أرشيف المقالات

صور وخواطر

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 بعد المرض للأستاذ علي الطنطاوي .

يقولون إن الإنسان يأكل ليعيش، ولكني أعيش في هذه الأيام لآكل.
آكل بشراهة ونهم، حتى أحس الامتلاء ولا يبقى في المعدة مكان لذرّة.

فأدع الطعام آسفاً، وأنظر إلى الأطباق وما فيها نظرة المودّع الحزين، ثم أقوم إلى كتابي فأفتحه، أو إلى شباكي أطلّ منه، أتلهى بهذا أو بذاك حتى أحس أو أتوهم أني أحس جوعاً، فأدعو بالطعام، أو تمضي ثلاث ساعات، فآكل ولو لم أكن جائعاً.

ألم يقل لي الطبيب: كلْ كلّ ثلاث ساعات؟! ذلك لأني لبثت عشرين يوماً أشتهي قطعة الخبر، فأطلبها وألح في طلبها، فتمتنع عني، وأحرمها فأراها في منامي، وأحلم بها في يقظتي تجسمها لي أمانيّ وأفكاري، فأتخيل أين قد نلتها، فإذا أنا لم أنل إلا هذا اللبن (الحليب) الذي برمت به واجتويته، والذي يفضل المريض رؤية عزرائيل على رؤيته يطالعه في الصباح وفي المساء، والذي كرهت لأجله كل أبيض، حتى بياض الفجر وبياض النحر.

والذي أصبح قذىً في عيني لا أطيق رؤيته، وسمّاً في فيّ لا أقدر على تذوقه.

ثم فرّج الله عني بعد الضيق وأنالني ما أشتهي من الأطعمة وأريد، فكيف لا أهجم عليها بشراهة ونهم، وكيف تبلغ بي الحماقة أن أقوم عن المائدة وفي الأطباق بقية؟ لا أكاد أشبع من الطعام ولا من القراءة، ولا من النظر في هذا الفضاء الفسيح، وهذه الجنات المتسلسلة تبدو من شباكي يعانق بعضها بعضا، حتى يستلقي آخرها في أحضان قاسيون.
لا أكاد أشبع من شيء، لأني خرجت من هذا المرض كمن ولد ولادة جديدة، فهو لا يعرف الدنيا قط وهو ينظر إليها بعيني طفل ذكي يدهشه كل شيء ويود لو يمتلكه ويأكله أو تحتويه يده.

ولأني خرجت منه ضعيفاً مهدوداً، ولقد كنت من قبله قوياً نشيطاً.
استحممت يوماً في البحر، ثم خرجت منه متوثباً متحفزاً، أكاد أطير مما أحس في جسمي من النشاط، فسرت على الشاطئ حتى حاذيت الصخرة (الروشة!)، تلك الصخرة القائمة في البحر كأنها الطاق العظيم، أو كأنها قوس نصر، أقامه الماء الهيّن الليّن الذي انتصر بصبره وثباته في جهاده، على هذه الصخرة العاتية المتكبرة، فجعلها فارغة جوفاء، ولا تزال على عتوها وكبرها سنة الله في المتكبرين، لا يكونون إلا فارغين.

تلك التي يدعونها في بيروت صخرة الانتحار، لأن المجانين أعداء أنفسهم وأوطانهم، يلقون بأنفسهم منها يثبون إلى.

إلى جهنم! وكانت الشمس مائلة إلى المغيب، تمنح البحر آخر هباتها، فيبدو براقاً لامعاً، قد لبس حلّة من النور، فأكبرت هذه المخلوقات: الشمس والبحر والصخر، ووقفت صاغراً حيال عظمة الطبيعة وجلال الطابع (جلّ جلاله)، ثم غلب عليّ هذا النشاط الذي أحسّ، وبلغ دماغي فملأه ادعاء وكبراً وغروراً؛ والمرء في فكره وعواطفه خاضع أبداً لحالة جسمه، ودرجة صحته، فرأيت هذا الصخر إلى زوال قد عبث به الماء، والماء إلى ذهاب قد بخرته الشمس، والشمس إلى غياب قد ابتلعها البحر، ورأيتني وحدي الذي يبقى، أنا الذي فتّت الصخر، وأنا الذي أذلّ البحر، وأنا الذي اتخذ الكون كله معمل تجارب لعقله وسخّره لمنفعته، وأنا الذي يحوي في صدره عالماً أكبر من هذا العالم، ونوراً أبهى من هذه الشمس وعواطف أعمق من هذا البحر، وأرقّ من هذا الماء، وأشد من هذا الصخر.
وذهبت إلى المدرسة، وأنا أقول (أنا)، والعياذ بالله من (أنا) فإنها كلمة إبليس.

ذهبت ماشياً فأكلت من ساعتي أكل من لبث في البحر ساعتين، ومشى ساعة كاملة، من (الروشة) إلى الحرج، وكانت سكرة النشاط، ونشوة (أنا) لا تزال ضاربة في رأسي، فذهبت مع الطلاب أمشي وأعدو وأثبت، وأفعل كل ما لا يفعل عاقل، ولم أعد إلى المدرسة إلا غارقاً في العرق فشربت قازوزتين مثلجتين من (القازوز)، وصارعت.

واغتسلت بالماء البارد، ونمت فأصبحت مريضاً! يا لهذاالمغرور الأحمق الذي أصاب ذرة من العلم، وعبث بالكون عبث الوليد، يرفع ويضع فلم يعد يرضيه إلا أن يدّعي الألوهية، أو (يؤلّه هذا العلم).

يا لهذه القوة الكاذبة، وهذه السطوة الفارغة، هذا القويّ الجبار الذي فتت الصخر، وأذلّ البحر، يذله مخلوق من أصغر مخلوقات الله، لا تراه لهوانه العين؛ يعيش الملايين منه في قطرة ماء، مخلوق واحد من أضعف المخلوقات يلقي الإنسان محطوماً، ويطّير هذه الأفكار كلها من رأسه حتى يعود ذليلاً خانعاً.

فكيف ويحك لو أصابك الله بعذاب من عنده؟ يا للأحمق المغرور! أصبحت فإذا أنا قد نسيت أفكار الأمس ونسيت الأمس كله وأحسست بالبعد عن الدنيا التي آلفها وأحبها.
ولقد انقطعنا مرة في قلب جزيرة العرب، وتهنا في رمالها الموحشة سبعة عشر يوماً نسير وراء حدود العالم مع الوحش والآكام، والشمس والعطش والموت، فما أحسست بأني بعيد عن الدنيا ولا بلغ بي ذلك كله ما بلغ بي هذا المرض القصير.

لقد أصبحت بلا ماض ولا مستقبل ولا حاضر إلا هذا الحاضر الضيق الأليم الذي يستقر في بطني حيث (الزائدة) الملتهبة، وفي خاصرتي حيث الرمل في الكلية.
اصطلحت عليّ العلل، واجتمعت المتناقضات، فالالتهاب لا يطفئه إلا كيس الثلج، ونوبة الرمل لا يصلحها إلا الماء الحار، فإن داويت هذه زدت تلك، وإن عالجت تلك انتقضت هذه.
أنساني المرض كل شيء، حتى ما أذكر أني كنت يوماً من الأيام أمشي وآكل وأشرب واقرأ وأكتب وأمارس أنواعاً من الرياضة، ولا أذكر أني كنت أستطيع التفكير في آلاف المسائل وأعالج المئات من الأمور، وماتت الدنيا في عيني، وأصبح هذا الألم دنياي كلها، فأنا أطلق الفكر من عنانه، فلا يخرج عنه، ولا يجول إلا فيه، يتخيل أبشع أنواع المرض، وأفظع ألوان الخطر ثم ينطلق الفكر إلى العملية التي أكد الأطباء أنه لابد منها، فلا يكاد يشرع في تصورها حتى تسود الحياة في عيني، وأراها كلها ألماً وشراً، وأتمنى أن لو كان أبي على مذهب المعري، أو لو أن أمي لم تلدني.

ويوسوس لي الشيطان أن ما حق أبيك في أن يقضي عليك فيجيء بك، أليست حياتك متعلقة بك وحدك؟ فهل استشارك فيها، أو هو قد ضحى بك وبحريتك وسعادتك في سبيل لذته، أو هو لم يفكر فيك أبداً، ولم تخطر له على بال؟.

فأرى الشيطان يريد أن يزيدني على مرض جسمي مرض ديني، فألعن الشيطان وما جاء به، وإن مما يجيء به الشيطان لما يسمونه فناً وابتكاراً وتجديداً، ولكنه يبقى أبداً فناً شيطانياً.

أدع هذا وأعود بفكري إلى سرير العمليات الذي حملني إليه المدير مرة ووكل بي الممرضات، وأقام عليّ طالبين يحرسانني، وذهب إلى الطبيب يحضره فوثبت أحمل أوجاعي وأناضل دون حريتي حتى بلغت الشارع حافياً، وركبت إلى الكلية أول سيارة رأيتها وأنجاني الله من العملية والأطباء.
والأطباء - والرجاء عدم المؤاخذة - قوم برئوا من العاطفة وانبتوا من الشفقة يشقون بطون الناس - نسأل الله السلامة - ويخرجون أمعاءهم فيضعونها في طبق.

ويكسرون جماجم البشر، ويعبثون في أدمغتهم ويفعلون ما لو فعله غيرهم للحقه الشرط، واصطف له القضاة، وفتحت له أبواب السجون، وأعدت له حبال المشانق؛ ثم يتصدرون المجالس يفتخرون بأنهم أصدقاء الإنسانية أفأعطيهم بطني ليشقوه، ويردوني مريضاً بعد إذ أنا معافى وأتعجل الداء بنفسي؟ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين لم يكن يفزعني شيء وأنا مريض مثل ما يفزعني الليل بسواده وامتداده.
كنت أخافه أشد الخوف، وأحسب لمجيئه الدقائق والثواني، وأرقبه كما يرقب المحكوم ساعة القتل، ذلك أني لم أكن أستطيع النوم ولا أطيق الجلوس، وإنما أستطيع أمراً واحداً، هو الاضطجاع على قفاي أحدّق في السقف ليلاً ونهاراً.

ولطالما رأيت في السقف بقعة سوداء، فخيل إليّ لطول التحديق فيها، أنه حية تريد أن تنقضّ عليّ أو رتيلاء كبيرة ذات تسع وتسعين رجلاً وعشرة رءوس، أو مجموعة من العقارب أو عفريت من الجن، أو جني من العفاريت، فأصيح فزعاً وأنطلق أهذي هذيان محموم حرارته أربعون.
إني لأضحك الآن، وأكركر من الضحك حين يعيدون عليّ ما كانوا يسمعون مني إذ أهذي، وأرى فيه صورة واضحة لكثير مما نقرأ في الصحف والمجلات ينشره أصحابه على أنه أدب، ويقرؤه الناس على أنه ثرثرة وهذيان محموم! وكان أحبّ شيء إليّ وأنا مريض أن يكثر الناس من حولي، ثم يتحدثوا شتى الأحاديث لأخلص من وحدتي وأتسلى عن ألمي وأذكر جانباً مما في الحياة.

ولكني كنت أسمع أصواتهم كأنها خارجة من جوف بئر سحيق، أو أعماق مغارة بعيدة، وأراهم من خلال ضباب كثيف، فلا أتبين صورهم ولا أصواتهم، وسرعان ما أملّ منهم وأطلب جديداً.
كانت أيامي متشابهة متشاكلة، فكنت أحب أن أجد كل لحظة شيئاً جديداً ضعفت قواي وضاعت إرادتي ولم يبق لي طاقة على المشي، ولا قدرة على المحاكمة العقلية، ولم يبق حياً فيّ إلا لساني.

أكل ذلك لأن جرثومة صغيرة دخلت جسمي.
؟ يا لضعف هذا الإنسان القويّ! تألمت في هذا المرض لكني تعلمت.
تعلمت في الحياة درساً جديداً، وما الحياة إلا دروس.

هو أن المرض نعمة ليس بنقمة، وأنه لازم للإنسان لا يدرك قيمة الصحة ولا يعرف معنى الحياة ولا يرجع إلى نفسه إلا إذا مرض، هنالك يدرك معاني هذه الأشياء التي يمرّ بها وهو صحيح مراً سريعاً لأنه مشغول عنها بما لا نهاية له من الصغائر والترهات، وإن للمريض - قبل كذة الصحة - لذتين، لذة هذا العطف الذي يحاط به والحب الذي يغمره، ولن أنسى أبداً عطف مدير الكلية وناظرها عليّ وحبّ الطلاب إياي وإني لأسيغ ذكرى الألم إذا تصوّرت هذين الطالبين اللذين كانا يقيمان الليل كله بجانبي، إذا قلت آه أو انقلبت من جنب إلى جنب كانا واقفين أمامي.
آثراني على أهلهما وفضّلاَ راحتي على راحتهما، أما عطف اخوتي وأهلي فلست أذكره.
ولذة أخري، وهي اللذة الكبرى التي يجدها ساعة يلجأ إلى الله، ويدعوه مخلصاً مضطراً، وكنت إذا وصف لي مريض به مثل ما بي اليوم، يُدار بي من الرثاء له، والخوف مما هو فيه فلما غدوت مريضاً، لم أجزع ولم أخف، وكانت تمر بي لحظات أضيق فيها بهذا القيد إلى السرير وهذا الألم، ويبلغ بي الضيق في الليل أقصاه، ولكنها كانت تمر بي لحظات كنت أرضى فيها كل الرضى، وأفئ فيها إلى ربي، وأرى ما أنا فيه امتحاناً لصبري، ونعمة من الله تزيد في أجري، فأطمئن ويبلغ بي الأمر إلى أكثر من الاطمئنان إلى نوع من اللذة الخاصة لا أشعر بمثلها في الصحة، وإلى لون من النشاط والقوة لا أعرفه قط وأنا معافى، وأحسب أن لو أصبت بأشد الأمراض وأقواها، وأنا أقدر على هذا الرضا، وأحس هذا الاطمئنان لما وجدت فيه إلا لذة.
هذا ما كنت أجده لا أبالغ ولا أتخيل، فأرجو أن يصدقني القراء، وهذه نعمة من نعم الله الخفية على الإنسان، ومظهر من مظاهر القوة الهائلة التي أعطاه، فلا يحكم الإنسان على المريض أو البائس بظاهره.
فيشك في عدل الله ورحمته، ولكن ليدخل إلى الداخل، لعل وراء الجدار الخرب قصراً عامراً، ولعل خلف الباب الضخم كوخاً خرباً، ولعل في هذه الثياب الرثة، وهذا الجسم الممزّق البالي نفساً مشرقة سعيدة وإنساناً كاملاً.
وتعلمت من المرض أن المساواة التامة هي سنة الله في الحياة.
انظروا المرض هل يعرف غنياً أو فقيراً؟ هل يمتنع منه الملك الجبار رب القصر والحراس؟ وهل تمنع أبوابه وجنده هذا المخلوق التافه الصغير من الدخول؟ سد الأبواب، وأغلق النوافذ، وأقم الجند بالسلاح، وعش في صندوق مغلق، إنه يدخل مع الهواء الذي تنشقه، والماء الذي تشربه، والطعام الذي تأكله، ويحتل جسمك، ويعيش في عينك وفمك، ويسبح في دمك ترفع عن المساكين، وتكبر على الفقراء يرجعك المرض إلى صفوف المساكين والفقراء، فتألم كما يألمون، وتصيح مثل ما يصيحون، وكل ما في الحياة يسوّى بينك وبينهم؛ هل تنشق أيها الغني من الهواء هواء معطراً، وينشقه الفقير بغير عطر، أم إن الهواء وهو قوام الحياة لك وله، قد سوى فيه بينك وبينه؟ هل تشرب ماء العيون معسولة مذاباً فيها السكر، ويأخذها الفقير ملحاً أجاجاً.
.
إن الهواء والماء والشمس والقمر والصحة والمرض والولادة والموت كل أولئك سطور خط فيها الله على صفحة الحياة: إن الناس متساوون.
هل سمعتم أن ابن الملك يولد إذ يولد مرتدياً الحرير، يمشي على رجليه إلى سريره ويلقي بنفسه خطبة ميلاده، ويشرف من شباكه على شعبه، وابن السوقي يولد أخرس عارياً؟ افتحوا القبر المجصص الفخم، وارفعوا ما فوقه من نصب وتماثيل وكتابات ونقوش هل تجدون فيه عظاماً تضوع بالمسك، وتفوح بالند، لأنها كانت تلبس الحرير، وترتدي الديباج؟ هذا ما تعلمته من المرض! وبعد، فلقد أطلت الكلام، وآن أوان الطعام، ولابد من قطع هذا الحديث! وأنا أحمد الله على الصحة والمرض، وأحمده على كل حال (بيروت) علي الطنطاوي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣