أرشيف المقالات

النقد الهدام وأثره على الفرد والمجتمع

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2النقد الهدام وأثره على الفرد والمجتمع   إن الخطأ طبيعة بشرية، وفطرة إنسانية، لا ينكره على بني آدم إلا مَن لا عقل له أو أدنى معرفة بطبائع الإنسان.   يدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطَّاءٌ، وخير الخطائين التوابون))؛ [رواه الترمذي].   ولكن ليس كل خطأ يقابل بعقوبة أو بنقد لاذع، إلا إذا كان تعديًا على شرع الله عز وجل، ويجب وضع هذا جيدًا في الاعتبار عند تناول الأفراد بالنقد والتجريح.   والنقد الهدام الذي هو العيب والسلب، والتعدي على أعراض الناس بالسخريَّة أو القذف أو اللعن، وفيه إظهار عيب الآخرين للنيل منهم، وتشويه سمعتهم، والطعن في نياتهم من غير حجة ولا برهان - مذموم ومنهيٌّ عنه في ديننا.   فهؤلاء النقاد لا يذكرون فضائل أحد ولا حسناته، بل كل همهم جمع المثالب وحشد المعايب.   وقد كثر دعاة هذا النوع من النقد في هذه الأيام للأسف، حتى صار مَن لا يحسن الكتابة - بل لا يجيد الإملاء - يطعن في كرام العلماء، وينتقد الكتَّاب والأدباء، ويحمل على المصلحين والشرفاء.   وتتبُّع العثرات سمة بارزة من سمات هذا النقد الهجومي الهدام؛ حيث يقصد صاحبه تتبع هفوات الداعية أو العالم، في حين يغض الطرف عن فضائله الكثيرة، ومآسره الجليلة، متناسيًا ومتجاهلاً محاسنه من أجل زلة وقع فيها، فلا إنصاف عنده بالمرة، قال الشعبي: "لو أصبتُ تسعًا وتسعين، وأخطأت واحدة، لأخذوا الواحدة، وتركوا التسع والتسعين"؛ [حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم].   أما درى هؤلاء أنهم بنقدهم الهدام للدعاة والعلماء يهدمون صروح الأمة، ويقوِّضون أركانها، حين يزعزعون ثقة الناس بعلمائهم، فينصرفون عن الخير الذي يحملون، ويفتحون الطريق للجهال يقولون بغير علم فيَضِلون ويُضِلون؟!   وأنهم بنقدهم الهدام للصالحين وأهل الخير يشيعون سوء الظن والريبة بين الناس، فيفقد الناس قدوتهم حين يفقد المصلحون كرامتهم؟!   وهم بهذا أيضًا يُشيعون الفاحشة في المجتمع المسلم، حين يهتكون ستر الناس، ويهونون أمر هذه المحرمات نتيجة كثرة ذكرها.   وما نهى الله عز وجل عن إشاعة قَالةِ السوء إلا حفاظًا على طهارة المجتمع أن تمس، وشرفه أن يدنس، فلا نريد سبًّا وقذفًا يتبعه انحلالٌ جماعي وفوضى أخلاقية، وتنعدِم على إثره الثقة بين أفراد المجتمع الواحد، فلا يكون بعدها سوى التشتُّت والتفرق والتشرذم، وتقسيم الناس إلى شيعٍ وأحزاب، كل حزب بما لديهم فرحون. أرى ألفَ بانٍ لا يقوم لهادم فكيف ببانٍ خلفهُ ألفُ هادم؟! [شعر محمد بن أحمد الرقي].   نسي هؤلاء المتطاولون أن ديننا أمر بإقالة العثرات، ونهى عن تتبع الزلات والثغرات؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، إلا الحدود))؛ [رواه أبو داود]، فمن الدِّين ومن المروءة جبرُ نقص ذوي الهيئات، وعدم تصيُّد أخطائهم؛ إذ لا معصوم سوى الأنبياء.   ليت شعري من يخبر هؤلاء وأمثالهم أن الطعن في النيات والمقاصد ليس مِن اختصاصنا نحن البشر، وما أوكل الله عز وجل إلينا فِعلَه يومًا؛ فالله عز وجل وحده أعلم بالنيات والسرائر، وطوايا النفوس وخبايا الضمائر؛ فالواجب علينا إحسان الظن بالناس، وتقديمه دائمًا حتى يثبت العكس بدليل قاطع، وحجة دامغة.   إن النقد الهدام الذي لا يكون إلا لدفع الحق، والجدال بالباطل - مذمومٌ ومنهيٌّ عنه، لا يرضاه الله لعباده أبدًا؛ إذ هو نوع من الظلم، والله عز وجل لا يهدي القوم الظالمين.   وفيه انتهاك صريح لحقوق الإنسان، وإخلال بمبدأ تكريمه؛ إذ كيف تحفظ الكرامة مع رمي الناس بعضهم بعضًا بالمعايب والقبائح؛ متسترين وراء إصلاح الخطأ تارة، والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة أخرى، بينما وِجهتهم بعيدةٌ كل البعد عن هذا المبدأ النبيل، والمطلب الجليل؟ فأهدافهم الخبيثة واضحة للعِيان، ظاهرة لكل إنسان، وهي الطعن والازدراء، والسخريَّة والاستهزاء، وإشاعة الفُحش والسوء.   والنقد الهدام داخلٌ في الغِيبة، التي هي ذِكر الشخص بما يكره، وهي من كبائر الذنوب، وداخل في أذى المسلم على العموم، وهو لا شك حرام مذموم.   إن تحقيق العدل والإنصاف في المجتمع لا يتأتى إلا بالنقد البنَّاء الناصح المخلص، لا بمطلق التشهير، والسب والتحقير، والانتقاص والتعيير.   فالنقد الهدام من اسمه يهدِم ولا يبني، يكتفي دعاته بذكر السلبيات، متجاهلين الفضائل والحسنات، ويشغَلون أنفسَهم عن النافع المفيد بتتبُّع العَوْرات، وتصيُّد السقطات، وترويج الأكاذيب والشائعات، والوقوع في أعراض الناس، وكيل الاتهامات، وزرع الشحناء، وتوليد العدَاوات، مما يفرِّق وَحدة المسلمين، ويمزق صفهم وهم أحوج ما يكونون إلى الوحدة ولمِّ الشتات؛ فهم كالذباب لا يقع إلا على قبائح الأشياء، وهم عونٌ للشيطان على إخوانهم المسلمين، وهم خُدَّام للمغرضين والعَلْمانيين، الذين همهم سبُّ الدعاة، والتنقيص من شأنهم؛ ليحقرهم الناس، ويرفضوا ما أتوا به.   قد اقتصرت كل مهارتهم على الهدم، وجهودهم على تشويه صور الناجحين، لا يسعَوْن إلا في تثبيط الهمم العالية، يشنُّون على الناجح حربًا لا هوادةَ فيها، بالنقد الهدام، وتأليب الآخرين عليه، أو تلفيق الأكاذيب له، وترويج الشائعات حوله، وما ذاك إلا لعجزِهم عن اللحاق بركب المفلحين؛ فتشويه سمعة الناجحين سِمَةُ العاجزين.   بئس ما قالوا وصنعوا، ضلَّ مسعاهم، وخاب مبتغاهم، وصدق فيهم قول الحق سبحانه: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103، 104].   إن النقد الهدَّام لا يتأتى إلا مِن أولئك الذين لا يقبلون الرأي الآخر، كِبْرًا أو حسدًا، وربما جهلاً.   يحاولون فرض آرائهم على الجميع؛ فرأيهم دائمًا صواب - في اعتقادهم - لا يحتمل أدنى خطأ، يتعصبون لآرائهم، وينتقمون لأنفسهم، ويتبعون أهواءهم.   فالنقد المبنيُّ على اتباع الهوى مرفوض، حتى لو كان الناقد من العلماء الأجلاء، والصالحين الأتقياء؛ فقد أسقط العلماء كلام الأقران في بعضهم البعض متى لاح أنه مبنيٌّ على الهوى؛ قال الذهبي رحمه الله: "كلام الأقران يُطوَى ولا يروى، فإن ذكر تأمَّله المحدث، فإن وجد له متابعًا، وإلا أعرض عنه"؛ [سير أعلام النبلاء].   فهذا النقد يحوِّل الحوار البنَّاء إلى ساحة لتبادل الاتهامات والسِّباب والقذف، دون أدنى مراعاة لمشاعر المتحاورين، ولا لعقول المتلقين.   وربما كان منبعُه الغضبَ والكراهية من آحاد الناس، بل أحيانًا من بعض العلماء، بسبب مخالفته له في الرأي، أو لسبب شخصي، فيندفع في انتقاداته صابًّا جام غضبِه عليه، غيرَ متثبت ولا متبين، قد أعماه الغضب وقاده الهوى، فلا موضوعية في انتقاده، يفتقد كلامه كل منطق، اللهم إلا منطق المزايدة على الآخرين بدافع الحقد والرغبة في التشفِّي.   وربما كان الباعث على هذا النقد حبَّ المعارضة والمخالفة؛ عملاً بالمثَل السائر: "خالِفْ تُعرَفْ"؛ فهو مولع بالخلاف أبدًا، لا ينصر حقًّا، ولا يوافق أحدًا.   وربما كان الحامل عليه التقليد والتعصب، الذي سبق المشركون قديمًا إليه بقولهم: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23].   أو العناد والمكابرة والمغالطة، ورد الحق، وعدم الإنصاف، وربما النفاق وكُرْه الحق، أو الحسد وسوء الظن.   استطال هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم: "نقاد" على أعراض المسلمين؛ متجاهلين قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن مِن الكبائر استطالةَ المرء في عِرْضِ رجلٍ مسلم بغير حق، ومن الكبائر السَّبَّتان بالسَّبَّة))؛ [رواه أبو داود].   بل بلغ بهم الأمر أن يعتدوا على العلماء الذين هم سُرُجُ العباد، ومنار البلاد؛ متناسين الإنصاف، وأنه لا أحد مبرَّأ مِن العيب والخطأ؛ قال ابن القيم - رحمه الله -: "فلو كان كلُّ مَن أخطأ أو غلِط تُرِك جملة، وأُهدِرت محاسنه - لفسَدتِ العلوم والصناعات والحكم، وتعطلت معالمها"؛ [مدارج السالكين].   إن علاج هذا النقد الهدَّام أن ينتهي صاحبُه عنه فورًا، ويتوب إلى الله عز وجل منه، فيا من وجَّه الانتقادات السلبية إلى الناس ظلمًا بغير حق، وسعى إلى تقويض ما بنَوْا، وهدم ما شادُوا، تذكَّر حساب الآخرة، وأنك تحبُّ أن تُذكَرَ حسناتُك، وتُستَرَ سيئاتك، فلربما أنصفت يومًا.   ويا أيها الذي سطرت مشاعرك، وبنيت أحلامك وآراءك، وسعَيْت لتحقيق آمالك، لا يوقفِنَّك أمثالُ هؤلاء، ولا يُوهِنَنَّ مِن عزمك تثبيطُهم وحقدهم، ولا يعطِّلَنَّ مسيرةَ نجاحك نقدُهم وهجومُهم.   ثِقْ بربك، وسِرْ على دربك، واتركهم ينعِقون خلفك، متمثلاً قول الشاعر: وأمتطي لمراقي المجد مركبتي لا حقد يوهن مِن سعيي ومن عملي مبرَّأ القلب من حقدٍ يبطِّئني إن الحقود لفي بؤسٍ وفي خَطَل [غير منسوب، موسوعة الأخلاق الإسلامية، الدرر السنية].   والحمد لله أولاً وآخرًا.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣