2/ 41 - 47)، وبدائع الصنائع (2/ 72)، والاختيارات (ص: 102)، وزاد المعاد (2/ 19)، وتنقيح التحقيق (2/ 1472)، وعمدة القاري (7/ 377)، وتمام المنة (ص: 387). [2] رواه البخاري (1508)، ومسلم (985)، واللفظ له، سمراء الشام: القمح الشامي. [3] رواه البخاري (1507)، ومسلم (984). [4] رواه أحمد (26396)، وحميد في الأموال (2377)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 43)، وفي إسناده عبدالله بن لهيعة، لكن الراوي عنه ابن المبارك في رواية أحمد، قال ابن عبدالهادي في تنقيح التحقيق (2/ 1472): "حديث أسماء رضي الله عنها من رواية إمام عن ابن لهيعة، وهو ابن المبارك وحديث ابن لهيعة يصلح للمتابعة"، ورواه الطحاوي من طريق آخر فقال: "حدثنا فهد وعلي بن عبدالرحمن قالا: ثنا بن أبي مريم قال: أخبرني يَحيى بن أيوب أنَّ هشام بن عروة حدثه عن أبيه أنَّ أسماء بنت أبى بكر رضي الله عنهما أخبرته..."، وفي إسناده: يحيى بن أيوب، قال الحافظ: "صدوق ربما أخطأ"، وتابعه عُقَيل بن خالد في رواية أخرى للطحاوي، وبقية رجاله ثقات، فإسناد الحديث حسن ويشهد له ما يأتي، وصحَّح إسناده الألباني في تمام المنة (ص: 387)، وقال ابن القيم في زاد المعاد (2/ 19)، وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم آثارٌ مُرسَلة ومسنَدة يُقوِّي بعضُها بعضًا. وقد وردت أحاديث مرفوعة وآثار موقوفة بإجزاء نصف صاع من البر، ومن أصح المرفوع: 1- مرسل سعيد بن المسيب: رواه ابن أبي شيبة (3/ 170)، وحميد في الأموال (3/ 1242)، وأبو داود في المراسيل (117)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 45 - 46)، وابن حزم في المحلى (6/ 122) عن الزهري من طرق وإسناده صحيح، قال ابن عبدالهادي في تنقيح التحقيق (2/ 1479): "إسناده صحيح كالشمس لكنَّه مرسل". 2- حديث ابن عباس رضي الله عنهما: رواه عنه: (1) عكرمة عند الدارقطني (2/ 150)، وفي إسناده: سلام الطويل، قال الدارقطني: "سلام الطويل متروك الحديث ولم يسنده غيره". (2) أبو سلمة بن عبدالرحمن عند الدارقطني (2/ 143)، وفي إسناده: محمد بن عمر الواقدي: متروك. (3) عطاء عند الدارقطني (2/ 142) قال البيهقي في مختصر الخلافيات (2/ 493): "ووهم، والصواب: عن عطاء من قوله"، وانظر: تنقيح التحقيق (2/ 1474). (4) الحسن عند ابن أبي شيبة (3/ 170)، وأبي داود (1622)، والنسائي (2508)، قال البيهقي في مختصر الخلافيات (2/ 494): "الصواب من هذه الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما مُرسَل؛ كما عند أبي داود عن الحسن...
هذا مرسل؛ الحسن لم يسمع من ابن عباس رضي الله عنهما". 3- حديث ابن عمر رضي الله عنهما: رواه الدارقطني (2/ 145)، والمحفوظ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ تعديل الصاع بالمدَّين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ انظر: سنن البيهقي (2/ 170)، وتنقيح التحقيق (2/ 1473). 4- حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه: رواه عنه ابن جريج تارةً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عند الترمذي (674)، والدارقطني (2/ 141)، وتارة معضلاً عن عمرو بن شعيب عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الدارقطني (2/ 141)، وتارةً عن عمرو بن شعيب بلَغَني عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الدارقطني (2/ 141)، قال الترمذي في علله الكبير (1/ 325): "سألت محمدًا عن حديث ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث مُناديًا: ألا إنَّ صدقة الفطر واجبة على كل مسلم، فقال: ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب". 5- حديث عبدالله بن ثعلبة بن أبي صعير ويقال: ثعلبة بن عبدالله عن أبيه: رواه عنه الزهري ورواه عن الزهري: 1) بكر بن وائل عند أبي داود (1619)، (1620)، واختلف عليه فرُوي عنه عن ثعلبة بن عبدالله بن أبي صعير عن أبيه، وروي عنه عن عبدالله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبدالله بن أبي صعير عن أبيه، واختلف عليه أيضًا في مَتنِه؛ ففي روايتي أبي داود بلفظ: ((صاعٌ من برٍّ أو قمح على كل اثنين))، وفي رواية الدارقطني (2/ 148) بلفظ: ((عن كل واحد أو عن كل رأس أو صاعُ قمح)). 2) النعمان بن راشد عند أبي داود والدارقطني، والاختلاف في حديثه كالاختلاف في حديث بكر بن وائل. 3) يَحيى بن جرجة عند الدارقطني (2/ 149) عن عبدالله بن أبي صعير عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: ((صدقة الفطر مُدَّان مِن بُرٍّ عن كل إنسان))، ويحيى بن جرجة قال أبو حاتم: "شيخ"، وقال الدارقطني: "ليس بقوي"، وذكره ابن حبان في ثقاته وقال: "ربما خالف". 4) ابن جريج عند عبدالرزاق (5785) عن عبدالله بن ثعلبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظه: ((صاعًا من برٍّ أو قمح بين اثنين)). قال الزيلعي في نصْب الراية (2/ 407): "قال الدارقطني في علله: هذا حديث اختلف في إسناده ومتنه؛ أما سنده: فرواه الزهري واختُلف عليه فيه؛ فرواه النعمان بن راشد عنه عن ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه، ورواه بكر بن وائل عن الزهري عن عبدالله بن ثعلبة بن أبي صعير، وقيل: عن ابن عُيينة عن الزهري عن ابن أبي صعير عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقيل: عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقيل: عن عقيل ويونس عن الزهري عن سعيد مرسلاً، ورواه معمر على الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأما اختلاف متنه ففي حديث سفيان بن حسين عن الزهري: ((صاعٌ من قمح))، وكذلك في حديث النعمان بن راشد عن الزهري عن ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه: ((صاع من قمح عن كل إنسان))، وفي حديث الباقين: نِصف صاع من قمح قال: وأصحُّها عن الزهري عن سعيد بن المسيب مُرسَلاً انتهى كلامه"، وانظر بقية كلام الزيلعي، وبعد أنَّ ذكر ابن حزم في المحلى طرقه (6/ 121) قال: "فحصل هذا الحديث راجعًا إلى رجل مَجهول الحال، مُضطرِب عنه، مُختلَف في اسمه مرة: عبدالله بن ثعلبة، ومرة: ثعلبة بن عبدالله، ولا خلاف في أنَّ الزهري لم يلق ثعلبة بن أبي صعير، وليس لعبدالله بن ثعلبة صحبة"، وقال ابن عبدالبر في التمهيد (4/ 137): "وهو حديث مُضطرِب لا يَثبت". [5] آثار الصحابة رضي الله عنهم في إخراج نصف صاع من الحنطة في زكاة الفطر: 1- أثر أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ أخرجه عبدالرزاق (5774)، (5776)، وابن أبي شيبة (3/ 170)، وحميد في الأموال (2372)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 46)، وإسناده ضعيف، في إسناده: مبهم، وضعَّفه ابن المنذر في الإشراف (3/ 78). 2- أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أخرجه حميد في الأموال (2373)، وفي إسناده: ابن لهيعة، والراوي عنه ابن المبارك، ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 46)، وفي إسناده: عبدالله بن نافع ضعيف، وزياد بن النضر ذكره ابن حبان في ثقاته، وذكره البخاري في تاريخه الكبير، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يَذكُرا فيه جرحًا ولا تعديلاً، فهو حسن إن شاء الله. 3- أثر عثمان بن عفان رضي الله عنه: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 170)، وحميد في الأموال (2374)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 47)، وإسناده صحيح. 4- أثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أخرجه عبدالرزاق (5772)، وابن أبي شيبة (3/ 172)، وحميد في الأموال (2375)، وإسناده ضعيف، في إسناده: عبدالأعلى بن عامر: ضَعيف في حفظه، توسَّط فيه الحافظ فقال: "فهو صدوق يَهم". 5- أثر عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما: أخرجه عبدالرزاق (5766)، وابن أبي شيبة (3/ 171)، وحميد في الأموال (2380)، وإسناده صحيح. 6- أثر جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أخرجه عبدالرزاق (5772)، وإسناده صحيح. 7- أثر أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه عبدالرزاق (5761)، وإسناده صحيح. 8- أثر ابن مسعود رضي الله عنه: أخرجه عبدالرزاق (5769)، وابن أبي شيبة (3/ 171)، وإسناده ضعيف، في إسناده: أبو أمية عبدالكريم بن أبي المخارق: ضعيف. 9- أثر ابن عباس رضي الله عنهما رواه عنه: (1) عطاء؛ أخرجه حميد في الأموال (2379)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 47)، وفي إسناده: محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، قال الحافظ: "صدوق سيئ الحفظ جدًّا"، وفي إسناده أيضًا يَحيى بن عيسى، قال الحافظ: "صدوق يُخطئ"، وتقدَّمت رواية عطاء المرفوعة، وأنَّ الصواب من قول عطاء. (2) عمرو بن دينار بلاغًا؛ عند عبدالرزاق (5768). وخالفهما: (1) أبو رجاء العُطاردي عند النسائي (2510)، ولفظه: "سمعتُ ابن عباس يَخطب على منبركم - يعني منبر البصرة - يقول: صدقة الفطر صاع من طعام"، وإسناده صحيح، قال أبو عبدالرحمن [النسائي]: "هذا أثبَت الثلاثة". (2) محمد بن سيرين عند النسائي (2509)، ولفظه: "قال: ذكر في صدقة الفطر قال: صاعًا من بر أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من سُلْتٍ"، وابن سيرين لم يسمَع من ابن عباس رضي الله عنهما. [6] شرح معاني الآثار (2/ 48).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن