أرشيف المقالات

رابطة الجوار بين الأدب والشرع

مدة قراءة المادة : 39 دقائق .
2رابطة الجوار بين الأدب والشرع
إن الأيام والليالي عِبرٌ تتوالى؛ لتربي الإنسان على الرشُد، وتلقِّنه دروس الحكمة والنضج.   ومن عبر الزمان ودروسه النافعة: أن أصدقاء الإنسان أيام نعمته: - أيام صحته وغناه وجاهه وقوته - كثير، وأن أصدقاء محنته قليل.   وأن الإنسان - مهما علت منزلته في الدنيا بالجاه أو المال أو القوة - محتاج إلى غيره، ولا يمكن أن يستغني بنفسه عن حاجته للآخرين، فالقريب محتاج إلى قريبه، والزميل إلى زميله، والصديق إلى صديقه، والجار إلى جاره، وإن حصل التفاوت بين هؤلاء في أعراض الدنيا وأسباب القوة فيها.   وهذه الحياة ميدان فسيح، تربط بين ساكنيه أواصر وروابط، وصلات ووشائج، فهناك رابطة القرابة، ورابطة النسب والمصاهرة، وهناك رابطة الصداقة والزمالة، وهناك رابطة الجوار، وغيرها من الوشائج والعلائق، وعلى هذه الروابط تقوم الأمم وبها تتكون الممالك والدول، ومتى ما قامت هذه الروابط على أساس من الدين، استمر بقاؤها وزاد نماؤها، وصارت تلك الأمة التي شِيد بنيانها عليها منيعةَ الجانب، عزيزة المكانة، مهيبة القدر.   اهتمام الإسلام برابطة الجوار: إن من بين تلك الروابط التي دعا الإسلام إلى الاعتناء بها، والوفاء بحقها: رابطة الجوار.
فقد اهتم الإسلام بها أيما اهتمام، وأولاها آداباً وحقوقاً تضمن لها الديمومة والبقاء، وجعل الله تعالى حق الجوار من الحقوق العشرة التي أمر بالإحسان فيها، فقال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ﴾ [النساء36].   قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله: ﴿ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ ﴾ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ﴿ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ﴾، يعني الذي بينك وبينه قرابة، ﴿ وَالْجَارِ الْجُنُبِ ﴾ الذي ليس بينك وبينه قرابة، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وميمون بن مهران والضحاك وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة، وقال أبو إسحاق عن نوف البكالي في قوله: والجار ذي القربى: يعني الجار المسلم، والجار الجنب يعني اليهودي و النصراني، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وقال جابر الجعفي عن الشعبي عن علي وابن مسعود: والجار ذي القربى يعني المرأة وقال مجاهد أيضاً في قوله: والجار الجنب يعني الرفيق في السفر" [1].   ومما يدل على اعتناء الإسلام بهذه الرابطة: أن جبريل عليه السلام- كان كثير الوصية لرسول الله بها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) [2].   قال ابن حجر رحمه الله: " أي: يأمر عن الله بتوريث الجار من جاره.
واختلف في المراد بهذا التوريث فقيل: يجعل له مشاركة في المال بفرض سهم معطاه مع الأقارب، وقيل: المراد أن ينزل منزلة من يرث بالبر والصلة، والأول أظهر؛ فإن الثاني استمر، والخبر مشعر بأن التوريث لم يقع.
ويؤيده ما أخرجه البخاري من حديث جابر نحو حديث الباب بلفظ " حتى ظننت أنه يجعل له ميراثا " وقال ابن أبي جمرة: الميراث على قسمين حسي ومعنوي، فالحسي هو المراد هنا، والمعنوي ميراث العلم، ويمكن أن يلحظ هنا أيضا فإن حق الجار على الجار أن يعلمه ما يحتاج إليه والله أعلم" [3].   تعظيم رابطة الجوار عند أهل الجاهلية: لقد كانت هذه الرابطة مفخرة إنسانية عربية قبل أن تكون مفخرة إسلامية؛ لأنها تنبع من التمسك بالأخلاق الكريمة التي كانت موجودة بين الناس في ذلك الوقت، ورسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) [4].
ولهذا كلما تلاشت الأخلاق الحسنة والقيم الحميدة في أي مجتمع ذهب أداء حق الجوار كما ينبغي.   و المتأمل بيننا -نحن المسلمين- في عصرنا المتحضر يجد ذوبان هذه الرابطة يوماً بعد يوم، خصوصاً في المجتمعات المدنية والأحياء الراقية، حيث صار الجار لا يعرف من يسكن بجواره، ولا يدري عن أحواله، وقد يجاور جاره سنين طويلة ثم يموت، وجاره القريب منه لا يعلم! ولا شك أن الأوضاع القروية أحسن بكثير مما عليه الحواضر والمدن.   "عن أبي حازم بن دينار أنه قال: كان أهل الجاهلية أبر بالجار منكم، وهذا قائلهم يقول ناري ونار الجار واحدة وإليه قبلي ينزل القدر ما ضر جاراً لي أجاوره ألا يكون لبابه ستر أعمى إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر[5]"   لقد كان العربي في الجاهلية يفتخر بإحسانه إلى جاره، ويعتز بثناء جاره عليه، خصوصاً إذا كان الجار ضعيفا.
فيصير بهذه الرابطة قوياً بعد الضعف، وعزيزاً بعد الذلة، وغنياً بعد القلة، قال السموأل بن عادياء: تعيِّرنا أنا قليلٌ عديدُنا فقلتُ لها إن الكرام قليل وما ضرّنا أنا قليل وجارنا عزيزٌ وجار الأكثرين ذليل لنا جبل يحتلّه من نُجيره مُنيف يردُّ الطرفَ وهو كليل[6]   ويتمدّحون بكف الأذى عن الجار حيث يقول هدبة بن الخشرم: ولا نخذل المولى ولا نرفع العصا عليه ولا نزجي إلى الجار عقربا[7]   وإذا أصاب الهوانُ جارَهم تألموا لذلك، وعدّوه فاقرة من الفواقر، قال لبيد: وإنّ هوانَ الجار للجار مؤلمٌ وفاقرة تأوي إليها الفواقر[8]   والعجير السلولي يرى أن جاره حينما يذهب عن أهله لا يشخص هو أمام داره، ودليل ذلك أن كلاب ذلك الجار تنبحه لو بدا؛ لكونها غير معتادة على مجيئه، ويتحدث عن صيانته لحرمة جاره بأن جارته تأمن مطالعته إن مرت بجانب بيته، ولا تخشى أن يداهمها وهي سافرة عن خفي زينتها، وهذه ليست أخلاقه وحده بل توارثها عن آبائه أيضًا.
يقول: يَبِين الجار حين يبين عني ولم تأنس إليَّ كلاب جاري وتظعن جارتي من جنب بيتي ولم تستر بستر من جدار وتأمن أن أطالع حين آتي عليها وهي واضعة الخمار كذلك عهد آبائي قديماً توارثه النّجَار عن النجار[9]   وأبو جعفر العدوي يبين عدم جدوى وضع جارته ستراً عن الأعين المرسلة؛ لأن جفونه صارت حجاباً لها أن يرفع إليها بصـره- مبالغة في غض البصر-؛ لأنها في الحرمة كأمّه يقول: شرا جارتي ستراً فضولٌ لأنني جعلت جفوني ما حييتُ لها سترا وما جارتي إلا كأمي وإنني لأحفظها سراً وأحفظها جهرا بعثت إليها إنعمي وتنعّمي فلست مُحلاً منك وجهاً ولا شعرا[10]

وأما حاتم فيتحدث عن حفاظه لحرم جيرانه بالدعاء على نفسه إن سولت له هتك ستور جارته، ويقسم أنه لن يفعل ذلك مدى الحياة، فيقول: إذا ما بتُّ أخْتلُ عرس جاري ليخفيني الظلام فلا خفيت أأفضح جارتي وأخون جاري فلا والله أفعل ما حييت[11]

ويقول أيضاً-مبيناً حفظه لجارته وإحسانه إليها عند غياب زوجها-: ولا تشتكيني جارتي غير أنها إذا غاب عنها بعلها لا أزورها سيبلغها خيري ويرجع بعلها إليها ولم تقصر عليها ستورها[12]   وهذا برذع بن عدي الأوسي يكشف عن سمو شرفه في صيانته زوجة جاره عن مكروه يجيئها منه فيقول: فلا وإلهي لا يقول مجاوري ألا إنه قد خانني اليوم برذع وأحفظ جاري أن أخاتل عِرسه ومولاي بالنكراء لا أتطلع[13]
الجار قبل الدار: إن مما ينفع الإنسان قبل سكنى الدار أن يختار الجار، فمن أعظم السعادة أن يوفق المسلم لجار صالح؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام:( من سعادة المرء: الجار الصالح، والمركب الهنيء، والمسكن الواسع) [14].   قال بعض العلماء: لقد اختارت زوجة فرعون المؤمنة آسية بنت مزاحم عليها السلام الجارَ قبل الدار، كما قوله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم11] [15].   قال الشاعر: يقولون قبل الدار جار موافق وقبل الطريق النهج أُنسُ رفيقِ[16]   وقال الآخر: اطلب لنفسك جيراناً توافقهم لا تصلح الدار حتى يصلح الجار[17]   إن من شقاء المرء أن يجاور جارَ سوء، والإنسان الصالح لا يضيق بشيء ذرعاً ضيقه بجار السوء الذي يسمع منه الخنا، ويلقى منه العناء، إن كلمه بالحسنى عاداه، وإن سكت على شره آذاه، عِيل صبُره، وضاق صدره، فاضطر إلى بيع داره، أو تحوّلَ عنه إلى سواه، خاصة في هذا الزمن الذي قلّت فيه المساكن وضاقت البيوت بمن فيها، فحين يرحل جار آذاه جاره، ويسأل عن سبب رحيله يقول: يلومنني أن بعتُ بالرخص منزلي وما علموا جاراً هناك ينغّص فقلت لهم كفوا الملامة إنها بجيرانها تغلو الديار وترخص[18]   أو يقول كما قال أبو الفتح الشدوني: إذا ما الحرُّ هانَ بأرض قوم فليس عليه في هرب جُناح وقد هُنَّا بأرضكمُ وصِرنا لقى في الأرض تذروه الرياح[19]   وإن أراد أن يصرّح يقول: تنكّرَ من كُنّا نُسَر بقُربه وعاد زعافاً بعد ما كان سَلسلا وحُق لجار لم يوافقه جاره ولا لاءمته الدار أن يتحولا[20].
  ولضرر الجار السيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة؛ فإن جار البادية يتحول)[21].   ومعناه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الجار السيئ الملازم في الوطن المستقَر فيه، بخلاف الجار المؤذي الذي يبقى زمناً ثم يذهب كصاحب البادية ونحوه.   كان عمر رضي الله عنه يقول: " ثلاث كلهن فواقر: صديق إن أسديت إليه عارفة لم يشكرها، وإن سمع كلمة لم يغفرها، وجار إن رأى حسنة أخفاها، وإن عثر على سيئة أفشاها، وامرأة إن أقمت عندها آذتك وإن غبت عنها خانتك"، وكان يقال: "من جهد البلاء جار سوء معك في دار مقامة يلبس لك من البغضاء لأمة، لا ينجع فيه عتب ولا يرعوي لملامة"، ومن دعاء الأعمش: " اللهم إني أعوذ بك من جار تراني عيناه، وترعاني أذناه، إن رأى خيراً دفنه وإن سمع شراً أعلنه"، وقال لقمان لابنه: يا بني، حملت الحجارة والحديد فلم أر شيئاً أثقل من جار سوء في دار مقامة[22].   فإذا ابتلي الإنسان بجار سوء يؤذيه فعليه أن لا يرد الإساءة بمثلها، بل يردها بالصبر والعفو، والإحسان وبذل المعروف.
يروى أن رجلاً جاء ابنَ مسعود رضي الله عنه فقال: "إن لي جاراً يؤذيني ويشتمني ويضيق علي، فقال: اذهب، فإن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه"[23].   حدود الجوار: إن الجوار الذي تعارف عليه الناس هو الجوار في المنزل الذي يعيش فيه الإنسان فحسب، وهذا مفهوم قاصر؛ فإن الجوار العام يشمل المجاور في الدار، أو في العمل أو المتجر أو المسجد أو الطريق، أو البلد،.
ويعتبر الجوار بين الدول مثل الجوار بين الأفراد حيث يطلب فيه الإحسان وعدم الاعتداء، وما قامت الحروب بين الدول المتجاورة إلا بسبب انتهاك حقوق الجوار.   حقوق الجار على جاره: إن للجار على جاره حقوقاً يجب الوفاء بها، وعدمُ التقصير فيها والتماطلِ في أدائها.
ويتفاوت الجيران في استحقاق هذه الحقوق زيادة ونقصاناً؛ لاختلاف الروابط والعلاقات الزائدة على هذه الرابطة.
فإن من الجيران من له حق، ومنهم من له حقان، ومنهم من له ثلاثة حقوق: فالأول: هو الجار الكافر، والثاني: هو الجار المسلم الذي ليس من الأقارب، والثالث: هو الجار المسلم القريب [24].   وهذه الحقوق -الآتي ذكرها- لا يرتبط أداؤها بصلاح الجار أو عدم صلاحه؛ بل تؤدى لجميع الجيران.
قال ابن حجر: "واسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبلدي والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب دارا والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد، وعكسه " [25].   إن حقوق الجوار كثيرة متعددة، قد تختلف باختلاف الزمان والمكان والبيئة، ولكنها تعود إلى أصول جامعة تنضوي تحتها، ومن تلك الأصول: 1- كف الأذى عن الجار بجميع صوره وأشكاله، سواء كان أذى قولياً أم أذى فعلياً، مباشراً أم غير مباشر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره) [26].   فمن الأذى: سلاطة اللسان بالسباب والشتائم والهمز واللمز، وهذا الأذى خطره على صاحبه كبير، فعن أبي هريرة رضي اللهعنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم: إن فلانة تصلي الليل و تصوم النهار، و في لسانها شيء يؤذي جيرانها؟ قال: (لا خير فيها، هي في النار).
و قيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة، و تصوم رمضان، و تتصدق بالأثوار-اللبن المجفف- و ليس لها شيء غيره، و لا تؤذي أحداً قال: (هي في الجنة) [27].   الله أكبر! إنه فرق شاسع بين المرأتين، وجزاء شديد لمن يؤذي الجيران بلسانه، وإنْ أكثر من العمل الصالح، وإنه جزاء عظيم في الخير لمن أحسن المعاملة ولم يؤذِ الخلق، وإن قل عمله.   ومن الأذى: التعدي على أرض الجار وحدود بيته والسطو على ممتلكاته، وهذه صورة مشاهدة عند بعض الجيران أورثت أحقاداً ومشكلات وصلت إلى آثار خطيرة.   ولو تأمل الجار المتعدي- وكان عنده إيمان- في عقوبة ذلك لانكف عن هذا الأذى، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طَوَّقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين) [28].   ومن الأذى: وضع القاذورات في طريقه ومضايقته فيها، وتسليط الزوجة أو الأولاد لإيذائه أو إيذاء أهل بيته، وإزعاجه بالأصوات المؤذية من أجهزة المسجل وغيرها.   ومن الأذى: هجره وقطعه، وحسده في نفسه أو زوجته وأولاده، أو في وسائل راحته، وسعة دنياه.   ومن الأذى: احتقاره والسخرية منه: بمأكله أو مشربه، أو ملبسه أو مسكنه، أو خَلقه أو خُلقه   قال حسان رضي الله عنه: فما أحدٌ منا بمهدٍ لجار أذاةً ولا مُزرٍ به وهو عائد لأنا نرى حقَ الجوار أمانة ويحفظه منا الكريم المعاهد[29]   ومن الأذى: كشف أسراره، والبحث عن عيوبه، والفرح بزلاته ومصائبه؛ فالجار أقرب الناس إلى جاره و أعرفهم بأخباره، فمن اللؤم والحرمة كشف خبره وهتك سره.   قال الحطيئة: لعمرك ما المجاور من كليب بِمُقصى في الجوار ولا مضاع همُ صُنعٌ لجارهمُ وليست يد الخرقاء مثلَ يد الصَّناع[30] ويحرم سرُّ جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع[31][32]   والجار الصالح لا يتتبع عثرات جاره، بل يسترها، ولا يفرح لهفواته، بل يحزن إن وصل علمه إليها، قال قيس بن عاصم المنقري: لا يفطنون لعيب جارهمُ وهمُ لحفظ جواره فُطُن[33]   إن إيذاء الجيران ذنب كبير يذهب من الإيمان جزء كبيراً، وإذا ذهب كمال الإيمان تعرّض صاحبه للعقوبات، وتخلى الله عن عونه ومعيته له.   قال النبي صلى الله عليه و سلم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن).
قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه )[34].
بل أعظم من ذلك أن الجار المؤذي متوَّعَد بعدم دخول الجنة، إذا استمر على إيذائه، أو استحل ذلك، ومات على هذه الحالة السيئة.   قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) [35].   والبوائق: الشرور. وإيذاء الجار ذنب مضاعف وملعون صاحبه، وهذا يوقف من في قلبه إيمان عن هذه المعصية العظيمة؛ فعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، قال: (اطرح متاعك على طريق)، فطرحه فجعل الناس يمرون عليه ويلعنونه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لقيت من الناس ما لقيت، قال: (وما لقيت منهم؟) قال: يلعنونني، قال: (قد لعنك الله قبل الناس) فقال: إني لا أعود، فجاء الذي شكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ارفع متاعك؛ فقد كفيت) [36].   وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الزنا؟ قالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فقال: (لأن يزني الرجل بِعَشْرِ نسوة أيسرُ عليه من أن يزني بامرأة جاره )، وسألهم عن السرقة؟ قالوا: حرام حرمها الله عز وجل ورسوله فقال: (لأن يسرق من عَشرَةِ أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره) [37].   2- حماية الجار من كل سوء يعرض له، والدفاع عنه، وحفظه في أهله وماله حال غيبته، والتضحية من أجله.   وهذا الحق-إن كان من حق المسلم على المسلم- فالجار من أحق الناس به، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) [38].   فمعنى (لا يسلمه) أي: لا يخذله، ولا يتركه لعدوه، بل ينصره وينجده.   وهذا الصنيع الشجاع يدل على شرف الجار المُعِين، وعلو همته ونجدته، وكرم شيمه وسمو أخلاقه.
وقد كان هذا الخلق النبيل فخراً وشرفاً يفتخر به العربي في الجاهلية والإسلام، كما قال عنترة: وإني لأحمي الجارَ من كل ذلةٍ وأفرح بالضيف المقيم وأبهَج[39]   وقالت الخنساء تمدح أخاها بحمايته جاره: وجارك محفوظ منيعٌ بنجوة من الضيم لا يؤذى ولا يتذلل[40]   وقالت أيضاً: يحامي عن الحيِّ يوم الحفا ظِ والجار والضيف والنُزَّل[41]   وقال الشاعر: أنتِ أختي وأنت حرمةُ جاري وحقيق عليَّ حفظُ الجوار إن للجار إن تغيّب غيبياً حافظاً للمَغيب والأسرار ما أبالي أكان للجار سترٌ مسبَل أم بقي بغير ستار[42]   وهذا الحق الكبير-عند ذوي النفوس العلية، والخصال الزكية- لا يسقط بالجفاء والأذية، والفعال غير الرضيِّة، بل يبقى يؤدى ولو حصل ذلك؛ فلعله سيكون سبباً لهداية ذلك الجار البعيد عن إحسان الجوار، وتغيير أسلوبه المعوج؛ فقد قيل: إنه كان لأبي حنيفة رحمه الله جار إسكاف بالكوفة يعمل نهاره أجمع فإذا جنه الليل، رجع إلى منزله بلحم وسمك فيطبخ اللحم ويشوي السمك فإذا دب فيه السكر أنشد: أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا = ليوم كريهةٍ وسِداد ثغر   ولا يزال يشرب ويردد البيت إلى أن يغلبه السكر وينام، وكان الإمام أبو حنيفة يصلي الليل كله، ويسمع حديثه وإنشاده ففقد صوته بعض الليالي فسأل عنه فقيل: أخذه العسس منذ ثلاثة أيام وهو محبوس، فصلى الإمام الفجر وركب بغلته ومشى واستأذن على الأمير فقال أئذنوا له وأقبلوا به راكبا حتى يطأ البساط، فلما دخل على الأمير أجلسه مكانه وقال: ما حاجة الإمام؟ فقال: لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ثلاثة أيام فتأمر بتخليته، فقال: نعم، وكل من أخذ تلك الليلة إلى يومنا هذا، ثم أمر بتخليته وتخليتهم أجمعين، فركب الإمام وتبعه جاره الإسكاف فلما وصل إلى داره قال له الإمام أبو حنيفة: أترانا أضعناك؟! قال: لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيراً عن صحبة الجوار ورعايته، ولله عليَّ أن لا أشرب بعدها خمرا، فتاب من يومه ولم يعد إلى ما كان عليه [43].   3- الإحسان إليه بقدر ما يستطاع من وجوه الإحسان القولية والفعلية.
فلا يكفي الجارَ أن يسلم من الأذى، وإنما يضاف إليه الإحسان وإيصال المعروف.   قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره) [44].   قال حاتم الطائي لزوجته: إذا كان لي شيئان يا أم مالك فإن لجاري منهما ما تخيّرا وفي واحد إن لم يكن غير واحد أراه له أهلاً إذا كان مُقتِرا[45]   ومن وجوه الإحسان إلى الجار: تهنئته عند فرحه، وتعزيته عند مصيبته، وعيادته عند مرضه، وبداءته بالسلام والبشاشة في وجهه، والإحسان إلى أهله وأولاده، وتفقد أحواله، وإرشاده إلى ما ينفعه في أمر دنياه و دينه, والإهداء إليه، وإعارته، أو إعطاؤه ما يحتاج إليه ونحو ذلك.   ومن أهم ما يحسن إليه: سد خلّته، وتفقد مطعمه ومشربه؛ لأن قوام الحياة بذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)[46].   وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه ذبحت له شاة في أهله فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) [47].   وينبغي النظر في مراتب الجيران وتقديم الأقرب فالأقرب، والأولى فالأولى في الإهداء وبذل المعروف. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: (إلى أقربهما منك بابا) [48].   ولا يحتقر أحد هديته لجاره مهما قلّتْ، فهي -وإن لم تكن تُسرُّ العيون، أو تشبع البطون، أو تناسب الأقدار- لكنها تقرِّب القلوب، وتذيب العداوات، وتعمّق الود، وتعمل على مد حبال التعاون والتواصل.   قال الشاعر: إن الهدية حلوةٌ كالسحْر تجتلب القلوبا تُدني البعيدَ من الهوى حتى تصيّره قريبا وتعيد مضطغن العدا وةِ بعد بغضته حبيبا تنفي السخيمة عن ذوي الش شحنا وتمتحق الذنوبا[49]   لقد ورد الوعيد الشديد في حق من يقصر في هذا الحق فقال النبي صلى الله عليه و سلم : (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع) [50].   وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به)[51].   وعن ابن عمر قال: لقد أتى علينا زمان وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول: يا رب، هذا أغلق بابه دوني فمنع معروفه) [52].
وهذا النص الشريف يحتم علينا مراجعة أنفسنا ها هنا في الدنيا قبل الآخرة في تقصيرنا في بذل المعروف الحسي والمعنوي للجار.   يقول حاتم الطائي لزوجته: إذا ما عملت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي أخاً طارقاً أو جار بيت فإنني أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي وكيف يَسيغ المرء زاداً وجاره خفيف المِعى بادي الخصاصة والَجهد   4- احتمال أذاه، والصفح عن هفواته، والعفو عن عثراته، واحتمال سوء تصرفاته. وهذا أدب عظيم يكشف عن حسن المعدن، وكرم المنبت، وشرف الخلق، ونبل الصفات.   وهذا الحق كثيراً ما قصّر فيه الجيران، وضاقت بعض النفوس عن استيعابه، وعدّته العادات شيئاً غريباً.
فكم من مشكلات حدثت، وروابط انفصمت، ومحبة تحولت إلى بغضاء، ووصل تبدل إلى جفاء، وإحسان تحول إلى إساءة، وسبب ذلك: ضعف مراعاة هذا الأدب.   فهذا الحق يحتاج إلى انتصار على النفوس، ونجاح في هضم الحمية المقيتة، وكبح لجماح الغضب والطيش، وهذا صعب على كثير من النفوس، خصوصاً من لها مكانة بين الجيران، أو جاءها الأذى ممن هو أدنى منزلة منها؛ ولهذا فإن هذا الحق أصعب هذه الحقوق على النفس؛ فبذل المعروف قد يكون شيمة يطبع عليها الإنسان، بخلاف الصبر على أذى الآخرين.   فالجار الصالح حقيقة إنما يبتلى بهذا الحق ويُعرف به.   قال الحسن البصري: "ليس حسن الجوار كف الأذى، حسن الجوار الصبر على أذى الجار"[54].   وقال أحد الناس يمدح بعض جيرانه الصالحين: يا سائلي عن حسينٍ وقد مضى أشكالهْ أقلّ ما في حسين كفُّ الأذى واحتماله [55]   رحيل الجار الصالح وأثره على جاره: إن الجار الصالح حين يسمع برحيل جاره الصالح يحزنه ذلك أشد الحزن، ويعد رحيله من جواره مصيبة من المصائب، كأنما رحل واحد من أهل بيته.   قال التلمساني: " وحكى غير واحد منهم ابن داود البلوي أن القاضي أبا البركات لما عزم على الرحلة إلى المشرق كتب إليه ابن خاتمة: أشمسَ الغرب حقاً ما سمعنا بأنك قد سئمت من الإقامه؟ وأنك قد عزمت على طلوع إلى شرقٍ سموت به علامه لقد زلزلتَ منّا كل قلب بحق الله لا تُقم القيامه   قال الحاكي: فحلف أبو البركات أن لا يرحل من إقليم فيه من يقول مثل هذا"[56].   بهذه المشاعر الفياضة والحب الصادق يشبِّه رحيلَ جاره المغربي إلى المشرق بحصول علامة من علامات قيام الساعة وهي: طلوع الشمس من مغربها، كما أخبر سول الله صلى الله عليه وسلم.   وأراد جار لأبي حمزة السكري رحمه الله أن يبيع داره، فقيل له: بكم؟ قال بألفين ثمن الدار، وبألفين جوار أبي حمزة، فبلغ ذلك أبا حمزة، فوجه إليه بأربعة آلاف، وقال: لا تبع دارك [57].   وباع أبو الجهم العدوي داره بمائة ألف دينار، ثم قال للمشترين: بكم تشترون جوار سعيد بن العاص(الصحابي رضي الله عنه)؟.
فقالوا: وهل يشترى جوار قط؟ قال: ردوا عليَّ داري، وخذوا دراهمكم، والله لا أدع جوار رجل: إن فقدتُ سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألتُه أعطاني، وإن لم أسأله ابتدأني، وإن نابتني جائحة فرّج عني.
فبلغ ذلك سعيداً فبعثه إليه بمائة ألف درهم "[58].


[1] تفسير ابن كثير (1/ 611). [2] متفق عليه. [3] فتح الباري (17/ 154). [4] رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وهو صحيح. [5] الاستذكار (8/ 367). [6] الحماسة البصرية (ص: 19). [7] منتهى الطلب من أشعار العرب (ص: 371). [8] الحلل في شرح أبيات الجمل (ص: 53). [9] الأغاني (13/ 81). [10] المنتقى من مكارم الأخلاق (60). [11]البداية والنهاية (3-4/613). [12] المصدر السابق (3-4/612). [13]الأغاني (16/251). [14] رواه أحمد وابن حبان، وهو صحيح. [15] تفسير ابن كثير (8/ 172). [16] زهر الأكم في الأمثال و الحكم (ص: 169). [17] بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 61). [18] بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 61). [19] المصدر السابق (ص: 49). [20] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (4/ 30). [21]ر واه النسائي وابن حبان، وإسناده حسن. [22] غرر الخصائص الواضحة (ص: 262). [23] إحياء علوم الدين (2/ 212). [24] نزهة المجالس ومنتخب النفائس (2/ 250). [25] فتح الباري لابن حجر (17/ 154). [26] رواه البخاري. [27] رواه أحمد وابن حبان والحاكم، وهو صحيح. [28] متفق عليه. [29] ديوان حسان بن ثابت (ص: 58). [30] المرأة الخرقاء: ضد الصناع، والخرقاء: التي لا تحسن شيئاً، فهي تفسد ما عرضت له.
جمهرة اللغة (1/ 309)، الكامل في اللغة و الأدب (3/ 27). [31] أنف القصاع: أول الطعام الذي لم يؤكل منه شيء.
غريب الحديث للخطابي (2/ 394). [32] بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 61). [33] ديوان الحماسة (2/ 263). [34] متفق عليه. [35] رواه مسلم. [36] رواه الطبراني والبزار، وهو حسن. [37] رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني في الكبير، وهو صحيح. [38] متفق عليه. [39] ديوان عنترة بن شداد . [40] ديوان الخنساء (ص: 90). [41] المصدر السابق (ص: 99). [42] بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 61). [43] طيب المذاق من ثمرات الأوراق (ص: 36). [44] رواه مسلم. [45] الأغاني (11/ 349). [46] رواه مسلم. [47] رواه أبو داود والترمذي ، وهو صحيح. [48] رواه البخاري. [49] روضة العقلاء (ص: 243). [50] رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وهو صحيح. [51] رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن. [52] رواه البخاري في الأدب المفرد، وهو حسن. [53] زهر الأكم في الأمثال و الحكم (ص: 196). [54] نزهة المجالس ومنتخب النفائس (2/ 250). [55] بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 61). [56] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (5/ 482). [57] نزهة الفضلاء(1/ 595). [58] صنائع المعروف (ص: 17).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن