أرشيف المقالات

قرض المنافع

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2قرض المنافع
المنفعة لغة: مأخوذة من النفع، وهو الخير والإفادة وما يتوصل به الإنسان إلى مقصوده [1].   وهي عند الفقهاء: ما قابلت الأعيان، وهي الأعراض المستفادة من الأعيان كسكنى الدار وركوب الدابة [2].   وفي إقراض هذا النوع من المنافع خلاف بين العلماء.   اختيار ابن تيمية: اختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - جواز قرض المنافع خلافاً للمشهور من مذهب الحنابلة [3].   القول الأول: لا يجوز قرض المنافع.   وهذا مذهب الشافعية [4]، والحنابلة [5].   أما الحنفية فليس لهم قول صريح، لكن يتخرج على مذهبهم قول بعدم الجواز؛ لأن المنافع غير قابلة للملك عندهم، وإنما قدر وجودها في الإجارة عندهم للضرورة، وعليه فلا يجوز قرض المنافع؛ لأنها لا تملك، والقرض تمليك لعين مع لزوم رد البدل [6].   القول الثاني: أنه يجوز.   وهو مذهب المالكية [7] وجعلوه من الإجارة، وهو قول عند الشافعية [8].   ويتخرج قول عند الحنفية بالجواز، قياساً على قولهم بأن العارية تمليك المنافع، والقرض تمليك ورد بدله، ومنه المنافع المقرضة [9].
وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.   أدلة القول الأول: 1- أن من شرط صحة القرض أن يكون معلوم القدر حتى يمكن رد بدله، والمنافع يصعب تقديرها، فلا تتحقق المماثلة الواجبة، ويكون هناك تفاضل ممنوع، ولذا لا يصح السلم فيها لعدم انضباطها [10].   ونوقش: أ- أنه يمكن تقويم هذه المنفعة لمعرفة قيمتها، وبذلك تزول الجهالة. ب- أن باب القرض مبني على الرفق والمسامحة. ج- ثم ما وجد من التفاضل هو شيء يسير غير مقصود فلا يؤثر.   2- إذا أسكنه داره ليسكنه داره كما في الصورة التي ذكر ابن تيمية جوازها صار من قبيل القرض الذي جر نفعاً، وهو محرم[11].   ونوقش: أ- أنه من باب المرافق، والمرافق يتسامح فيها ما لا يتسامح في غيرها. ب- ثم من الفقهاء من خرجها على أنها إجارة أو عارية، وعليه فلا إشكال [12].   ج- ثم إذا كانت المنفعة للطرفين بلا ضرر على أحدهما فلا دليل على منع ذلك.   3- أن قرض المنافع لا يجوز؛ لأنه غير معهود في العادة والعرف [13].   ونوقش: أ- أن عدم جريانه في العرف لا يلزم منه التحريم. ب- أن الأصل في المعاملات الإباحة.   أدلة القول الثاني: 1- القياس على العارية بشرط العوض، وهذا جائز عند المخالفين، حيث جوزه الحنابلة في قول مشهور عندهم [14] وغيرهم.   2- أن القرض عقد إرفاق وقربة، ويتسامح فيه ما لا يتسامح في غيره من عقود المعاوضات، ولذا استثني من قاعدة الربا، وهنا في هذه الصورة مصلحة لهما بلا ضرر على أحدهما فتجوز [15].   وقد قرر ذلك شيخ الإسلام فذكر أن القرض من جنس التبرع بالمنافع كالعارية، ولهذا سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - منيحة، فقال: "أو منيحة ذهب أو منيحة ورق" [16].   ثم ذكر أن باب العارية أصله: أن يعطيه أصل المال لينتفع بما يستخلف منه ثم يعيده إليه، فتارة ينتفع بالمنافع كما في عارية العقار، وتارة يمنحه ماشية ليشرب لبنها ثم يعيدها، فإن اللبن والتمر يستخلف شيئاً بعد شيء بمنزلة المنافع، ولهذا كان في الوقف يجري مجرى المنافع، والمقرض يقرضه ما يقرضه لينتفع به، ثم يعيد له بمثله، فإن إعادة المثل تقوم مقام العين.   ولهذا نهي أن يشترط زيادة على المثل، كما لو شرط في العارية أن يرد مع الأصل غيره.   ونوقش: أن هذا من باب البيع.   وأجيب عن المناقشة: إن العاقل لا يبيع درهماً بمثله من كل وجه إلى أجل ولكن قد يكون في القرض منفعة للمقرض كما في مسألة السفتجة، ولهذا كرهها من كرهها، ثم قرر ابن تيمية أن الصحيح أنها لا تكره؛ لأن المقترض ينتفع بها أيضاً، ففيها منفعة لهما جميعاً إذا أقرضه [17].   ومع تسليم المخالفين بأن القرض عقد إرفاق إلا أنهم جعلوه بعكس ذلك، بمنعهم عدداً من الصور التي لا محذور فيها ولم يرد فيها نص، وفيها مصلحة لهما بلا أدنى ضرر على أحدهما.   3- أن الأصل في المعاملات الإباحة، وإذا قيل هذا في باب المعاوضات فباب الإرفاق والتبرع أولى بذلك وأحرى.   الترجيح: والراجح - والله أعلم - هو القول الثاني: 1- لقوة أدلته ووجاهتها. 2- ضعف أدلة المخالفين ومناقشتها بما يفيد ضعفها. 3- موافقة هذا القول للقواعد الفقهية في باب المعاملات كقاعدة: أن الأصل في المعاملات الإباحة، والله أعلم.


[1] انظر: المصباح المنير: مادة نفع، تهذيب الأسماء واللغات: 3/171، لسان العرب: 14/242، الصحاح: 3/1292. [2] انظر: المبسوط: 11/78، الهداية لأبي الخطاب: 1/149، الإشراف للقاضي عبدالوهاب: 2/66، المعونة: 2/1087، شرح حدود ابن عرفة للرصاع التونسي: 556، تهذيب الفروق: 4/8، حاشية الدسوقي: 4/20، تحفة المحتاج: 7/60، مجموع الفتاوى: 30/199. [3] انظر: الفتاوى الكبرى: 5/394، الفروع: 4/202، الاختيارات: 131، الإنصاف: 5/125، كشاف القناع: 3/314، مطالب أولي النهى: 3/240، المستدرك: 4/21. [4] انظر: روضة الطالبين: 4/33، أسنى المطالب: 2/142، شرح البهجة الوردية: 3/67، تحفة المحتاج: 5/42، مغني المحتاج: 2/162، نهاية المحتاج: 4/225، حاشية الجمل: 3/257. [5] انظر: الفروع: 4/202، المبدع: 4/205، الإنصاف: 5/125، كشاف القناع: 3/314، مطالب أولي النهى: 3/240، حاشية ابن قاسم: 5/38. [6] انظر: الهداية: 3/219، شرح فتح القدير: 9/10، شرح العناية: 9/10. [7] انظر: التاج والإكليل: 7/299، شرح الخرشي: 6/123، حاشية الدسوقي: 3/435، بلغة السالك: 3/573، منح الجليل: 7/54، الذخيرة: 5/292. [8] انظر: حاشية الشرواني: 5/42، حاشية ابن قاسم العبادي: 5/42، أسنى المطالب: 2/142، شرح البهجة: 3/67، تحفة المحتاج: 5/42. [9] انظر: تبيين الحقائق: 5/83، شرح العناية: 9/3، شرح فتح القدير: 9/3، الجوهرة النيرة: 1/350، البحر الرائق: 7/280، مجمع الأنهر: 2/348. [10] انظر: روضة الطالبين: 4/33،الإنصاف: 5/125. [11] انظر: الاختيارات: 131. [12] انظر: التاج والإكليل: 7/299، منح الجليل: 7/54، حاشية الخرشي: 6/123، تبيين الحقائق: 5/83، شرح فتح القدير: 9/10. [13] انظر: مطالب أولي النهى: 3/240، كشاف القناع: 3/314. [14] انظر: كشاف القناع: 3/314، قواعد ابن رجب: 48 ق 38، الإنصاف: 6/105، مطالب أولي النهى: 3/240، 4/382، تبيين الحقائق: 5/102، نهاية المحتاج: 5/125. [15] انظر: الفتاوى الكبرى: 6/17، المنثور في القواعد: 3/186، أسنى المطالب: 2/142، كشاف القناع: 3/313. [16] مسند أحمد: 4/296، سنن الترمذي: 4/340، كتاب البر والصلة، باب37، رقم الحديث1957 وقال حسن صحيح غريب من حديث البراء، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح: 10/88. [17] انظر: مجموع الفتاوى: 29/514، وانظر: 29/73.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير