أرشيف المقالات

مصرع شجرة الدر

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للأستاذ محمد عبد الله عنان كانت كليوباتره آخر ملكة جلست على عرش مصر الفرعونية، وكانت شجرة الدر أول وآخر ملكة جلست على عرش مصر الإسلامية.
وكانتا كلتاهما آية الجمال والسحر، وعنوان البطولة والحزم، زينة الملك، وملاذ العرش والدولة؛ وقد لقيتا كلتاهما مصرعها في ظروف روائية مؤثرة؛ ولكن بينما تحيط الأسطورة بحياة كليوباترة وتكاد تغمر حوادث مصرعها، إذا بشخصية شجرة الدر تبرز واضحة خلال الفترة القصيرة التي تبوأت فيها عرش مصر، وإذا مصرعها مأساة قصر تحيط بها جميع العوامل والظروف التي تجتمع حول مآسي القصور لم تكن شجرة الدر كما تريد أن يصورها القصص أحياناً، غانية قصر تعتمد على سحرها النسوي فقط في تبوء المكانة التي سمت إليها؛ ولكنها كانت فوق سحرها الجم، امرأة رفيعة الخلال وافرة الذكاء والعزم؛ بدأت حياتها جارية وحظية للصالح نجم الدين أيوب ولد الملك الكامل ملك مصر مذ كان نائباً عن أبيه بالولايات الشرقية.
ولما توفي الملك الكامل، وتولى ولده الملك العادل دون أخيه الأكبر الصالح نجم الدين، وأعلن الصالح الثورة على أخيه بقيت شجرة الدر إلى جانبه في جميع الوقائع والخطوب التي خاضها، وشاركته مرارة الحرمان والأسر.
ولما خلع الملك العادل وتولى الصالح مكانه ملك مصر في سنة 637هـ تألق نجم شجرة الدر وتبوأت ذروة النفوذ والسلطة وغدت كل شيء في البلاط وفي الحكومة.
وكان الصالح قد فتنته خلالها الرفيعة فأعتقها وتزوجها، ورزق منها ولداً يدعى خليل.
ولم تبق بعد حظية تسمو بجمالها وسحرها، ولكنها غدت سيدة القصر الشرعية، وأم ولده المحبوب؛ كانت هذه الجارية التركية أو الرومية تلعب يومئذ في بلاط القاهرة نفس الدور الذي لعبته من قبل صبح النافارية (البشكنسية) جارية الحكم المستنصر وأم ولده المؤيد في بلاط قرطبة.
ولما توفي ولدها خليل حدثاً بعد ذلك بأعوام قلائل، لم تزعزع هذه الضربة الأليمة مركزها، بل لبثت محتفظة بنفوذها وتأثيرها في توجيه الشئون ولما قدم الفرنج الصليبيون إلى المياه المصرية بقيادة ملكهم لويس التاسع في أوائل سنة 647هـ (1249م)، وحاصروا دمياط، كان الملك الصالح مريضاً وكان البلاط في حيرة، وكانت مصر تضطرب من أقصاها إلى أقصاها؛ فأبدت شجرة الدر في هذه الآونة العصيبة ثباتاً مدهشاً، واستطاعت بعزمها وبراعتها أن تسير الشئون، وأن تشرف على أحوال الدفاع؛ ثم توفي الملك الصالح بعد ذلك بأشهر قلائل، فأخفت شجرة الدر نبأ وفاته، حتى استقدم ولده ثوران شاه من الشام، ولبثت مدى حين تخرج الأوامر والمناشير ممهورة بالعلامة السلطانية.
ولما وصل ثوران شاه إلى مصر وتقلد الملك باسم الملك المعظم، أساء السيرة، واختلف مع شجرة الدر ومع مماليك أبيه، فأتمروا به وقتلوه لنحو شهرين فقط من ولايته، واتفقوا على تولية شجرة الدر، فتبوأت عرش مصر في عاشر صفر سنة 648هـ وكانت ولاية شجرة الدر حادثاً فريداً في التاريخ الإسلامي، فلم تجلس امرأة قط من قبلها أو بعدها على عرش مملكة مسلمة مستقلة؛ وكان للحادث وقع عميق في العالم الإسلامي حتى قيل إن الخليفة المعتصم بالله العباسي نعى على مصر أن تجلس على عرشها امرأة، ونعاه بعض فقهاء العصر.
وشعر المماليك الذين ولوها بهذا الشذوذ، فعينوا إلى جانبها أميراً منهم هو عز الدين أيبك التركماني ليكون مقدماً للعسكر ومشرفاً على الشئون.
ودعى لشجرة الدر على المنابر، ونعتت في الخطبة (بالجهة الصالحية ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية، صاحبة السلطان الملك الصالح) وكانت علامتها على الأوامر والمراسيم: (والدة خليل).
وتولت شجرة الدر الأمور بحزم، وكان الجيش المصري قد استطاع في تلك الأثناء أن يقف زحف الصليبيين وأن يسحقهم في موقعة المنصورة الشهيرة (المحرم سنة 648)؛ وأُسر لويس التاسع وعدد كبير من أُمرائه، وبدأت مفاوضات الصلح بين الفريقين، فأشرفت شجرة الدر على هذه المفاوضات، وانتهت بانسحاب الفرنج من الأراضي المصرية والإفراج عن ملكهم لقاء فدية كبيرة؛ وأبدت شجرة الدر في ذلك كله براعة ومقدرة تخلق بأعظم الرجال على أن شجرة الدر كانت تشعر بضعفها كامرأة فرأت أن تتزوج من عز الدين أيبك، فتقوي بذلك مركزها كملكة، وتدعم عصمتها كامرأة.
ولما شعرت أن هذا الزواج لم يحقق كل شيء، ورأت أن جلوسها على العرش قد أثار الفتنة في الشام ويخشى أن يثيرها في مصر، نزلت عن العرش لزوجها، وجلس أيبك مكانها على عرش مصر باتفاق المماليك البحرية باسم الملك المعز، وذلك في آخر ربيع الآخر، وبذلك لم يطل ملك شجرة الدر أكثر من ثمانين يوماً وعادت شجرة الدر امرأة وزوجاً فقط، ولكنها لبثت كما كانت أيام زوجها الأول الملك الصالح سيدة القصر والبلاط، وكان المعز طاغية ظلوماً، ولكنه كان يخشى هذه المرأة القوية التي رفعته إلى الملك، ويصدع بأمرها ووحيها؛ وكانت شجرة الدر كثيرة الغيرة بالرغم من كونها قد جاوزت سن الشباب، فأرغمت المعز على طلاق زوجته الأولى، وكانت تحدث بينهما المناظر العاصفة من وقت إلى آخر.
ولما سئم المعز هذه الحياة الزوجية النكدة فكر في اختيار زوجة أخرى، وبعث بالفعل إلى بدر الدين صاحب الموصل يخطب ابنته؛ ولعله لم يكن في الوقت نفسه بعيداً عن التفكير في التخلص من شجرة الدر، والتحرر من نيرها المرهق؛ ولكن شجرة الدر كانت ترقبت حركاته ومشاريعه، فثارت نفسها سخطاً وكبرياء، وأدركت بثاقب فكرها وخبرتها لدسائس القصر أنها إذا لم تبادر إلى التخلص منه، فإنه سيعاجلها بالتخلص منها فلم تضع وقتاً، ولجأت إلى دهاء المرأة وخديعتها؛ وكان المعز يقيم منذ أيام في مناظر اللوق بعيداً عنها، فبعثت إليه تتلطف به وتدعوه إلى قصر القلعة، فاستجاب إليها المعز؛ وكانت قد رتبت له من غلمانها خمسة ليقتلوه، وعلى رأسهم الخادم سنجر الجوهري.
وفي مساء اليوم الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة 655هـ ركب المعز إلى القلعة، فاستقبلته شجرة الدر بحفاوة، وبعد أن مكث حيناً دخل الحمام فانقض عليه الغلمان الخمسة وهو عار لينفذوا فيه حكم الإعدام الذي أصدرته شجرة الدر.
وتنقل الرواية إلينا عن مصرعه روايات مثيرة، فيقال إن القتلة أخذوا بخصيتيه حتى زهق، أو أن شجرة الدر أخذت تضربه بالقبقاب على رأسه وهو يستغيث حتى أجهزت عليه.
وعلى أي حال فقد تمت الجريمة وقتل المعز قتلة مروعة بتحريض زوجه الغادرة الخؤون وحاولت شجرة الدر على أثر ذلك أن تقيم في السلطة أميراً آخر تستتر وراءه في الحكم فلم توفق؛ ونادى الأمراء المعزية بتولية الملك المنصور ولد المعز، وهو يومئذ صبي في نحو الخامسة عشرة، ووافق الأمراء الصالحية على توليته اتقاء الفتنة؛ وامتنعت شجرة الدر بجناحها بالقلعة مع نفر من خدمها وجواريها، وطالب الأمراء المعزية بالقبض عليها، وحاولوا اقتحام الدار فمنعهم الأمراء الصالحية حماية لشجرة الدر، وكادت تقع بين الفريقين فتنة لولا أن تعهد الأمراء المعزية بتأمين شجرة الدر وعدم التعرض لشخصها.
وفي اليوم التاسع والعشرين من ربيع الأول أُخرجت شجرة الدر باتفاق الفريقين من جناحها الملكي واعتقلت في البرج الأحمر أحد أبراج القلعة مع بعض جواريها، وقبض على الخدم الذين اشتركوا في الجريمة وزعيمهم سنجر وصلبوا جميعاً، وأعدم عدة كبيرة من الغلمان والطواشية، وقبض على الوزير الصاحب بهاء الدين بن حنا بتهمة الاشتراك في الجريمة، ولم يفرج عنه إلا بعد أن افتدى نفسه بمبلغ طائل وأصر الأمراء المعزية بعد ذلك، بتحريض الملك المنصور وأمه، على معاقبة شجرة الدر، واعترض الأمراء الصالحية أياماً؛ ولكنهم كانوا الفريق الأضعف فلم تغن معارضتهم شيئاً.
وفي يوم السبت الحادي عشر من ربيع الثاني (أو الجمعة 17 منه على رواية أخرى) نفذ المماليك المعزية إلى البرج الأحمر، وقبضوا على شجرة الدر، وحملوها إلى أم الملك المنصور لكي تتولى عقابها بنفسها.
وهنا يقول لنا المقريزي (فضربها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت في يوم السبت؛ وألقوها من سور القلعة إلى الخندق وليس عليها سوى سراويل وقميص، فبقيت في الخندق أياماً، وأخذ بعض أراذل العامة تكة سراويلها، ثم دفنت بعد أيام - وقد نتنت وحملت في قفة - بتربتها قرب المشهد النفيسي؛ وكانت من قوة نفسها، لما علمت أنها قد أحيط بها، أتلفت شيئاً كثيراً من الجواهر واللآلئ كسرته في الهاون) وهكذا زهقت تلك التي لبثت مدى أعوام طويلة زينة البلاط المصري وصاحبة الحول والسلطان فيه؛ وزهقت بنفس الأسلوب المروع الذي زهق بها زوجها الملك المعز؛ وكان القصاص مثيراً ولكن عادلاً، وكان الفصل الأخير مأساة قصر بدأت رائعة باهرة، ثم انحدرت إلى ظلمات الجريمة محمد عبد الله عنان

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢