أرشيف المقالات

أثر الباطن في الظاهر

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2أثر الباطن في الظاهر
إذا كان الباطن هو المقدم، فإن آثاره تبدو واضحة على الظاهر سواء أكان ذلك في حالة الإيجاب أم في حالة السلب، وبتعبير آخر: سواء أكان ذلك في حالة الجمال أم في حالة القبح.   قال ابن القيم: «والجمال الباطن يزين الصورة الظاهرة وإن لم تك ذات جمال، فتكسو صاحبها من الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتست روحه من تلك الصفات، فإن المؤمن يعطى مهابة وحلاوة بحسب إيمانه، فمن رآه هابه، ومن خالطه أحبه، وهذا أمر مشهود بالعيان، فإنك ترى الرجل الصالح المحسن ذا الأخلاق الجميلة من أحلى الناس صورة وإن كان أسود أو غير جميل، ولا سيما إذا رزق حظاً من صلاة الليل، فإنها تنور الوجه وتحسنه»[1].   ثم يؤكد قوة أثر الباطن بقوله: «..
فحسن الباطن يعلو قبح الظاهر ويستره، وقبح الباطن يعلو جمال الظاهر ويستره»
[2].   وإذا كان ابن القيم قد وضح لنا الأثر في الجانب الإيجابي، فإن الغزالي يوضح لنا هذا الأثر في جانبه السلبي، وذلك عندما تحدث عن الكبر.   قال الغزالي: «الكبر خلق باطن، وأما ما يظهر من الأخلاق والأفعال فهي ثمرة ونتيجة..».   ثم يوضح ذلك فيقول: «اعلم أن التكبر يظهر في شمائل الرجل، كصعر في وجهه، ونظره شزراً، وإطراقة رأسه، وجلوسه متربعاً أو متكئاً، وفي أقواله حتى في صوته ونغمته وصيغته في الإيراد، ويظهر في مشيته وتبختره، وقيامه وجلوسه، وحركاته وسكناته، وفي تعاطيه لأفعاله، وفي سائر تقلباته في أحواله وأقواله وأعماله»[3].   ويتبين مما سبق أن أثر الباطن كبير، بحيث لا يستطيع الظاهر أن ينفك عنه، ولهذا اتجه النظام الخلقي الإسلامي إلى التعامل معه لأنه هو الأصل.   وإذا كان الأثر بهذا الحجم، فإن المسلم مدعو للتخلق بالأخلاق الفاضلة، والابتعاد عن الأخلاق السيئة، حتى يجمل باطنه فينعكس ذلك على ظاهره، وقد كان الإسلام دعاه إلى تجميل ظاهره - كما سبق - وبهذا تلتقي تعاليم الإسلام لتوصل الإنسان إلى الصورة الجميلة، حساً ومعنى.   وإذن، فعندما يجمل الباطن، فإنه يفيض من حسنه على الظاهر، وهذا أمر يحدث تلقائياً، يحس به كل الذين يتعاملون مع الإنسان، وكذلك عندما يقبح الباطن، فإنه يلقي بظلاله على الظاهر..
فيعطي تلك الصورة البشعة التي يستشعرها المتعاملون معه.   تلك هي الحقيقة الواقعة.   وهذا لا يعني، أبداً، أن نعطي لأنفسنا الحق في تفسير بعض المظاهر والحكم على الباطن الذي وراءها، فكثير من المظاهر يكون نتيجة لأكثر من حالة باطنة، فإلزام ظاهر ما، أن يكون ناتجاً عن باطن معين قد يكون فيه خطأ كبير.   والمثال الذي نوضح به ذلك: ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر.
فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس»
[4].   إن الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حسن الثوب والنعل، ما كان يظن إلا أن ذلك من الكبر، حتى بين له النبي الكريم هذا المعنى الدقيق.   فالكبر خلق باطن قد ينتج عنه عناية معينة باللباس، ولكن ليست العناية باللباس نتيجة حتمية لكبر.   ولا ينبغي لنا - أيضاً - أن نحول بعض المعاني القلبية إلى مظاهر حسية، فذلك خطأ كبير.
ربما أدخل صاحبه في باب الرياء.   فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يطأطئ رقبته، فقال: يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب[5].   وجاء في تفسير القرطبي: دخل أبو محمد - ابن أخي معروف الكرخي - على أبي الحسن بن يسار وعلى أبي محمد جبة صوف، فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد، صوفت قلبك أو جسمك؟ صوف قلبك والبس الفوهي على الفوهي.
«والفوهي: ضرب من الثياب»[6].   إن أعمال القلوب لا ينبغي أن تحول إلى عمل حسي، لأن ذلك يعني لفت النظر إلى العمل..
وهنا تدخل شبهة الرياء.   تلك جوانب كان لا بد من الإشارة إليها، حتى لا تختلط المعاني ويشتبه علينا الأمر.


[1] روضة المحبين لابن القيم ص 231 طبعة دار الكتاب العربي.
[2] المصدر السابق ص 232.
[3] إحياء علوم الدين 3/353 و 354. [4] رواه أبو داود ومسلم، والترمذي.
جامع الأصول 10/614.
[5] إحياء علوم الدين 3/ 296.
[6] في تفسير الآية 32 من سورة الأعراف 7/ 196.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢