أرشيف المقالات

أرجى آية في كتاب الله مع المفسر الشوكاني

مدة قراءة المادة : 26 دقائق .
2أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - مع المفسر الشوكاني
قال الله - عز وجل -: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
الحمد لله الذي جعل كتابه المبين شاملًا لما شرعه لعباده من الحلال والحرام، ومرجعًا للأعلام عند تفاوت الأفهام، وتباين الأقدام، وتخالف الكلام، قاطعًا للخصام شافيًا للسقام، مرهمًا للأوهام، والصلاة والسلام على من نزل إليه الروح الأمين، بكلام رب العالمين، محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله المطهرين، وصحبه المكرمين.

أما بعد: فهذه آية من أرجى آيات كتاب الله - عز وجل - الكريم، نقف على شيء من تفسيرها[1]، مع أحد العلماء المعاصرين، وبقية المجتهدين، الذي ذاع اسمه، وعلا صيته في الآفاق، وهو من علماء القرن الثالث عشر، وتوفي سنة (1255هـ)، وهو صاحب التصانيف المختلفة، والآثار النافعة، وهو غني عن التعريف، وآثاره تدل عليه[2]، وقديماً قيل: تلك آثارنا تدل علينا فاسألوا بعدنا عن الآثارِ   ألا وهو العلامة محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ثم الصنعاني، كما نص هو على ذلك في ترجمته من كتابه الماتع، البدر الطالع[3].
قال الله - عز وجل -: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]
يقول العلامة الشوكاني - رحمه الله -: "واعلم أن هذه الآية[4] أرجى آية في كتاب الله[5] - سبحانه - لاشتمالها على أعظم بشارة؛ فإنه: أولًا: أضاف العباد[6] إلى نفسه[7]؛ لقصد تشريفهم، ومزيد تبشيرهم.
ثم ثانيًا: وصفهم بالإسراف في المعاصي، والاستكثار من الذنوب.
ثم ثالثًا: عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب؛ فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى، وبفحوى الخطاب[8].
رابعًا: ثم جاء بما لا يبقى بعده شك، ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ﴾ فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده، فهو في قوة: إن الله يغفر كل ذنب كائنًا ما كان، إلا ما أخرجه النص القرآني، وهو الشرك: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ﴾ [النساء: 48].
خامسًا: ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب، بل أكد ذلك بقوله: ﴿ جَمِيعًا ﴾.
بشرى: فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم، الصادقين في رجائه، الخالعين لثياب القنوط، الرافضين لسوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده، المتوجهين إليه في طلب العفو، الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم[9].
وما أحسن ما علل سبحانه به هذا الكلام قائلًا: ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾[10] أي: كثير المغفرة والرحمة، عظيمهما بليغهما واسعهما[11].   فمن أبى هذا التفضل العظيم والعطاء الجسيم، وظن أن تقنيط عباد الله وتأييسهم من رحمته، أولى بهم مما بشرهم الله به، فقد ركب أعظم الشطط، وغلط أقبح الغلط؛ فإن التبشير وعدم التقنيط[12] الذي جاءت به مواعيد الله في كتابه العزيز، والمسلك الذي سلكه رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - كما صح عنه من قوله: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا))[13].
  آيتان ظاهرهما التعارض والجمع بينهما[14]: وإذا تقرر لك هذا: فاعلم أن الجمع بين هذه الآية، وبين قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ﴾ [النساء: 48].   هو: أن كل ذنب كائنًا ما كان - ما عدا الشرك بالله - مغفور لمن شاء الله أن يغفر له، على أنه يمكن أن يقال: إن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعًا، يدل على أنه يشاء غفرانها جميعًا؛ وذلك يستلزم أنه يشاء المغفرة لكل المذنبين من المسلمين.
فلم يبق بين الآيتين تعارض من هذه الحيثية[15].   استدراك على بعض أهل التفسير: وأما ما يزعمه جماعة من المفسرين[16]: من تقييد هذه الآية بالتوبة[17]، وأنها لا تغفر إلا ذنوب التائبين؛ وزعموا أنهم قالوا ذلك للجمع بين الآيات.
فهو جمع بين الضب والنون[18]، وبين الملاح والحادي، وعلى نفسها براقش تجني، ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبة لم يكن لها كثير موقع؛ فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجماع المسلمين.
وقد قال - عز وجل -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ﴾ [النساء: 48].
فلو كانت التوبة قيدًا في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة.
تعقب الواحدي: وقد قال سبحانه: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ﴾ [الرعد:6].
قال الواحدي: المفسرون كلهم قالوا: إن هذه الآية في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام، كالشرك، وقتل النفس، ومعاداة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم [19].
قلت - الشوكاني -: هب أنها في هؤلاء القوم فكان ماذا؟ فإن الاعتبار بما اشتملت عليه من العموم لا بخصوص السبب، كما هو متفق عليه بين أهل العلم[20]، ولو كانت الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية مقيدة بأسبابها غير متجاوزة لها، لارتفعت أكثر التكاليف عن الأمة، إن لم ترتفع كلها.
واللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله.   وفي السنة المطهرة من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما - في هذا الباب - ما إن عرفه المطلع عليه، حق معرفته، وقدره حق قدره، علم صحة ما ذكرناه، وعرف حقيقة ما حررناه" [21].
انتهى كلامه رحمه الله.
فنرجو الله - عز وجل - الكريم الرؤوف، الغفور الرحيم، أن يغفر لنا جميع ذنوبنا، ويتجاوز عن جميع سيئاتنا، ويدخلنا جنته على ما كان منا، ويغفر لإخواننا المسلمين إنه غفور رحيم.


[1] وقد أضفنا عليها شيئًا من التقسيم والتعليق، فلزم التنبيه. [2] ومع هذا - رحمه الله - يقول كما في نيل الوطر: محمد زبارة (2/ 302): فكرت في علمي وفي أعمالي ونظرت في قولي وفي أفعالي فوجدت ما أخشاه منها فوق ما أرجو فطاحت عند ذا آمالي ورجعت نحو الرحمة العظمى إلى ما أرتجي من فضل ذي الأفضالِ فغدا الرجا والخوف يعتلجان في صدري وهذا منتهى أحوالي [3] (2/207).
[4] قال السيوطي في الإتقان (2/ 161):" وقد اختلف في أرجى آية في القرآن على بضعة عشر قولًا".
ثم ذكر خمسة عشر قولًا.
وانظر: ما قاله القرطبي في تفسيره (2/ 208)، والشنقيطي في أضواء البيان (6/ 163). [5] وهذا الذي اختاره، هو ما قاله ابن مسعود - رضي الله عنه -: " أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - هذه الآية" ثم ذكرها.
أخرجه عبد الرزاق رقم: (6002)، والطبراني رقم: (8658)، والبيهقي في شعب الإيمان رقم: (2391،2392).
وقد روي مرفوعًا ولا يصح. وعن الشعبي: قال: جلس مسروق، وشتير بن شكل، في مسجد الأعظم، فرآهما ناس فتحولوا إليهما، فقال مسروق لشتير: إنما تحول إلينا هؤلاء لنحدثهم؛ فإما أن تحدث وأصدقك، وإما أن أحدث وتصدقني، فقال مسروق: حدث أصدقك، قال شتير: حدثنا عبد الله بن مسعود...
ثم ذكر قوله: " ...
أن أكثر أو أكبر آية في كتاب الله فرحًا {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} إلى آخر الآية، فقال مسروق: صدقت".
أخرجه الطبراني رقم: (8659).
وهذا هو الذي قاله - أيضًا - عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - يوم تواعد مع ابن عباس - رضي الله عنهما - فيما رواه سعيد ابن المسيب.
وهو ينسب - أيضًا - إلى ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - فقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: " ما في القرآن عندي آية أرجي منها"، ويروى كذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: " أن أرجى آية هي: قول الله - تعالى - من سورة الزمر: ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾".
تفسير القرطبي (10/323).
وقال به غيرهم.
وصححه المناوي، فقال: " وهي أرجى آية في القرآن على الأصح من أقاويل كثيرة ".
انظر: فيض القدير (5/411) للمناوي. [6] قال ابن عاشور: " إثبات ﴿ يَا ﴾ المتكلم في خطابهم، زيادة تصريح بعلامة التكلم؛ تقوية لنسبة عبوديتهم إلى الله - تعالى - إيماء إلى أن شأن الرب الرحمة بعباده ".
تفسيره(24/111). [7] والقاعدة في هذا أن ما يضاف إلى الله - عز وجل - كما دلت نصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية، نوعان: أحدهما: إضافة مخلوقات، أو أعيان قائمة بنفسها، إليه - عز وجل - وهذه كإضافة البيت ومنه قولهم: (بيت الله)، والناقة كقوله - عز وجل -: ﴿ نَاقَةَ اللَّهِ ﴾ [الشمس: 14]، والعبد كقوله - عز وجل -: ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ ﴾ [الجن:19]، وكل هذه الإضافات من باب إضافة مخلوق إلى خالقه، ولكن هذه الإضافة لتخصيصها بالله - عز وجل - تدل على شرف المضاف إلى الله - عز وجل - فيكون فيه من الشرف ما لا يكون في قولك البيت مثلًا، مقطوعًا عن الإضافة إليه - عز وجل، وهكذا شرف الناقة، وشرف محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وما أشار إليه الشوكاني - هنا - هو من هذا النوع. وأما الثاني: فما كان من جنس المعاني وليست من الأعيان، ونعني بالمعاني ما لا يمكن أن تقوم بنفسها، مثل: الرحمة، والكلام، والسمع ..
وغيرها.
وهذه المعاني أو الصفات إذا أضيفت إلى الله - عز وجل - فإنها إضافة صفة إلى متصف بها، وضابطها - كما قال بعض أهل العلم -: ما كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به.
وهذا هو الذي دلت عليه الأدلة، وهو أخذ بقواعد اللغة العربية.
كما ذكر علمائنا رحمهم الله.
والله أعلم. [8] قال الشوكاني: " المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة.
فمفهوم الموافقة: حيث يكون المسكوت عنه موافقًا للملفوظ به، فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب، وإن كان مساويًا فيسمى لحن الخطاب".
ويعنون بالفحوى: المعنى، ويسمى بهذا إذا كان طريق الدلالة بالأولوية.
وقد عبر عنه الزركشي بقوله: "إن الفحوى ما يفهم من الكلام بطريق القطع".
وقيل: "ما سكت عنه، أي: لم يلفظ به أولًا بالحكم الذي دل عليه اللفظ".
واختلفوا في تسميته: فبعضهم يسميه المفهوم الأولى، ويسميه بعضهم: دلالة النص، وبعضهم يسميه: القياس الجلي، وقد اتفقوا على العمل به، انظر: إجابة السائل شرح بغية الآمل(ص: 241) للصنعاني، وارشاد الفحول(1/ 394)(2/37) للشوكاني.
وغيرهما من كتب الأصول. [9] عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب.
عرفت بالاستقراء، وذكرها العلماء، انظرها في: الإيمان الأوسط (ص: 33)، والتحفة العراقية في الأعمال القلبية (ص:20)، ومجموع الفتاوى (7/487)، ومنهاج السنة النبوية (6/205) لشيخ الإسلام، وإعلام الموقعين عن رب العالمين(2/360) لابن القيم، وشرح الطحاوية (2/451- ط الأرناؤوط) لابن أبي العز، وغيرها. [10] فدلت الآية على أنه - عز وجل - هو وحده الذي يغفر الذنوب، وهذا قد دلت عليه غير ما آية، ومنها: قوله: ﴿ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشورى: 5].
فانظر كيف أتى بضمير الفصل بين المسند والمسند إليه، ليدل على ذلك، كما هو معلوم في محله، ثم أكد ذلك بحرف الاستفتاح الذي هو {أَلا}، وحرف التوكيد الذي هو ﴿ إِنَّ ﴾.
انظر: أضواء البيان (7/42). [11] قال السعدي: "أي: وصفه المغفرة والرحمة، وصفان لازمان ذاتيان، لا تنفك ذاته عنهما، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود، مالئة للموجود، تسح يداه من الخيرات آناء الليل والنهار، ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار، والعطاء أحب إليه من المنع، والرحمة سبقت الغضب وغلبته، ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأت بها العبد، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة، أعظمها وأجلها، بل لا سبب لها غيره: الإنابة إلى اللّه - تعالى - بالتوبة النصوح، والدعاء والتضرع، والتأله والتعبد، فهلم إلى هذا السبب الأجل، والطريق الأعظم".
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص:727). [12] قال شيخ الإسلام: "والمقصود هنا أن قوله: ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: 53]، فيه نهى عن القنوط من رحمة الله تعالى، وإنْ عَظُمَت الذنوب وكثرت، فلا يَحِل لأحد أن يقنط من رحمة الله وإن عَظُمَت ذنوبه، ولا أن يُقَنِّط الناس من رحمة الله، قال بعض السلف: "إنَّ الفقيه كل الفقيه الذى لا يُؤْيِس الناس من رحمة الله، ولا يُجَرِّيهم على معاصي الله"؛ [روي في الحلية (1/77) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بنحوه] والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له؛ إما لكونه إذا تاب لا يقبل الله توبته ويغفر ذنوبه، وإما بأن يقول: نفسه لا تطاوعه على التوبة، بل هو مغلوب معها، والشيطان قد استحوذ عليه، فهو ييئس من توبة نفسه، وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر الله له، وهذا يعترى كثيرًا من الناس.
والقنوط يحصل بهذا تارة، وبهذا تارة، فالأول: ((كالراهب الذى أفتى قاتل تسعة وتسعين أن الله لا يغفر له، فقتله وكَمَّلَ به مائة، ثم دُلَّ على عالم فأتاه فسأله فأفتاه بأن الله يقبل توبته))، والحديث في الصحيحين، والثاني: كالذي يرى للتوبة شروطًا كثيرة، ويقال له: لها شروط كثيرة يتعذر عليه فعلها، فييئس من أن يتوب"؛ مجموع الفتاوى (16/19 - 20). [13] أخرجه البخاري رقم: (69)، ومسلم رقم: (1734). [14] قال ابن القيم: "فإن قيل: فإذا كان الشرك وغيره مما تأتي عليه التوبة، فما وجه الفرق بين الشرك وما دونه؟ وهل هما في حق التائب أم غير التائب؟ أم أحدهما: في حق التائب، والآخر: في حق غيره؟ وما الفرق بين هذه الآية - وهي: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ﴾ [النساء: 48] - وبين قوله: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]؟! فالجواب: أن كل واحدة من الآيتين لطائفة، فآية النساء: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ﴾، هي لغير التائبين في القسمين، والدليل عليه: أنه فرق بين الشرك وغيره في المغفرة، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الشرك يغفر بالتوبة، وإلا لم يصحَّ إسلام كافر أبدًا - وأيضًا - فإنه خصص مغفرة ما دون الشرك بمن يشاء، ومغفرة الذنوب للتائبين عامة لا تخصيص فيها، فخصص وقيد وهذا يدل على أنه حكم غير التائب.
وأما آية الزمر: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾، فهي في حق التائب؛ لأنه أطلق وعمم فلم يخصها بأحد، ولم يقيدها بذنب، ومن المعلوم بالضرورة: أن الكفر لا يغفره، وكثير من الذنوب لا يغفرها، فعلم أن هذا الإطلاق والتعميم في حق التائب، فكل من تاب من أي ذنب كان، غفر له"؛ مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/325). [15] قال شيخ الإسلام: "الصواب الذي عليه أئمة المسلمين أن كل من تاب، تاب الله عليه، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
فقد ذكر في هذه الآية: أنه يغفر للتائب الذنوب جميعًا ولهذا أطلق وعمم.
وقال في الآية الأخرى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ﴾ [النساء: 48].
فهذا في غير التائب؛ ولهذا قيد وخصص"؛ الفتاوى الكبرى (5/128) لابن تيمية، وانظر: مدارج السالكين (1/394) لابن قيم الجوزية. وقال - رحمه الله -: "هذه الآية في حق التائبين، وأما آيتا النساء، قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ﴾ [النساء: 48]، فلا يجوز أن تكون في حق التائبين، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، فإن التائب من الشرك يغفر له الشرك - أيضًا - بنصوص القرآن واتفاق المسلمين، وهذه الآية فيها تخصيص وتقييد، وتلك الآية فيها تعميم وإطلاق، هذه خَصَّ فيها الشرك بأنه لا يغفره، وما عداه لم يجزم بمغفرته، بل علَّقه بالمشيئة، فقال: ﴿ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ﴾، وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه كما تَرُدُّ على الوعيديَّة من الخوارج والمعتزلة، فهي تَرُدُّ - أيضًا - على المرجئة الواقفية، الذين يقولون: يجوز أن يعذب كل فاسق فلا يغفر لأحد، ويجوز أن يغفر للجميع، فإنه قد قال: ﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ﴾.
فأثبت أن ما دون ذلك هو مغفور لكن لمن يشاء، فلو كان لا يغفره لأحد بطل قوله: ﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ﴾، ولو كان يغفره لكل أحد بطل قوله: ﴿ لِمَن يَشَاء ﴾، فلما أثبت أنه يغفر ما دون ذلك، وأن المغفرة هي لمن يشاء، دل ذلك على وقوع المغفرة العامة مما دون الشرك، لكنها لبعض الناس"؛ انظر: مجموع الفتاوى (16/18)، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص: 14). [16] قال ابن كثير: " هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله - تبارك وتعالى - يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة؛ لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه"؛ تفسير القرآن العظيم (4/71).
وانظر: تفسير الرازي (27/3)، والقاسمي في محاسن التأويل، وغيرها، وقال العلامة العثيمين: "فهذه الآية أجمع العلماء على أنها في التائبين"؛ الشرح الممتع على زاد المستقنع (14/457). [17] وممن قاله الحسن البصري وغيره. [18] ووجهه: أن الضب يعيش في الصحراء، والنون - وهو الحوت - يعيش في البحر، فكيف يتآلفان؟! وقديمًا قيل: إن يهبط النون أرض الضب ينصره يضلل ويأكله قومٌ غراثينُ [19] نقله الشوكاني بالمعنى، ونص كلامه: " نزلت في قوم من أهل مكة هموا بالإسلام ثم قالوا: إن محمدًا يقول: إن من عبد الأوثان، واتخذ مع الله آلهة، وقتل النفس، لا يغفر له، وقد فعلنا كل هذا، فأعلم الله تعالى أن من تاب وآمن غفر الله له كل ذنب؛ فقال: ﴿ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ الآية"؛ انظر: تفسير الواحدي (ص: 936). [20] يشير إلى القاعدة المعمول بها عند جماهير الفقهاء والأصوليين وغيرهم، وهي: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
والمعنى: إذا ورد اللفظ العام على سبب خاص فهو على عمومه، حتى يدل دليل على إرادة القصر على السبب.
والله أعلم. [21] فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير(4/667).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١