أرشيف المقالات

ثورة على الأخلاق

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 للدكتور عبد الوهاب عزام يا أخي صاحب الرسالة! أبلغ أخي محمودا الذي لا أعرفه هذه الكلمة عني: (قرأت في الرسالة ما نقله الأستاذ الزيات من رأيك في مزايا الأخلاق والفضائل فهالني ما قرأت، وعزمت على أن أبادر بالكتابة إليك على ضيق الوقت وفتور الصيام.
وكيف لا يرتاع من يسمع أن رجلاً من ذوي الأخلاق خاب ظنه فيها فثار عليها ويئس منها؟ فاقرأ يا أخي كلمتي ثم أبِن لي رأيك من بعد: دخل أعرابي مسجد المدينة ورسول الله وأصحابه هناك فصلى ثم دعا فقال: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحدا) فضحك صلوات الله عليه وقال: (لقد حجّرت واسعاً يا أعرابيّ). وكذلك أنت يا أخي قد حجّرت واسعاً حين خيّل إليك أن دائرة عملك التي (وسَّعتها بمقدار ما استلزمه هذا العمل من ملابسة الشعب ومراجعة الحكومة) هي الأمة كلها، وأن الأمة هي العالم كله، وأن العالم الحاضر هو الزمان كله.
وإن شئت أن تقول إني لم أحجّر واسعاً ولكني وسّعت محجّرا فلك رأيك، والنتيجة في الحالين واحدة أود قبل أن أناقشك في رأيك أن أعدّك موافقي، كما وافق صديقنا الزيات، على أن الخلق الفاضل سبيل إلى سعادة صاحبه وطمأنينته ما في هذا ريب، وأن الرجل الحرّ الأبيّ الفاضل يعيش في سعة من نفسه، وعزة من خلقه، ونعيم من وجدانه، لا يدركها أصحاب الجاه العظيم والثراء العريض ممن وجدوا كل شيء وفقدوا أنفسهم، وأن الحرّ الكريم يرى نفسه في عزتها وحريتها ورضاها فوق هذا العالم الذي تباع فيه النفوس رخيصة وتبذل فيه القلوب ذليلة، ويعدّ نفسه أسداً قوياً مهيباً قد ربض حجرة من معترك الذئاب ومُهتَرش الكلاب إنما خلافنا في النجاح في المعايش ونيل الجاه والثروة؛ أسبيله الخلق القويم أم العمل الذميم؟ وإني أعجّل لك الجواب في قضية نتفق عليها لنفرغ لما بعدها فأقول: حق أن الرجل التقي الحرّ الأبيّ لا يرى إلى الجاه والمال إلا طريقاً واحدة هي الطريق التي يسنّه الحق والشرف والأباء والمروءة، وأن أمام الفساق والأذلاء والأدنياء طرقاً شتى من التلصص والكذب والتزوير والخداع والنفاق والملق والذلة والشره والظلم والقسوة والأثرة وهلمّ جرّا.
وحق كذلك أن من الأحرار من يخفق في عمله حين يُلزم نفسه هذه الطريق الواحدة، ويقسرها على هذه المحجة الواضحة، وأن من العبيد عبيدِ المطامع والأهواء، ومرضى النفوس والأخلاق، من يظفرون في هذه السبل بما يريدون، ويبلغون الغاية التي يقصدون.
ولست أجحد كذلك أن الجماعة قد تعتلّ فيكثر فيها المبطلون الظافرون، والمحقّون المحرومون.
كل هذا يا أخي حق، ولكن استمع: كثيراً ما يحرم الحر الصالح لعزوفه عن معترك المطامع وصدوفه عن الاتجار في أسواق الحياة، وتنكّبه السبل التي جعلتها سُنن الجماعة وسائل إلى الجاه والثروة.
فليس إخفاق هؤلاء بأخلاقهم، ولكن بكبريائهم وتقصيرهم في اخذ الأهبة وإعداد العدة، على حين يتأهب الأشرار، ويجدّ الفجّار.
فلا جرم يخفق أولئك ويُنجح هؤلاء، فإن للحياة قوانين وللمعايش سُنناً.
والقرآن الكريم يقول: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يُبخسون.) ويقول: (كلاًّ نمد: هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظوراً.) ولكن إذا أخذ الرجل أهبته للعراك في الحياة وتسلّح بالخلق الطيب فلن يكون هذا الخلق سبباً إلى إخفاقه وسبيلاً إلى خيبته أبدا.
ربما تعتلّ الجماعة فينتصر المبطل ويخذّل المحقّ، ويفتتن بهذا كثير من الناس، ولكن هذا لا يكن ديدنا.
ثم علة الجماعة لا تدوم؛ وليست الجماعات كلها عليلة.
وما تزال الجماعات منذ ألّفها الله وعلّمها وبعث فيها الهداة المرشدين، ووضع لها السنن أيْداً لأنصار الحق وعوناً لأهل الفضيلة، وخذلاناً لجند الباطل والرذيلة.
مازال الصانع الذي يتقن صنعته، ويحسن معاملته ويصدق وعده، أنجح عملاً وأكثر مالاً من الصانع الكذاب سيئ المعاملة.
ومازال التاجر الصادق في قوله، الأمين في فعله، الذي يقلّب تجارته على شرائع من الصدق والأمانة والقناعة والإخلاص، ولا يلبس على الناس الجيد بالرديء، والغالي بالرخيص - مازال هذا التاجر أربح متجراً واملأ يداً وأحظى برضا الناس وإقبالهم من التاجر الكاذب الغاشّ الشره المخادع.
أترى في هذا ريباً؟ إن كنت في ريب فابحث كما تشاء واسأل من تشاء.
ولا يزال المزارع الذي يزرع الأرض فلا يتزيد فيما أنفق عليها، ولا يسرق من زرعها، بل يصدُق مالك الأرض فيما أنفق وما جنى؛ ومستأجر الأرض أو الدار الذي يشق على نفسه ليؤدي الأجرة في حينها؛ لا يزال هذا وذاك أحب إلى المالكين وأظفر بما يريد ولا يزال الرجل الصادق الأمين في كل جماعة وفي كل طائفة موضع المودة والثقة.
ينال بسيرته ما تقصر عنه ثروته؛ إن استقرض أُقْرض، وإن استعار أعير.
له من ثقة الناس رأس مال لا ينال منه الخسار، وتجارة لا يدركها البوار.
ربما يتَّجر في ألف وليس عنده إلا مائة، ويزرع عشرة فدادين وليس بيده إلا أجرة فدان واحد؛ ويستخدم في المتاجر والمصانع دون كفيل أو ضمين.
سل يا أخي الناس في كل قبيلة، وطالع التاريخ في كل جيل على أن الأمم في هذا مختلفات، والتاريخ درجات: أمة تسدّ الطريق على كل فاجر مخادع كذاب، وتؤثر بمالها وكرامتها كل برْ أمين صادق؛ وأمة يجد المخادعون فيها طريقاً ولكنها وعرة، ومذهباً ولكنه ضيق، ورواجاً ولكنه قليل؛ وأخرى تتسع فيها مجال الأشرار، وتروج فيها سوق الفجّار.
ولكن لا تبلغ أمة من الفساد أن تسن في الرذائل سُنَناً، وتشرع في المخازي شِرَعاً تجعل الأشرار المخادعين فائزين حيثما ساروا، وتردّ الأبرار الصادقين خائبين أين توجهوا.
مهما تشتد العلة فالخيبة أكثرها للأولين، والنجح أكثره للآخرين.
فإذا أرادت تجعل الفساد سّنة فموتها دون الغاية، وزوالها قبل نهاية الطريق أحسب يا أخي أن الذي لبس عليك الأمر لبساً، وملأ عليك العالم حزناً، وملأك على العالم سخطاً، أنك نظرت أول ما نظرت إلى دواوين الحكومة فرأيت جماعة من خفاف الأحلام صغار النفوس شالت كفتهم فارتفعوا، وآخرين من راجحي العقول كبار النفوس ثقلت موازينهم فنزلوا؛ فلما امتلأت نفسك أسفاً وأملك في الناس خيبة، نظرت إلى أنحاء الأمة ساخطاً متشائماً، فنفضت عليها هذا السواد، ونفثت عليها هذه الغضبة، واتهمتها بهذه التهمة إن دواوين الحكومة أقرب المواضع إلى ما زعمت، وأكثرها تعرضاً لما وصفت.
ذلك بأن الرزق فيها لا يُنال بالسعي والكد، والجهد والدأَب، والاحتكام إلى سنن الاجتماع وقوانين الطبيعة؛ ولكن الرزق فيها يُقسم بأيد قليلة، ويصرّف بآراء معدودة، فإذا فالت هذه الآراء، وطاشت هذه الأيدي، وقع الفساد، ثم شاع وعمّ حتى يبلغ أمده.
وكثيراً ما تفيل الآراء وتطيش الأيدي بأهواء السياسة ومنازع التحزب؛ على أن هذا مهما كثر لا يبلغ أن يكون قاعدة العمل وسّنة الجزاء ولا تنس يا أخي أن هذه الدواوين حديثة عهد بأيدي الأجانب ومن تربّى في عبوديتهم؛ وكانت سنة الأجنبي أن يرفع من استسلم إليه وتوكل عليه، ولا يكون هذا الاستسلام وذاك التوكل إلا احتقاراً للكرامة وازدراء بالخلق الفاضل؛ ونحن لا نزال في أول عهدنا بالاستقلال لم تهذبنا التجارب ولم تتمكن أيدينا من وضع القواعد الصالحة، وسن السنن القديمة، وإقامة الوزن بالقسط بين الناس أجمعين فإن رأيت جوراً في الدواوين وظلماً بين الموظفين فهي علة زائلة.
فلا تنشرها على الأمة كلها، ولا تمدها على الزمان جميعه.
واعلم أن الظفر للحق والخيبة للباطل، وأن النصر للفضيلة والهزيمة للرذيلة، وأنها الغمرات ثم ينجلين، والعاقبة للمتقين.
والسلام عليكم ورحمة الله عبد الوهاب عزام

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١